الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الجيش المصرى خير أجناد الأرض. وهذه شهادتى.. «1-2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تخرجت فى جامعة الأزهر فى شهر مايو عام ١٩٩٨، والتحقت بالجيش فى شهر أكتوبر من نفس العام لأداء الواجب الوطنى، أو واجب الخدمة العسكرية «هكذا نطلق عليه فى قريتنا، إحدى قرى محافظة البحيرة»، وهذا المسمى له مدلول عظيم فى عرف أهل البلد.
اللى يدخل الجيش راجل!! فضلًا عن أنه يخدم وطنه هو كذلك فى مكنون النموذج المعرفى لثقافتنا الشعبية أصبح فردًا صالحًا يُعتمد عليه، حتى أن شباب جيلنا كانوا يتفاخرون بأداء الخدمة العسكرية ومنحهم الشهادة بقدوة حسنة، وهذا يعنى أنه صاحب همة وبطولة وجلد وصبر وتحقيق الأهداف العظيمة بقليل من الإمكانيات، وكان يشتهر على ألسنتهم مقولة (الجيش بيقولك اتصرف)، وعندما يَرَوْن شابًا قليل الحيلة ليس له جلد فى العمل والجد يقولون عنه: (هو لم يدخل الجيش)، وكان الآباء فى هذه الحالة يحرصون على تسليم أولادهم للجيش لأداء الخدمة العسكرية اعتقادًا منهم أن الشاب سيخرج أكثر رجولة واعتمادًا على النفس.
فالخدمة العسكرية للشباب المصرى تعنى الكثير فى مفاهيمنا الشعبية، تعنى الرجولة، وتعنى البطولة، وتعنى إعادة التأهيل للشاب ليكون ناجحًا فى حياته العملية، وتعنى الولاء والانتماء للجيش الذى يشعر المصريون نحوه بالأمان والفخر والقوة الضاربة للعدو منذ زمن الملك مينا موحد القطرين وحتى الآن.
التحقت بمعسكر تدريبى لمدة ثلاثة وثلاثين يومًا متواصلة، وكانت هذه الأيام المعدودة نقطة فارقةً فى حياتى!!
حيث كانت حياتى قبلها يغلب عليها الرفاهية إلى حدٍ ما، كان أقصى إرهاقٍ وتعب من المذاكرة والقراءة والتدريس!!
لأول مرة أعيش حياة الانضباط بالدقيقة والثانية!!
الاستيقاظ بموعد محدد، التدريب بموعد محدد بالثانية، وكذلك الطعام والنوم.. الخ.
لأول مرة أنال شرف التدريب الشاق الذى أكسبنى خلقًا عظيمًا وهو كيف أصبر على المشقة فى الوقت المناسب؟ وكيف أقاوم ما أُحِب من رغباتى أيضًا فى الوقت المناسب؟
إنه الانضباط الذى هو سر النجاح وسر الكفاح وسر التقدم وسر الحضارة يا سادة!
لم أتعلَّمه إلا وأنا جندى مقاتل فى الجيش.
لأول مرة أسمع قادتى أثناء تدريبى أنا وزملائى يلقنوننا عقيدة الجيش المغروسة فى كيان ومشاعر كل من ينتمى إلى هذه المؤسسة العريقة.
الإيمان، النصر أو الشهادة دفاعًا عن حدود مصر العظيمة.
وأن الموت فى سبيل الله دفاعًا عن الوطن لتحيا مصر هو هدف كل بطل يحمل السلاح.
تعلمت أن الجندية نوعان: يدٌ تبنى ويدٌ تحمل السلاح.
تعلمت أن الموت أهون بكثير من خيانة مصرنا العظيمة أو الغدر بها.
تعلمت من قادتى من هم الأعداء؟ ولماذا؟ وتذكرت موقفًا مؤثرًا فى نفسى حتى الآن وأنا فى السادسة من عمري، حيث كنت فى بيت من بيوت أقاربى ولمحت صورة على الحائط لشاب يلبس زيه العسكرى وعلى الصورة شريطٌ أسود، فسألت أمي: صورة مين دى؟ وليه حاطين شريط أسود عليها؟ قالت لي: إنه فلان (من أبناء عمومتي) استشهد فى حرب ٦٧.
سألتها: ومن قتله؟ قالت: إسرائيل. وكان ذلك مدخلًا لى وأنا صغيرٌ لأفكر من هى إسرائيل؟ ولماذا قتلت ابن عمى وغيره من خيرة شباب مصر؟ ولماذا تحاربنا؟ وماذا تريد؟
بالطبع جاوبت على كل هذه الأسئلة عندما استوى وعيى وأصبحت طالبًا فى الأزهر الشريف.
لأول مرة فى المعسكر التدريبى أحمل السلاح وأخرج فى طابور (ضرب النار)، وكنت ساعتها أشعر بشعور كبير جدًا فى داخلي، شعور فيه عزة، وفيه الجد، وفيه الفخر بجيشنا وببلدنا، وفيه الفرح الشديد إننى قد تجاوزت الثالثة والعشرين من عمرى وأصبحت جنديًا امتدادًا لأبطال الجيش عبر تاريخه، وفيه رغبة فائرة لو قامت حربٌ سأكون فى الصفوف الأولى وأسجل بطولة تتفاخر بلدى بها!
كنت ملتزمًا جدا بأوامر قادتى الصارمة والشديدة، ولَم أشعر يومًا بالإهانة أو الذل النفسى!!، بالعكس، كنت أشعر بالعزة كفرد مقاتل يعرف تمامًا الفرق بين التدريب الشاق الصانع للأبطال، وبين الإهانة الكاسرة للإرادة!!
وكانوا يقولون لنا: العرق فى التدريب يوفر الدم فى المعركة، وعرق التدريب لم ولن يكون ذلًا وامتهانًا للجندى فى الجيش المصري، بل هو بناء إرادة من الفولاذ عند المقاتل المصرى استطاع أن يقهر بها أعداءه عبر التاريخ.
بعد فترة تدريبى انتقلت إلى بعض الوحدات العسكرية الساحلية، قضيت فيها بقية فترة الخدمة العسكرية، كنت أستمتع بالخدمة بسلاحى على البحر ليلًا، وفى هذه الفترة تكوّن حسى الدينى ومشاعر الولاء لله ولبلدي. وأنا أستحضر قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « عينان لا تمسهما النار عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس فى سبيل الله».
كثيرًا ما كنت أنظر إلى السماء باكيًا مناجيًا ربي، حيث الأجواء وقتها كانت تجلب لقلبى الخشوع، ولمشاعرى الصفاء، ولعقلى التفكر، ولنفسى الإرادة.