الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عشرون عامًا قلبت موازين العـالم "7"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتابع المفكر السياسى الفرنسى البارز تييرى دو مونبريال، مدير المركز الفرنسى للتحليلات والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية، فى كتابه الضخم بعنوان «عشرون عامًا قلبت موازين العالم» التحولات العالمية الضخمة التى شهدها العالم خلال الفترة من ١٩٨٩ إلى ٢٠٠٨. 
يقول تييرى دو مونبريال: فى التاسع عشر من أغسطس عام ١٩٩١، شهد العالم تراجعًا كبيرًا فى موسكو. لن ننسى أبدًا المشهد الحزين للفريق الذى نظم الانقلاب العسكرى وهم يصطفون حول «جينادى ياناييف» بوجهه الشاحب. هذا المشهد يذكرنا بالصور الكئيبة للمكتب السياسى للحزب الشيوعى فى عهده الماضي. هل كان حقًا انقلابا أم كانت أيامًا من الخديعة الكبرى؟. 
لقد حانت الآن اللحظة لدخول أرشيف الأحداث لقادة الانقلاب، كان فى نيتهم القيام بهذا النوع من الانقلابات القانونية التى عج بها تاريخ الحزب الشيوعى للاتحاد السوفيتي. 
إلا أن جورباتشوف الذى اتهم بالضعف لأنه لم يتحرك له ساكنًا أمام هذا الكم من التحذيرات التى تلقاها، قد رفض الدخول فى هذا التنظيم. ومن جانبهم، افتقد المتآمرون الحسم فى اتخاذ القرارات، فقد أداروا العملية بطريقة سيئة، ولذلك انهارت برمتها عندما اتضح جليًا أن السبيل الوحيد لإنجاحها هو إطلاق النار على الجماهير فى موسكو وليننجراد، ولأنهم لم يتفقوا على قرار فى الواقع منذ البداية، فقد كانت فرصتهم من النجاح ضئيلة، فى الوقت الذى كانت فيه الاتصالات بين موسكو والبيت الأبيض متواصلة ولم تنقطع على الإطلاق.. وهكذا استطاع بوريس يلتسن، فى النهاية فرض نفسه باعتباره المنتصر الحقيقى للشيوعية الذى لم يرغب، ألم يجرؤ جورباتشوف على الاختلاف معه على الإطلاق؟ فبظهوره واقفًا على دبابته رافعًا، علم بلاده ذى الألوان الثلاثة: الأحمر والأزرق والأبيض، طوى يلتسن أمام الأنظار صفحة العقود السبعة الماضية للبلشفية. 
لقد كان قادة الانقلاب يريدون إنقاذ الاتحاد السوفيتى والحزب الشيوعي، فهم لم يكونوا معارضين لا للإصلاح ولا لتحسين العلاقات بين الشرق والغرب الذى بدأه جورباتشوف، بيد أنهم كانوا يدعون بأنه إذا لم يتم وضع حد لهذا الخراب، فسوف يتفكك الاتحاد السوفيتى وسوف يجلب هذا الانهيار معه البؤس والشقاء للشعوب، وبعد ذلك بعام، أعرب قطاع من الشعب الروسى الذى شعر بالمهانة جراء ضياع الإمبراطورية الروسية والمعاناة نتيجة للانهيار الاقتصادى، بأن هؤلاء القادة كانوا على حق، فعادوا بالتاريخ للوراء بشكل مذهل، وأطلقوا على هؤلاء القادة لقب «ثوار ديسمبر» فى إشارة إلى هذه المجموعة من الأرستقراطيين والضباط الروس الذين التقى بهم «بوشيكن» فى عام ١٨٢٥، وحاول معهم القيام بانقلاب على الحكم المطلق. 
إن فشل هذا الانقلاب الذى قاده «جينادى باناييف»، على نحو يرثى له، قد عجل من انهيار ونهاية الاتحاد السوفيتي، لقد تمكن يلتسن بتوجيه هذه الضربة القاضية إلى الاتحاد السوفيتي، من القضاء على غريمه جورباتشوف الذى كان عليه تقديم استقالته فى الخامس والعشرين من ديسمبر، لقد كان زعيم الكرملين الجديد يأمل بالطبع عن طريق إنشاء «اتحاد الدول المستقلة» فى تأكيد وضع الدولة الروسية، وأنها دائمًا الأولى بين أترابها. وسارع المجتمع الدولي، الحريص على احتواء القلاقل، بالاعتراف بروسيا على أنها خليفة الاتحاد السوفيتي.
وفى الواقع، تسيطر روسيا بمساحتها التى تبلغ ١٧ مليون كم٢ (المساحة الكلية للاتحاد السوفيتى تبلغ ٢٢ مليون كم٢) وسكانها البالغ عددهم ١٤٨ مليون نسمة (أى ما يعادل نصف سكان الاتحاد السوفيتى) وبمواردها الطبيعية الهائلة (فهى تمتلك على سبيل المثال ٨٠٪ من بترول الاتحاد السوفيتي) على جميع الجمهوريات الأخرى بما تمتلكه من قدرات كامنة. الجمهورية الوحيدة التى بمقدورها منافستها فى هذه المكانة هى أوكرانيا بمساحتها التى تبلغ ٦٠٠٠٠ كم٢ وبعدد سكانها الذى يبلغ ٥١ مليون نسمة وبمواردها الزراعية الكبيرة. 
ومنذ الثامن من ديسمبر، لم تتوقف أوكرانيا عن تحدى الكرملين، فقد قررت إنشاء عملة جديدة خاصة بها، وجيش خاص بها، فهى تنوى امتلاك الأسطول البحرى للبحر الأسود. 
إن روسيا التى انتزعت منها إمبراطوريتها وغزتها أعراقها المختلفة، وأنهكها ارتفاع معدل التضخم الذى ربما تخطى نسبة ٢٠٠٠٪ فى إجمالى عام ١٩٩٢، هذا فضلًا عن انهيار الإنتاج، وارتفاع معدلات البطالة، تعانى من إحدى التجارب المريرة التى اعتادت مواجهتها، للأسف، على مر التاريخ. 
لم يكن قرار تحرير الأسعار الذى اتخذه بوريس يلتسن، ليقدر له النجاح، بسبب الهياكل الاقتصادية التى تسيطر عليها السلطة السياسية السوفيتية وحدها، فهذا الخطأ ما كان ليرتكب إلا بسبب جمود ذهني. إن ما يفسر التأثير المفرط لأصحاب المذاهب الليبرالية الأصولية من الأمريكيين، هو ردود الأفعال الطبيعية المتمثلة فى الرفض للاقتصاد الماركسي.
إلا أن أى شخص ينظر للأمور بواقعية، يجب أن يلاحظ أن ما يسود فى أوروبا الغربية منذ الحرب العالمية، بدءًا من النموذج الألمانى الشائع عالميًا، هو الاقتصاد المختلط، وترتكز آلية تحديد الأسعار فى هذا النوع من الاقتصاد، كى تعمل بشكل جيد، إلى وجود مؤسسات وسلوكيات، لا نظير لها. 
ويثبت التاريخ الاقتصادى أن ظاهرة ارتفاع معدلات التضخم تبدأ فى الظهور دائمًا عندما تفقد الدولة سيطرتها على الأجهزة الحكومية، والقدرة على وضع خطط لتحقيق التوازن فى الإنفاق، ولهذا فهى لا تمتلك سوى تشغيل ماكينة طبع أوراق النقد، كما أن ما ينتج عن ذلك من توقعات للقائمين على الاقتصاد يقلل من سرعة هذه الظاهرة، تمامًا مثل سلسلة التفاعلات التى تنتج عن المفاعل النووي. 
وكقاعدة عامة، لا يمكن وقف هذه الحلقة اللعينة لارتفاع معدلات التضخم إلا بإعادة إقرار سلطة الدولة والسيطرة على طباعة العملة، فجميع النماذج المعروفة لارتفاع معدلات التضخم قد خضعت لهذه القاعدة، ففى ظل زيادة معدلات التضخم تفقد الأسعار النسبية قيمتها، وتطيح المضاربة بكل الآليات التى تسمح بتحقيق التوازن بين العرض والطلب فى ظل اقتصاد السوق، على الرغم من ذلك، فبمقدور روسيا تجنب هذا الانزلاق المميت.
ففى عهد الاتحاد السوفيتي، لم يكن الخبراء الاقتصاديون، من زمرة المكتب الشيوعى الروسى الذين يتسمون بالجمود الفكري، فكيف يمكن التفكير بإمكانية التحول الجاد لأنظمة تحتكرها الدولة مثل اتحاد الصناعيين الروس بطرق ووسائل ليبرالية بحتة؟ 
يوجه دائمًا اللوم لبوريس يلتسن، بسبب إفساده لمستقبل روسيا بحرمان العلم والتكنولوجيا من أدواتهما، لقد كان الاتحاد السوفيتى السابق يستطيع التفاخر بمنح البلاد قاعدة علمية وتقنية ذات طابع دولى معترف بها فى كثير من المجالات، وحتى فى قطاع الطاقة، فالإنجازات التى تحققت لا يمكن تجاهلها، إلا أن نقص الأموال وتشويه صورة العلماء يتسببان فى خسائر جوهرية فادحة غير قابلة للإصلاح.