الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من عصر الأنوار إلى ما يفوق الوضع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«لا تحتقر أحدًا أو شيئًا، فالله حين خلقه لم يحتقره».. «لن تبلغ من الدين شيئًا حتى توقر جميع الخلائق».. «وتحسب أنك جرمًا صغيرًا، وفيك انطوى العالم الأكبر».
هذه بعض وصايا الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، الذى قال عنه الدكتور نصر حامد أبوزيد: «إن كل من مسه طائف من فكره، يظل يحلم دائمًا بتجديد صلته به، سعيًا للتدقيق المعرفى من جهة، ولاستيعاب التجربة الروحية التى تتجلى فى كتاباته من جهة أخرى».
من هنا، وكما قال أبوزيد فى كتابه «هكذا تكلم ابن عربى»، تأتى أهمية إحياء ما تركه الشيخ، لنفهم قضايانا المعاصرة، وأزمات عصرنا، ربما نجد لحلها سبيلا.
لن أخوض هنا فى تناول أبوزيد لسيرة حياة ابن عربى على أهميتها البالغة، ولن أخوض فيما قاله صاحب الكتاب عن علم الشيخ الأكبر، وتصوفه، ورؤيته للخالق والمخلوق، وسلطانه على كثير من حكام وملوك عصره، ومدى مكانته، وتلاميذه، ومريديه.
كل ما شغلنى هو ما جاء فى مقدمة الكتاب لما فيها من تفسير بديع لما يعيشه العالم الآن، ففى تمهيد الكتاب لخص أبوزيد، الأسباب الحقيقية الكامنة وراء كل الصراعات التى تملأ العالم، وتضعه فوق صفيح ساخن، فهو يرى أن القرن العشرين بكل ما فيه من طفرات علمية، وإنجازات مادية مذهلة، جعلت من العالم قرية صغيرة بفضل الثورة التكنولوجية الهائلة، لكن هذا التقدم الذى يفوق التصور أحيانا، شغل المفكرين، وزاد من مخاوفهم حول مستقبل البشرية، لأنهم رأوا أن كل التطورات المتلاحقة، والسريعة، فى عالم الاتصالات والتكنولوجيا، قد كشفت عن كم هائل من التناقضات بين الأغنياء والفقراء من ناحية، وبين الٌمستغِلين والمستغَلين من جهة أخرى، ليبرز الظلم، والذى كان محصورًا من قبل داخل حدود الأقطار القومية، بوصفه ظاهرة عالمية لا بين أقطار «الشمال» وأقطار «الجنوب» فقط، بل بين الشرق والغرب نفسه من جهة، وبين «أغنياء الجنوب وفقرائه من جهة أخرى».
فى «هكذا تكلم ابن عربى»، نعرف أن التقدم الذى شهده القرن العشرين تجاوز ما حققته البشرية من تقدم فى تاريخها كله؛ بفضل الحداثة التى تمتد جذورها إلى عصر الأنوار فى القرن الثامن عشر.
ويوضح أبوزيد، أن فلاسفة التنوير بذلوا جهودًا كبيرة لتحرير الإنسان الفرد من إخضاع الكنيسة له، ليكتشف بإرادته الحرة كل قوانين الطبيعة باستخدام علوم التاريخ، والجغرافيا، والاجتماع، والإنثروبولوجى.
لكن السعى للوصول إلى هذا التحرر من قوانين الكنيسة المطلقة، أدى إلى التركيز على «الفردية»، بوصفها قيمة مطلقة، وإلى إسناد قيمة مطلقة أخرى لقوانين «العقل».
هذا التحرر كان نتيجة الجهود الكبيرة التى بذلها فلاسفة التنوير، لكنهم حين بذلوا جهودهم تلك، لم يكن يخطر ببالهم أن ما قاموا بإنجازه سيحمل فى طياته السياسية الإمبريالية للرأسمالية الوليدة، التى سعت من خلال هذه الأيديولوجيا إلى امتلاك العالم؛ لتستحوذ على المواد الخام، والأيدى العاملة الرخيصة، والأسواق المستهلكة.
يقول أبوزيد فى كتابه: «إن حركة المد الإمبريالية الحامل الأيديولوجى لفلسفة التنوير تنظر إلى شعوب الجنوب بوصفها شعوبًا فى حاجة للتنوير، ذلك أن المفهوم المطلق للعقل عند التنويريين يفترض النقيض «اللاعقل» بوصفه يمثل تهديدًا مباشرًا لسلطة العقل، واستطاع التوظيف السياسى الاستعمارى الإمبريالى لهذه الثنائية أن يصنف البشر إلى (متحضرين) -هم أبناء الغرب- و(همج) هم من سواهم من البشر، أبناء الشعوب والثقافات غير الغربية، وأصبح من واجب (المتحضرين) أن يسعوا لتنوير الهمج».
ومن هنا جاءت كل صنوف العدوان التى مارسها الشمال ضد الجنوب، هذا العدوان هو ما جعل شعوب الجنوب تتمسك بثقافتها لمقاومة ثقافة الشمال التى تهدد ثرواته، ومعتقداته، بل ووجوده أيضا.
يقول أبوزيد فى كتابه: إن مفهوم «نهاية التاريخ» لفوكو ياما، هو مفهوم دينى فى المقام الأول؛ لأن الأديان فى مهدها تبشر بالخلاص، وهكذا يبشرنا فوكوياما، أن التاريخ قد وصل إلى رحلته الأخيرة، ولم يعد أمامنا إلا الراحة فى جنة الرأسمالية، والتمتع بنعيم الديمقراطية على النمط الأمريكى. مفهوم فوكوياما لم يرق إلى مستوى اليوتوبيا الدينية، التى يتحقق فيها العدل المطلق؛ تعويضا لمن وقع عليه ظلم فى هذه الحياة.
والعولمة التى بشر بها فوكوياما، ليس بها أى تعويض أو عزاء -ولو محتمل- للضعفاء والمنكسرين. بعد «نهاية التاريخ» لفوكوياما، جاء «هانتجتون» بـ«صراع الحضارات»، وهنا يطرح أبوزيد سؤالا مهمًا، وهو: أى حضارات تلك التى تنبأ بها «هانتجتون»؟ وهل سيكون الصراع بينها هو سمة القرن الحادى والعشرين؟ إنها كل الحضارات القديمة التى حلت محلها حضارة «الغرب» الحديثة، إنها حضارات «آسيا»، الصين واليابان على وجه الخصوص، و«إفريقيا» و«الإسلام» تحديدًا.
لم يقل «هانتجتون»، شيئًا عن الأصولية المسيحية فى أمريكا نفسها، ولم يذكر كلمة واحدة عن الأصولية اليهودية فى إسرائيل، وكلتا الأصوليتين تستعيدان بهاءهما، ومجدهما فى عداء واضح لقيم الحداثة وعلمانيتها.
لم يذكر «هانتجتون»، شيئًا عن تفاصيل المشهد، لأنه كان مشغولا بأمر واحد محدد: خلق عدو جديد يحل محل «الشيطان الأحمر»، وليكن العدو الجديد شيطانًا أصفر، أو أخضر، أو شيطانًا بلا لون، فالمهم أن يقوم الشيطان بدور القناع الدينى؛ لإبراز وجه المخلص الأمريكى خصوصًا، والغربى عمومًا.
أليس من الطبيعى وقد صارت العولمة دينًا، أن يسعى البشر لمقاومة هذا الدين الجديد، والتصدى للاهوته المضمر، باستدعاء «الدين» فى كل الثقافات بلا استثناء، حتى داخل المجتمعات التى صنعت الحداثة؟!.