الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أخلاقيات الزحمة (3-1)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا جدال أن بعض القوانين إنما تصدر أساسًا من أجل وضع الضوابط التى تنظم علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض.
ونحن لدينا كثير من هذه القوانين التى لو طُبِقت لساد النظام وعمَّ الانضباط أرجاء الوطن، ولكن من المؤسف أن مثل هذه النصوص القانونية لا يتم الالتفات إليها، بل يتم فى أحيان كثيرة الالتفاف حولها. 
غالبية المجتمعات المتحضرة تُسَن فيها التشريعات لصون الخصوصية الفردية من أى انتهاك من قِبَل الغير، وتُوضع القوانين بغية تقييد الاعتداء على جسد الإنسان، ولولا هذا القيد لما أمكن لأى مجتمع بشرى أن يستمر، لأن المجتمع سيفتقر فى هذه الحالة إلى أدنى درجة من الأمن الذى من دونها سيكون أى تفكير فى المستقبل عبثًا، ومن هنا فإن كوابح من هذا النوع إنما تحقق دورًا مهمًا فى ضمان حرية المجتمع. 
وإذا كان الضرب أو التعذيب أو القتل هو أوضح صور الاعتداء على جسـد الإنسان، فإن هناك صورًا أخرى كثيرة لهذا الاعتداء يُجَرِّمها القانون، وهى تحدث بشكل يومى على مرأى ومسمع من كل الأجهزة التنفيذية المنوط بها تطبيق القانون، ومع هذا لا يعيرها أحد التفاتًا!!.
لن أتحدث عن الغش التجارى فى السلع الغذائية، أو عن تلوث مياه الشرب، أو عن تلوث الهواء، وكلها تمثل صورًا للاعتداء اليومى الصارخ على جسد الإنسان المصرى، وإنما سوف أتحدث عن «الزحمة» وما ترتب عليها من أخلاقيات رديئة أباحت الاعتداء اليومى على أجسادنا دون رقيب أو حسيب، والأمثلة التى سنعرض لها كثيرة، وجميعها تكشف حجم الجريمة أو الجرائم التى تُرْتَكب فى حق المواطن المصرى!!.
إن الازدحام يؤثر سلبًا فى أخلاقنا، نحن كمصريين نعيش على ضفتى النهر تاركين كل مساحات أرضنا فارغة وخاوية من كل حياة أو عمران، ولذلك نحن مكدسون ومزدحمون وملتصقون بعضنا ببعض، وفى عبارة واحدة: «نحن شعب يعيش ويتعايش مع الزحمة» أحيانًا بإرادته، وفى أغلب الأحيان، رغم أنفه. والزحمة وَلَدَت لدينا أخلاقًا رديئة!!.
لست ممن يعتقدون أن التردى الأخلاقى هو سمة من سمات الإنسان الشرقي، وأن حسن الخلق والتمدين والتحضر هى صفات أساسية يتحلى بها الرجل الأبيض دون شعوب العالم كافة، هذه بلا شك نظرة عنصرية، نرفضها بشدة، فضلًا عن أن الواقع وحقائق التاريخ تفندها بقوة وتكشف تهافتها.
من الممكن أن تسير بسيارتك عكس الاتجاه فى أى شارع من شوارع أوروبا، لكن العقاب سيكون سريعًا ورادعًا، ليس لأن أخلاقهم هناك أعلى أو أسمى أو أرقى من أخلاقنا، ولكن مرد ذلك هو أن القانون يُطَبَق هناك فورًا وعلى الجميع، أما الأوضاع فى مصر فهى مختلفة، تنتشر حالات سير السيارات عكس الاتجاه، ليس لأن أمهاتنا تلدنا بدون أخلاق أو معدومى الأخلاق.. كلا، ولكننا اعتدنا على عدم احترام القانون، ووجدنا المسئولين فى بلادنا هم أول من داس على القانون بالحذاء، وحذونا حذوهم!!.
إذا أنت حاولت مثلًا أن تتصدى يومًا لأحد السائقين الذين يسيرون عكس الاتجاه، فسوف تسمع ما لا يعجبك، سوف تتعرض للسب والشتم، وقد تتعرض للضرب والإهانة، وقد يواجهك هذا الشخص المخالف للقانون بسؤال صادم: 
«هو أنت مش عارف أنا مين؟!».
هذه الأوضاع فى مصر هى أقوى من القانون؛ لأنها سادت وترسخت عبر عقود طويلة مضت، وباركتها كل أنظمة الحكم المتعاقبة حتى أصبحت جزءًا من وجدان الشعب المصري، هذه الأوضاع فى مصر التى ما زالت -للأسف الشديد- سائدة أدت إلى تردى الأخلاق وصبغت سلوك المواطنين بصبغتها. 
إن سبب رقى أخلاق الأوروبيين يكمن فى حرصهم على تطبيق القانون واحترامه، إن الناس فى الغرب اعتادوا على الالتزام باحترام القوانين والخضوع لها، بحيث لا تطغى المصلحة الشخصية على المصلحة العامة للمجتمع، وذلك من خلال تطبيق عقوبات رادعة على كل من يتجرأ على مخالفة القانون، ودون أى استثناءات لأحد أيًا كان منصبه أو مركزه. 
من كثرة اعتياد المواطنين فى البلدان الغربية على احترام القوانين، صار سلوكهم اليومى منضبطًا وكأنهم قد جبلوا وفطروا على الأخلاق القويمة، وعلى الجانب الآخر؛ فإن الناس فى بلادنا قد اعتادوا على الاستهانة بالقوانين وعدم احترامها، متخذين من بعض كبار المسئولين قدوة لهم فى الاستهتار بالقوانين ورفض تطبيقها وعدم الانصياع لبنودها. 
غياب احترام القانون هنا هو علة تخلفنا، واحترامه هناك هو سر تفوقهم ورقيهم وتحضرهم!! المسألة ليست متعلقة إذن بأن الشعوب الغربية ملتزمة أخلاقيًا، والشعوب الشرقية وُلِدَت بجينات أخلاقية رديئة!!.