الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قهر المستحيل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن الدرس الذى يحمل الكثير من الأمل، هو أن الشعب المصرى الذى بنى «الهرم» وحفر «قناة السويس» وبنى «السد العالى» لا يمكن أن يعيش طويلًا فى شرنقة العجز أو حالة الانسحاب والانسحاق، فهو دومًا عملاق مسالم، قد يمنح الظالمين الفرصة تلو الفرصة، وحينما لا يرتدع هؤلاء الغاصبون، ينتفض الشعب ليسترد الحق، ويقيم العدل. كان مشروع حفر «قناة» تصل مباشرة بين البحرين «المتوسط والأحمر» هو الحلم الكبير على مر العصور، حتى استطاع المصريون تحقيق جزء منه بحفر قناة «سنوسرت» فى العصر الفرعونى.
جاء «نابليون بونابرت» إلى مصر عام ١٧٩٨ على رأس الحملة الفرنسية، التى أراد علماؤها تحويل الحلم البعيد إلى واقع قريب، إلا أنها فشلت بعد تصدى المصريين لها بكل جسارة، لكن «فرديناند ديليسبس» تمكن من السطو بطرق ملتوية على دراسات «القناة»، ونجح فى إقناع حاكم مصر «سعيد» بحفرها، وخداعه بكتابة عقد، تتحمل مصر فيه كل شىء.
تحول الخيال الباهت إلى حقيقة مبهرة مع أول ضربة فأس بيد فلاح مصرى بسيط من عشرات الآلاف الذين اقتلعوا من القرى والنجوع؛ للعمل بالسخرة فى مشروع «القناة» التى حفرت بأرواح وجماجم ودماء ١٢٠ ألف عامل، ورغم كل سنوات الظلم والقهر والبؤس التى عاشها الفلاحون المصريون البسطاء، إلا أنهم نجحوا فى شقها بطول ١٧٠ كيلو مترًا من السويس جنوبًا وحتى بور سعيد شمالًا.
افتتحها الخديو «إسماعيل» عام ١٨٦٩ فى حفل أسطورى مبهج، ثم تحولت «القناة» إلى بؤرة صراع نشط ومتجدد بين مختلف القوى فى العالم، ففى الوقت الذى سيطرت فيه «فرنسا» عليها من خلال «ديليسبس»، ليصبح لها دولة «شبه مستقلة» داخل أراضى الدولة المصرية، سعت إنجلترا إلى الاحتلال الإنجليزى بعد ١٣ عامًا من افتتاحها.
كان لا بد للزعيم «جمال عبدالناصر» بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ أن يتخلص من الدولتين اللتين تملكان كل خيوط الحكم الحقيقية فى مصر، فاستطاع من خلال المفاوضات والأعمال الفدائية فى «القناة» أن يصل إلى اتفاقية إنهاء الاحتلال الإنجليزى لمصر بعد أكثر من ٧٠ سنة، ثم كانت ضربته القاضية حينما جاءت ساعة الصفر مساء ٢٦ يوليو ١٩٥٦، ومن ميدان «المنشية» بالإسكندرية بتأميم القناة. 
احتلت مدينة «السويس» البطولة المطلقة خلال حرب الاستنزاف العظيمة بعد «حرب ١٩٦٧» أو «المصل» الذى حقن كل المصريين والعرب بالرغبة فى الثأر والانتصار، واستطاع أبناء «السويس» كسر أنف العدو الصهيونى بعمليات فدائية مروعة، ثم نجح أبطالها فى تحطيم كبرياء العدو الصهيونى فى ٢٤ أكتوبر ١٩٧٣.
تضرب «القناة العظيمة» بجذورها فى أعماق التاريخ الإنسانى؛ لأنها ليست مجرد شريان مائى مهم اختصر الجغرافيا، بل شريان نضال وطنى مذهل، استطاع قهر المستحيل، وفى ذات الوقت غدت كيانا ملهما، يشحن دومًا عقول ووجدان الأدباء والفنانين، الذين أنارت أعمالهم الأدبية والفنية المبدعة كل البشرية.