الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

عبدالحميد حمدي يكتب: مسألة الحجاب.. كيف نتفاهم

جريدة السفور
جريدة السفور
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يوسع مسافة الخلاف بين الكاتبين فى موضوع من الموضوعات عدم تقدير الواحد منهم لما يكتب الآخر تقديرًا صحيحًا. وقد يكون المتناقشان متفقين فى جوهر الموضوع الذى يتحاوران فيه ولكنهما مختلفان اختلافًا لفظيًا مرجعه اعتقاد أحدهما بأن ما يقوله الآخر غير متفق مع ما يقوله هو، وأنه هو على صواب ومعارضه على خطأ. وما دام هذا الاعتقاد -ومنشأه على ما أرى عدم تعودنا احترام آراء غيرنا والإصغاء إلى ما يقوله معارضونا- سائدًا على الباحثين فمن الصعب أن تؤدى أبحاثهم إلى نتيجة ما. ونحن الباحثين فى مسألة المرأة المسلمة واقعون فى هذا الخطأ. لهذا مضت أعوام ملأنا فيها جو البلاد بالمناقشات العقيمة غير المنتجة. يصيح جماعة منا مطالبين بالحجاب ويصيح آخرون بوجوب السفور. وكأنما مجرد التعرض لنشر مبدأ من المبادئ على قاعدة الاستخفاف برأى المخالف والتعريض بشخصه هو كل شىء. أو هو الدليل الساطع الذى يؤيد به الكاتب دعوته. وما كانت المبادئ لتؤيد بمثل هذه الصغائر.
لهذا كان واجبًا علينا كما ذكرنا فى المقال الماضى أن نقرر الواقع فى مصر. ثم نبحث على مبدأ العمل لما يمكن أن يكون لا ما كان يجب أن يكون.
نرى أن طالبى السفور المعجل وطالبى الحجاب كلاهما لم يدرس حال بلادهم درسًا صحيحًا ولم يراع سنن الطبيعة فيما يطلبون.
فالذى يريد المرأة المصرية على أن ترفع الآن حجابها (ولنعتبر الحجاب هنا ما تعارفه الناس عندنا من اللباس المعروف الذى يختلف فى بعض جهات القطر عنه فى الجهات الآخر) إنما يطلب مستحيلا. ولو فرضنا أنه غير مستحيل فإنه مطلب فيه فساد كبير. نقول إن هذا الطلب مستحيل لأنك لا تستطيع أن تخرج امرأة قضت عشرات من الأعوام على عادة الحجاب عن تلك العادة لأنها أصبحت لها طبيعة ثانية ومن الشاق أن تنتزع من المرء طبيعته. على أنك لو استطعت أن تقنعها بوجوب رفع ذلك الحجاب أو لو أجبرتها على ذلك لما استطاعت أن تسير فى الطريق سافرة فى لباس غير الذى شبت عليه. فقد تكيفت مشيتها منذ زمان على ما يوافق ذلك اللباس. ولئن فرضنا أنها استطاعت رغم كل هذه العوائق أن تسفر فإنها ولا شك غير محسنة التصرف فى تلك الحال الجديدة التى انتقلت إليها لأنها لم تهيأ لها من قبل. وفى ذلك من الفساد ما فيه.
لذلك نرى من خطل الرأى ومن المخالف للمعقول أن نطالب المرأة المصرية بكشف حجابها فى الحال. وإن كنا نقرر أن ذلك الحجاب المتعارف بيننا ليس من الحجاب الشرعى فى شيء. كما نقرر أنه لا يدفع فسادًا ولا يرد عن الأخلاق شرًا.
كذلك نرى الذى يدافع عن الحجاب لا يدرى عن أى شىء يدافع لأننا لا نعرف بين المدافعين عن الحجاب من يستطيع أن يقول لنا إنه يدافع عن هذا اللباس الذى تخرج فيه نساؤنا الآن. فكلهم يدافعون عن حجاب لا وجود له حتى ولا فى مخيلاتهم لأنك لو سألت أحدهم عن كنه ذلك الحجاب الذى يريده لما استطاع أن يجيبك بقول. اللهم إلا إذا كان زار الصعيد الأقصى ورأى هناك فى مديرية قنا وما بعدها أولئك النسوة اللائى يسرن فى الطرقات ملفوفات فى بردة من الصوف السميك لا يبدو شيء من جسمها حتى ولا أطراف أناملها ولا عيناها فتسير المرأة ممسكة بطرفى بردتها من الداخل بشكل يجعل منفرج البردة مقابل العين على مسافة بضع سنتيمترات بحيث لا تستطيع المرأة أن ترى إلا موضع قدمها من الطريق.
فهذا هو نوع الحجاب الشديد الموجود فى أقصى الصعيد والنوع الثانى هو الذى يعرفه سكان بقية مدن مصر. وهناك حجاب غنيات القرويات فى الوجه البحرى وأظن كثيرا من شبابنا نظروه. فهو عبارة عن ملاءة أو حبرة أكثر تحشما من ملاءة بنات المدن وبرقع أسود صُفت فيه العملة الذهبية القديمة صفوفًا مستطيلة فتمشى المرأة حاملة على أنفها ثروة قد تسد عن زوجها ديونًا يرزح تحتها رزحًا.
هذه هى ثلاثة الأحجبة المتعارفة فى مصر. فهل فى إخواننا المدافعين عن الحجاب من يدافع عن واحد منها؟ لا نظن ذلك وإنما هم يدافعون كما قلنا عن حجاب لا يعرفون كنهه أى أنهم يريدون أن يوجدوا حجابًا لم يصطلحوا على شكله بعد.
فإذا فرضنا أنهم يدافعون عن هذه الأحجبة الثلاثة كما هى أو يدافعون عن واحد منها يريدون تعميمه فى جميع أنحاء البلاد فإنا نراهم يطلبون مستحيلا. أولًا لأنك لو أردت أن تلبس فتاة المدن حجاب المرأة الصعيدية أو القروية لما قوبلت منها إلا بالسخرية والإعراض ولما أمكنك إلا أن تقف أمامها جامدًا لا تستطيع عمل شيء ما. ولو وجدت نفسك آخر الأمر كنت تطلب أن تسير الطبيعة على ما تشتهى فأنت حالم.
وإذا شئت أن تلبس غنيات القرى أو نساء الصعيد الأقصى لباس فتيات المدن ما قوبلت إلا بنظرات احتقار أولئك النسوة. فطلب تعميم أحد هذه الأحجبة فى جميع بلادنا طلب مستحيل بل هو داعية الهزء والسخرية.
بقى أن نرى إذا كان يمكن أن تبقى هذه الأحجبة فى الجهات المنتشرة بها على ما هى عليه الآن حتى يصح أن يقال إن أنصار الحجاب يدافعون عن حجاب موجود ومصطلح عليه ويمكن بقاؤه إلى ما شاء الله.
ليس من أنصار الحجاب من ينكر أن كل شيء فى الوجود يتطور وأن حجاب نساء المدن لم يكن من بضع سنين كما هو الآن. كما أنه لم يكن من عشرات السنين كما كان من بضع سنين.
ومن هذا نحكم بأنه لن يكون بعد بضع سنين كما هو الآن وإذا كان الواقع يدلنا على أن تطور الحجاب كان فى طريق السفور لا فى طريق التشدد فإننا نستطيع أن نقول إن نتيجة هذا التطور ستكون السفور الإجبارى سفورا تصل إليه النساء مدفوعات بيد التطور الاجتماعى الذى لا يقاوم.
كذلك يمكن القول عن نساء الصعيد وغنيات القرى. فإن عدد اللواتى يلبسن البردة كما وصفناها قد قل كثيرا فى بلاد الصعيد فى هذه السنين الأخيرة وأصبح لبسها قاصرا على طبقة معينة من النساء. أما الغنيات منهن فأخذن يلبسن ما كانت تلبسه نساء المدن البحرية منذ سنين. وهذا يدلنا على أن مصير الحجاب هناك سيكون مصيره هنا والفرق أن الزمن الذى يحتاجه التطور فى حجاب الصعيديات سيكون أطول من الزمن الذى يتطور فيه حجاب النساء فى المدن. والسبب فى ذلك راجع إلى الفارق الموجود بين قابلية الأوساط المختلفة فى مصر لتطور الحياة المدنية.
كذلك يمكن القول عن غنيات القرى يرى المتتبع لأقوالنا إننا لم نبن على الشطط قولنا أن طالبى السفور المعجل وطالبى الحجاب إنما يطلبان مستحيلًا.
بقى أن نفرض أن إخواننا المدافعين عن الحجاب يضربون صفحا عن هذه الحقائق الواقعة ويستمرون يدافعون عن الحجاب ونفرض أن دفاعهم هو عن الحجاب الحالى كما هو لأنهم لم يعينوا لنا الحجاب الذين يريدون نفرض ذلك ونبرهن لهم فى المقال الآتى على أن الأحجبة الموجودة فى مصر لا تتفق مع الحجاب الشرعى فى شيء فإذا قالوا لنا بعد ذلك إنهم يدافعون عن حجاب غير موجود طلبنا منهم تعيينه فإذا تراضينا أن يكون الحجاب الذى نطلبه جميعًا هو الحجاب الشرعى وجب بعد ذلك أن نحدد ذلك الحجاب على ما جاء فى الشريعة الإسلامية وأن يكون بحثنا فى ذلك على قاعدة حُسن التفاهم.

نقلا عن جريدة السفور عام 1915