الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

عميد الأدب العربي المثير للجدل حيًا وميتًا

اليوم.. إعلان صدور المجلد الأول من مجلة «السفور»

صورة مجمعة
صورة مجمعة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يتوقف الجدل الذى انطلق منذ أعلن الدكتور محمود الضبع، رئيس الهيئة القومية لدار الكتب والوثائق السابق، عن اكتشافه نصا جديدا لعميد الأدب العربى طه حسين، اعتبره رواية مجهولة بعنوان «خطبة الشيخ»، وكانت سببا فى إقالته. ولعل المؤتمر الصحفى الذى تعتزم دار الكتب إقامته اليوم الأربعاء، بحضور الكاتب الصحفى حلمى النمنم، وزير الثقافة، والدكتور جابر عصفور، والدكتور شاكر عبدالحميد، والدكتور صابر عرب، والدكتور أحمد الشوكى، وغيرهم من الوزراء والسفراء والمثقفين؛ لإعلان صدور المجلد الأول من جريدة السفور، والذى يضم الأعداد التى صدرت فى عام 1915، والتى احتوت فصول الرواية محل الجدل لعميد الأدب العربى.
يجيء المؤتمر اعترافا بأهمية الكشف عن عمل من أعمال الدكتور طه حسين، الذى يستطيع به رغم رحيله تحريك كل ساكن وإثارة الجدل وخلخلة الأفكار المتكلسة فى الفن كما فى المجتمع.
وكانت «البوابة» قد انفردت بنشر 5 رسائل من أصل 15 رسالة تضمنها النص التى تزمع وزارة الثقافة نشره فى كتاب جديد؛ وخلال هذا الملف ننشر 5 آراء مختلفة حول أهم نقاط الجدل التى أثيرت حول «خطبة الشيخ».

أحمد عبدالرازق أبو العلا يكتب: «خطبة الشيخ» كتابة صحفية بلغة الأدب
أود -فى البداية- أن أتحدث عن القضية التى طرحت نفسها، وجاءت على هامش معركة اكتشاف رواية جديدة للدكتور طه حسين، وأعنى بها قضية «الريادة فى الرواية العربية»، مشيرا إلى مجموعة من المُفارقات التى أوضحتها بعض كتابات د. جابر عصفور، وحلمى النمنم فى هذا الشأن، وهما –معا– من المهتمين بموضوع البحث عن تلك الريادة، تاريخيا.
الدكتور جابر عصفور ذكر فى مقدمته لرواية «غابة الحق»، التى كتبها «فرانسيس فتح الله مراش»، ونُشرت فى حلب سنة ١٨٦٥ -حين طُبعت مؤخرًا فى مصر- إنها تُعد الرواية العربية الأولى. فى حين أن «حلمى النمنم» رأى –وكما جاء فى مقدمة كتابه «الرائدة المجهولة».. زينب فواز، الصادر فى عام ١٩٩٨- أن رواية زينب فواز «حُسن العواقب»، الصادرة فى عام ١٨٩٩، هى الرواية العربية الأولى، ثم هو نفسه، حين تُعاد طباعة روايتها «غادة الزاهرة» يذكر فى مقدمتها أنها الرواية العربية الأولى.. ويجيء د. سيد البحراوى ليُصرح بأن هناك نصًا اسمه «وى. إذن لست بإفرنجي»، كتبه «خليل الخوري»، وصدر فى سنة ١٨٥٦، ويعتبره هو الرواية العربية الأولى، وذلك فى مقدمته لرواية «قلب الرجل» التى كتبتها «لبيبة هاشم» -حين أُعيد طبعها فى مصر- وكما هو واضح؛ فإنه ليس هناك اتفاق بين من يهتمون بهذا الموضوع، ويبحثونه تاريخيًا، للوصول إلى رأى واحد يخص موضوع الريادة.. ولذلك فإن كل ما يثار بشأنها -الآن- هو مجرد اجتهادات لم تصل إلى الحقيقة المطلقة بعد!! ولم يكن -أيضًا- هناك أى مبرر لغضب د. جابر عصفور المُعلن، فيما يتعلق بموضوع اكتشاف رواية جديدة لطه حسين، هنا نراه يدافع عن حقه وحده فى الاكتشاف، ويريد نفيه عن الآخرين حتى.. وإن اجتهدوا!!
أما فيما يتعلق بالرسائل التى جاءت فى رواية طه حسين «خطبة الشيخ»، والتى قامت «البوابة» بنشر خمس رسائل منها، باعتبارها رواية -كما ذهب إلى قول ذلك د. جابر عصفور نفسه- فإنها وبعد أن قرأت الرسائل الخمس التى كُتبت مع عشر رسائل أخرى فى عام ١٩١٣، ونُشرت فى مجلة «السفور» فى سنة ١٩١٦، أقول: إنه من خلال القراءة الأولية لتلك الرسائل الخمس، يتبين لنا أنها كتابة صحفية، اعتمدت على لغة الأدب، وكانت تلك هى وسيلة الدكتور طه حسين، فى كل ما كتبه من كتابات أطلق عليها روايات مثل: «المعذبون فى الأرض، وما وراء النهر، والحب الضائع، وشجرة البؤس».. وطه حسين نفسه يعترف بذلك حين يؤكد أنه ليس مسئولًا عن تسمية النقاد لتلك الأعمال، حين يتعاملون معها بوصفها كتابات قصصية أو روائية، لأنه لا يدعى ذلك لنفسه.. هو إذن يعلم أن تلك الكتابة، لا تنتمى انتماء أصيلا للكتابات القصصية، أو الروائية.. وهى -من وجهة نظرى- بما فى ذلك الرسائل التى جاءت فى كتاب «خطبة الشيخ» مجرد كتابات إصلاحية –إذا صح التعبير– هدفها التعبير عن قضايا اجتماعية، أو اقتصادية تؤرق الناس، فالأديب من وجهة نظره «كائن اجتماعى لا يستطيع أن ينفرد، ولا أن يستقل بحياته الأدبية مهما يكن أمره ولا يستقيم له أمر، إلا إذا اشتدت الصلة بينه وبين الناس، فكان صدى لحياتهم، وكانوا صدى لإنتاجه، وكان مرآة لما يذيع فيهم من رأى وخاطر».
تلك الرسائل بين الابنة التى جاءها خطيب هو شاب أزهرى، تعبر فيها لوالدها عن رغبتها فى إبداء رأيها فى ذلك الرجل قبل أن تتزوجه، والأب يُبين لها أنه يحترم رغبتها، وعليها أن تقوم بذلك، ويتحدث معها من خلال الرسائل المرسلة إليها عن ذلك الشاب، وكأنه يقدمه لها، ثم رسالتها للشاب نفسه، والتى تخبره فيها عن رغبتها أن يتيح لها حرية التعرف عليه، ثم رسالته هو إليها، مُرحبا بذلك، وهكذا يبدو الحوار بين الشخوص مستعرضا قضايا اجتماعية تتعلق بموضوع الزواج والميراث، وغيرها من القضايا النسوية يتناولها طه حسين، مؤكدا بها قيمة الحرية، وقيمة التفكير..
القيمتان اللتان، تعرضت لهما حين كتبت -من قبل- عن رواياته أثناء تناولى لموضوع العدل الاجتماعى عنده فى كتابى «طه حسين والبحث عن العدل الاجتماعي».
المُهم فى الأمر أن طه حسين نفسه كان دائما ما يؤكد إخراج تلك الكتابات من دائرة الكتابات القصصية أو الروائية، حتى لا يكون الحكم عليها خاطئا من قبل النقاد، وتلك الرسائل تُذكرنى، بالمقطوعات التى جاءت فى كتابه «جنة الشوك»، دارت بين شخصين، الأول منهما هو الفتى، والثانى هو الأستاذ الشيخ حين يقول كل واحد منهما جملته الشهيرة: «قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ»، ثم «قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتي» المقطوعات الحوارية بين الاثنين، تدخل فى نطاق ما يسمى بـ «الحكم والمواعظ»، وهو يعتبرها لونًا من ألوان الشعر الهجائى، ويقصد به –هنا– كما يقول «النقد الاجتماعي».. وهذا الذى حدث –من الناحية الفنية– فى «جنة الشوك»؛ حدث أيضا مع «خطبة الشيخ» الاختلاف فقط، فى الأداة الفنية، فى «جنة الشوك» اعتمد على الحوار بين شخصيتين، وفى «خطبة الشيخ» اعتمد على الرسائل، وكلها بين أطراف متعددة.


محمد صالح البحر يكتب: الرواية بين مبدأى «السمع والطاعة».. و«أريد أن أكون كبيرًا»
لا أحد من المبدعين يموت وجعبته خاوية، معظمهم يترك من خلفه عملا أو أكثر لم يُكتب له الظهور لأسباب ما، وربما لا يعرف شيئا عنه سوى الأهل والأقربون، ولأن معظم أهل المبدعين العرب لا يربطهم بالإبداع إلا ابنهم الذى رحل، ولأنهم لا يُدركون قيمة ما ترك بين أيديهم، فإن ما ترك يذهب غالبا طى النسيان، ولا يتم الكشف عنه إلا من قبيل الصدفة. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما نعرف، وكثير منها سيظل مجهولا بحسب قيمة الأديب، وظروف أخرى تخضع لعوامل متعددة ولا حصر لها، وطه حسين ليس بدعا فى ذلك، وروايته «خطبة الشيخ» بغض النظر عن قيمتها الأدبية والفكرية التى لن يختلف عليها اثنان حال إخضاعها لزمن كتابتها، تحمل من دهشة الكشف الكثير، فليس هينا أن نرى عملا إبداعيا لطه حسين لم يُنشر من قبل، لكن الرواية نُشرت بالفعل فى مجلة «السفور» عام ١٩١٦، وهو وقت مبكر جدا من حياة طه حسين، كتب ونشر بعدها لأكثر من خمسين عاما على مدى حياته التى امتدت لسبعينيات القرن الماضى العشرات من الكتب الإبداعية والفكرية، وامتلك من المكانة الثقافية والرسمية ما ينفى عنه عدم القدرة على نشر كتاب يؤمن بأهميته، لذا كان يجب، بدلا من الجرى بالسمكة إلى عرض البحر، أن نتساءل مندهشين ومحققين: لماذا لم يُقْدِم طه حسين على نشر روايته «خطبة الشيخ» من بعد؟! 
أما المعركة التى تدور طاحونتها الآن فليست بأكثر من تكسير عظام بين جيلين، يؤمن أفراد كبيرهما بحكم السن والتجربة والمكانة بمبدأ «السمع والطاعة»، لهم طبعا، من كل الذين يأتون من بعدهم، خصوصا أنهم هم مَنْ يهبون لهم الوجود والمكانة والأهمية، وأفراد الجيل الثانى يؤمنون بهذا الحق، ويُقرون به باصمين بأصابع أجسادهم كلها، لكنهم فى زهوة الوجود الشكلى، والمكانة المشروطة، يتسلل الشيطان إلى قلوب بعضهم بذات الغواية الأولى التى خُدع بها أباهم من قبل «ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا....»، وهنا بزغ مبدأ «أريد أن أكون كبيرا» أمام نهم عيونهم، وأرادوا الكشف لأنفسهم بعيدا عن سطوة الكبار. الواقع يقول إن جريدة الوزارة وقياداتها، كانوا الأولى بالسبق أو الكشف، سمّه كيفما شئت، فالمجلة المنشورة بها الرواية تملكها الآن الوزارة، والذين اكتشفوا وجودها موظفون بالوزارة، ولولا وجودهم الوزارى هذا، والذى وهبه لهم الكبار، ما عثروا على الكنز المفقود!
الواقع يقول إنه كان عليهم أن يؤمنوا بشروط المكانة الموهوبة كاملة، قبل أن يستمعوا إلى غواية الشيطان، ويدوشوننا بمعركة لا طائل منها.


سامح قاسم يكتب: الثائر ضد كل راسخ فى العقل والوجدان
لا أظن أن كاتبا مهما كانت مكانته، أو ناقدا مهما كانت أدواته، استطاع أن يضع تعريفا واحدا وواضحا للرواية، إذ إن الرواية ستظل لعبة/حكاية تستطيع غمر القارئ فى متعتها التى يمنحها الكاتب بمحبة شديدة ودونما ادعاء للقراء.
وهنا أسأل.. هل كانت هناك محبة أكثر من تلك التى كتب بها «كافكا» رسائله إلى ملينا، والتى ضمنها عشرات الحكايات الخالصة والصادقة التى راقت لملينا للدرجة التى أوقعتها فى غرامه وجعلت القراء بعد إزاحة الستار عنها- أى الرسائل- مفتونين بهذا الكاتب المعذب؟. هذه القدرة على الحكى الصافى المجرد والممتع حد الغواية هل تخرج رسائل «كافكا» من دائرة الرواية لمجرد أنها خالفت كل شرط من الشروط الخاصة بالشكل الروائي؟.
فى الواقع لن أجيب عن هذا التساؤل، ولكن دعونا نترك الإجابة لكل الأعمال السردية، التى التزمت بكل شروط الشكل الروائى، ولم تخل من أى عنصر من عناصر الرواية، التى حددها ورسمها بعناية نقاد فائقون، إلا أنها لم يكن لديها القدرة على أن تفتن الجمهور أو تأسرهم إلى الأبد (راجع قراءتك لعشرات الروايات التى أجازها النقاد فى ظروف غامضة لكنها لم ترق لك ولم تعلق بروحك عبارة واحدة من عباراتها ولم تقابل أيا من شخوصها فى واقعك المكتظ بالشخصيات).
إلى جوار رسائل «كافكا» هناك العشرات من الأعمال التى ارتقت فوق الرواية لما بها من متعة جامحة وابتكار أشكال جديدة من فنون السرد والحكى الشجى، منها مثلا كتاب يوميات القراءة لألبرتو منجويل، الذى يحتوى على حكايات عن الأماكن والشخصيات التى يلتقيها المؤلف، وكذلك الشخصيات التى تمتلئ بها الكتب التى تحدث عنها وعن أصحابها.. هل وضع كلمة (يوميات) على غلاف كتاب «منجويل» يخرجه من تصنيفات الرواية؟ لا أعرف. ولكنى كقارئ اعتبرته رواية.. ورواية رائعة الجمال وبالغة الإمتاع إذ فتح ألبرتو منجويل أمام قارئه عالما فسيحا من الحكايات عن أسفاره والكتب التى كانت برفقته فى هذه الأسفار، وحكى بطريقته فائقة الجمال عن هذه الكتب.
تعريفات الرواية ليست دائما فى صالح القراء، إذ لو التزم بها ناشر أعمال إدوارد غاليانو لما كنا وقعنا فى غواية رواياته البعيدة عن السرد الطويل والمعروف. استخدم «غاليانو» الشذرات فى «أبناء الأيام» كما فى «ثلاثية النار» لكن هذه الشذرات كان لها وقع السحر.. السحر الذى فشلت فى منحه للقراء روايات التزم أصحابها كرهبان بكل شروط الرواية وأنساقها المعدة سلفا. 
المتمردون كثيرون وهم وحدهم القادرون على منحنا المتعة الخالصة عندما نجلس بين أيديهم ليروا لنا الحكايا، وهى فى الواقع ما نبحث عنها بصرف النظر عن القوالب التى ستقدم لنا من خلالها. 
كان الدكتور طه حسين واحدا من هؤلاء المتمردين ليس على الشكل فقط، ولكن على كثير من المضامين، فمن منا ينسى تمرده الهادر فى الشعر الجاهلى أو الأدب الجاهلى الذى كاد أن يفتح عليه بابا من أبواب الجحيم.
عاش طه حسين متمردا كبيرا على كل الأنماط السائدة فى الثقافة لذا جاءت روايته (خطبة الشيخ) الذى كتبها فى بدايات القرن المنصرم رائدة فى إزاحة كل محاولات التنميط للفن الروائى، إذ نسجها عبر مجموعة من الرسائل التى لم تخل من الحكايات الدالة على ثورة صاحبها وتمرده ضد كل راسخ بوقاحة فى الفن وقبل كل شيء وبعده فى العقل والوجدان.

محمد حافظ يكتب: النص المجهول محاولة ناعمة للتغيير الحاد
«.. وأنا منذ ذلك اليوم أعيش من المنى فى روضة فيحاء، ومن الآمال فى حديقة غناء قد التقت أشجارها، وتفتحت أزهارها، وقد غردت فيها الأطيار، وجرت من تحتها الأنهار، يتأرجح نسيمها بعبير المسك، ويلقى فيها الرجل الصالح جزاء ما قدم بين يديه من النسك، وكيف لا وأنا منذ ذلك اليوم أعلل النفس بقراءة كتاب سطرته عقيلة العفاف وربيبة الصون..».
كيف لأب يحيا فى مجتمع محافظ ومنغلق أن يسمح لرجل تقدم لخطبة ابنته أن يكتب لها مثل هذا الحديث الذى يرقى إلى الغزل، والذى يمكن أن «تطير فيه رقاب»؛ لولا أن هناك أديبا كبيرا مثل الدكتور طه حسين عميد الأدب العربى، تقدم الخطى وأملى وثيقة «خطبة الشيخ»؛ التى تضج بسيرتها المجالس الثقافية الآن بعد ما يزيد على قرن كامل على نشرها.
وهو أمر يدل على مدى سعة أفقه، وتفتح مداركه، وقدرته الفائقة على قراءة المستقبل، بل وتقدمه صفوف المثقفين فى الدعوة إلى الاقتداء بأسس الحضارة المدنية الحديثة التى لمسها وتأثر بها فى عاصمة النور، وتأتى متسقة مع ما دعا إليه خلال كتابه العمدة «مستقبل الثقافة فى مصر»، ولم لا وقد شغلته مشكلة التعليم فى مصر وأفرد لها مساحة كبيرة من كتاباته وتفكيره. وإذا كانت الشخصية الرئيسية فى «خطبة الشيخ» تتناول قصة «معلمة»؛ فإنها بذلك لا تخرج عن الإطار العام لاهتمامات عميد الأدب العربى، بل إن النص يتناول على الطرف الثانى منه شخصية «شيخ» ينتمى إلى المؤسسة الدينية فى مصر، وإذا به يراسلها لينال منها القبول، وهو أمر لم يكن يحدث فى عام ١٩١٦، وجديد على مسامع الجماهير، وكأن «العميد» يحاول أن يؤسس لمبدأ الحوار بين أهم مؤسستين تشكلان وجدان المجتمع. وإننى فى عام ٢٠١٧؛ أضع نفسى محل «العميد»؛ الذى نشر وثيقته فى جريدة «السفور» عام ١٩١٦، ولن أدخل هنا فى جدل ما إذا كان النص الذى بين أيدينا رواية أم لا، وإن كنت أميل إلى أنه نص أدبى لا يدخل فى إطار مجال الرواية؛ وهنا أظن أنه حاول تغيير الأفكار المنغلقة هذه بشكل غير مباشر، ولو أنه فعلها فى صورة مقال لتعرض لهجوم شرس من الجميع، لأن الإنسان عدو ما يجهل وهو ما تعرض له أستاذه أحمد لطفى السيد، من خلال واقعة سقوطه المدوى فى انتخابات البرلمان. ومن هنا يمكننى أن أجد تفسيرًا للطريقة التى نشر بها «العميد» رسائله فى باب الأدب، وليس فى أى باب آخر من أبواب المجلة، باعتباره نصًا أدبيًا يمكن أن يتحمل أكثر من تفسير، بخلاف المقالات السياسية أو الاجتماعية وغيرها من الفنون الصحفية المختلفة التى تكون موجهة برسالة مباشرة، وله فى ذلك أكثر من وجهة نظر، لأن الأدب يبقى وله صفة الدوام، كما أن تأثير المواد الإعلامية غير المباشرة تكون أقوى وأكثر رسوخًا فى ذهن المتلقى على المدى الطويل.
وأعتقد أن ظاهر النص الذى يعالج ظاهرة «النسوية»، يتصدى فى عمق النص لقضية أهم، وهى قضية الديمقراطية والحرية فى المجتمع المصرى؛ لأنها فى النهاية ترسخ مبدأ حرية الاختيار والقرار، والتركيز على أن الابنة تدرك فى نهاية الأمر أنها لو تمت خطبتها لشخص ليس به عيب يذكر؛ فإن لها حق القبول والرفض وليس مجرد الإذعان دون رأى، فإن المدلول والرمز اللذين يتركهما النص يعدان طوبة فى طريق الثورة الليبرالية عام ١٩١٩ التى اندلعت بعد سنوات من نشر النص المثيرة للجدل.


محمد نبيل يكتب: عن الكتابة التى تقود ثورة
تمرد «العميد» على الأشكال النمطية فى الفن الروائى بروايته المجهولة.. وسار على نهجه أديب نوبل فى «حديث الصباح والمساء» 
لا تأتى الثورات مصادفة، هناك دائما تمهيدات، حتى وإن لم يلحظها الجميع، كان الإعلان مؤخرا عن اكتشاف رواية مجهولة لعميد الأدب العربى طه حسين، حدثا شغل الرأى العام كثيرا، لعدة أسباب كان أبرزها الروح الحية التى يتمتع بها طه حسين، فكيف بعد كل هذا الاحتفاء والتقدير والمنجزات التى لا تقدر بثمن يتم اكتشاف عمل آخر قد يغير مسار الأبحاث التى تتناول تجربته وتضيف عليها بعدا آخر.
جاءت الرواية عبارة عن عدة رسائل تتبادل بين مجموعة أشخاص، هم: إحسان بطلة الرواية وصديقتها أسماء ووالد إحسان وخطيبها وصديق والدها، تدور الرواية حول معلمة تدعى إحسان، يرشح والدها لها زوجا هذا الزوج طالب فى الأزهر يختاره والدها القاضى بالمحكمة الشرعية بناء على عدة صفات يظن أنها حسنة، لكن إحسان تقع فى حيرة ما بين ترك وظيفتها كمعلمة وبين الوقوع فى شرك رجل مجهول لا تعلم عنه شيئا، فتبدأ بمراسلة أسماء زميلتها فى المدرسة لتطلعها على ما حدث وتطلب استشارتها ورأيها وهنا، تثار عدة قضايا مهمة، من بينها تحرر المرأة والتنوير، وهل الزواج بهذه الطريقة يعد مقبولا أو مرفوضا، وهل الأفضل الاستمرار فى تحقيق أحلام على المستوى الوظيفى أو أن المرأة تعيش لرجلها، كل ذلك كان ما قبل ثورة ١٩١٩ التى جاءت لتعزز من الفكر الليبرالى والديمقراطية والحريات والانتصار لحقوق المرأة والمساواة بينها وبين الرجل.
هناك جدل أثير حول تصنيف «خطبة الشيخ» أكانت رواية أو مجرد مجموعة رسائل صحفية، تستهدف إثارة قضايا تنويرية، لكن المتأمل لمجموعة الرسائل الـــ ١٥ يكتشف أن فى ترتيبها تسلسلا دراميا وحبكة رواية جيدة أو نوفيلا «رواية قصيرة»، فلا مانع أن تسرد الرواية على طريقة رسائل أو بأى طريقة أخرى ما دامت تشكل فى النهاية حبكة لحكاية ما، فمن الممكن اعتبارها رواية تتعدد بها أصوات الراوية، فعندما كتب نجيب محفوظ ملحمته الروائية حديث الصباح والمساء، كتبها بهذه الطريقة عبارة عن مجموعة قطع أدبية حول أشخاص، فمثلا فقرة عنوانها يزيد المصري، فيتحدث خلالها عن لمحة من حياة هذه الشخصية الفقرة التى تليها يتحدث عن شخصية أخرى، وتفاجأ فى نهاية الرواية بعد سرد حياة لعشرات الأشخاص أن جميع الحكايات تشكل نسيجا واحدا وترتبط ببعضها ارتباطا وثيقا.
كانت «خطبة الشيخ» خير آية على الكتابة التى تمهد لاندلاع ثورة، أو تعبر عن الحالة السائدة قبل اندلاعها، إذ اشتبكت مع السائد، وحاولت أن تكسر تابوهات سيطرت على الحياة المعيشة حينها من أخلاقيات صارمة ومحاولة حجب المرأة عن الحياة عموما، وانتصرت لمبادئ كان يجب أن تحل محل تلك الأخلاقيات البالية، الذى اعتبرها المفكرون أنها ضد التقدم والحياة المدنية، وقاد الإمام محمد عبده هذه الثورة الفكرية، ذلك الإمام الذى لم يخل ذكره من رواية طه حسين، فقد كان الخطيب الشيخ ووالد إحسان يحضران حلقاته ويروجان أفكاره ويتناقشان فيها.
من هذه النوفيلا يستطيع القارئ أن يحدد مجموعة أفكار وقضايا عامة شغلت بال عميد الأدب العربي، ومنها قضايا التنوير وحرية المرأة بالتحديد، عالج هذا أيضا فى روايته الخالدة «دعاء الكروان»، ومنها أيضا قضايا التراث وتجديد الخطاب، ومنها قضايا اللغة والأساليب الأدبية، فقد تضمنت الرواية مناقشة فى الأساليب الأدبية، حين طلب والد إحسان ذلك القاضى الشرعى من الشيخ خطيب ابنته أن يعذره إن كان أسلوبه ليس فريدا، ويتمتع بجماليات أدبية مثل أسلوبه، حيث إنه أزهرى والتعليم الأزهرى يعطى مساحة للجماليات الأسلوبية غير المعاهد الخاصة بتخريج القضاة الشرعيين، وبدءا يتنقاشان معا فى اختلاف مسارهما التعليمى الذى فرض اختلافات فى الأساليب. فى أسلوب طه حسين جماليات فريدة منها التشكيل بالصوت، أو رسم مشاهد جمالية عن طريق الأصوات فقط مثل غناء العصافير وخرير المياه ويشعر قارئه أن العميد يحاول فى أسلوبه وضعه فى نفس حالته والاستمتاع بالجمال ورؤيته وليس شريطة أن تكون الحصيلة البصرية مشاركة فى هذا فالأذن قد ترى الجمال أيضا.