الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

جاد الله نجيب يكتب: رحلة الاكتشاف وتغيير مسار التاريخ

القس جاد الله نجيب
القس جاد الله نجيب راعي كنيسة المجتمع العربي بانجلترا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تكن جدران الدير الشامخة ولا الصلوات التي يرفعها الرهبان ليل نهار، الملجأ والسلام اللذين كان يبحث عنهما لوثر، ولم تُطفئ رسامته ككاهن لهيب الغضب في داخله، بل قد تكون قد زادته حدة وليعلم القارئ العزيز أن مشكلة مارتن لوثر لم تكن هي الدير أوالصلوات، بل كما ذكرنا من قبل، بل كانت مفهومه الديني عن الله، بأنه إله لا يرحم، ولم يكن يجد لوثر سبيلًا لإرضاء هذا الإله.
يوحنا فون شتوبتز (Staupitz)
من أعظم ما حدث لحياة مارتن لوثر في الدير الأوغسطيني، مقابلته لشيخ وقور يدعى يوحنا فون شتوبتز. كان "شتوبيتز" الأمين العام لكل الأديرة الأوغسطينية في ألمانيًا. كان يتسم بنبل الأخلاق ودقة السلوك وسمو الحياة الروحية والتواضع، وكان مثاليًا في حياته ووداعته ومحبته. اهتم ب "لوثر" اهتمامًا أبويًا، فاصبح فعلًا أبوه الروحي، وبالتالي وثق لوثر فيه واطمأن إليه، فاستطاع أن يبوح إليه بأسراره، وأن يعترف بخطاياه، وأن يشاركه همومه ومشاكله الروحية. ويقول الدكتور حنا جرجس الخضري أن شتوبيتز لعب دورًا هامًا في حياة لوثر، فقد حدث تفاعل "بين رجل تقي عميق الإيمان مستنير، ومطلّع ليس فقط على أقوال الآباء، وخاصة كتابات القديس اغسطينوس بل على الكتب المقدسة أيضا. وشاب قلق مضطرب يبحث بجد وأمانة عن طريق الخلاص وهنا يتقابل هذا مارتن لوثر المضطرب الخائف من الله مع هذا الرجل الواثق من الله والمحب له." والذي استطاع أن يقنع لوثر أن يقرأ الكتب المقدسة، وتعاليم القديس أوغسطينوس. وقد اعترف لوثر بالفضل في خطاب لأبيه الروحي " شتوبيتز" يقول: " أنت قبل أي شخص آخر هو الإنسان الذي جعل نور الإنجيل يضئ في ظلام قلبي". 
رأى الأب الروحي في لوثر، شخصية مفعمة بالحيوية والذكاء، والتقوى الصادقة، والجدية في العمل والرغبة في البحث والدراسة. ولأن شتوبيتز كان عميدًا لجامعة فيتنبرج (Wittenberg)، فأراد أن يحدث نقلة نوعية في حياة لوثر، فأخرجه من الدير الوسط الذي كان يعيش فيه، إلى الجامعة ومرحلة الدراسة والتدريس. 
كانت مدينة فيتنبرج عاصمة الشمال، مدينة صغيرة بها كنيستان صغيرتان. قال أحد عنها: "إنها مدينة فقيرة لا أهمية لها، بيوتها خشبية صغيرة، قديمة قبيحة الشكل".
في عام 1508م، ترك لوثر دير "إيرفورت" إلي المدينة الجامعية في فيتمبرج الصغيرة. وعُيّن لوثر مدرسًا كان يحاضر في الفلسفة الأخلاقيّة في جامعتها الجديدة، في نفس الوقت كان يدرس في كلية اللآهوت، حيث منحته درجة البكالريوس في الدراسات الكتابية التي أهلته لتدريس الكتاب المقدس بدل الفلسفة. كانت هذه السنة ثرية في حياة لوثر في الدراسة، واكتساب أصدقاء جدد. بل وتعتبر أهم الفترات في حياته التي زاد فيها القلق الروحي.
في عام 1509م، عاد لوثر إلى "إيرفورت" ليتابع دراسته، ويحاضر في اللآهوت. أما أساتذته في "إيرفورت" فكانوا من أتباع مدرسة اللآهوت الإسمي (Nominalist) الّتي أنشأها "وليام أوكهام"، الّتي قللّت من دور العقل في الوصول إلى الحقائق اللآهوتيّة وشدّدت على دور الإرادة الحرة للإنسان في تحقيق خلاص الإنسان. وربما بسبب تأثير التقوى الشعبية وتعليم الفكر الآهوتي ل"أوكهام"، كان "لوثر" يرى في الله قاضيًا غضوبًا يتوقع من الناس أن ينالو تبريرهم بأنفسهم. 
زيارة روما 
في خريف سنة 1510م، جاءت الفرصة الذهبية للوثر ليزور روما في مهمة رسمية تخص الأديرة الأوغسطينية. تراقصت صورة روما أمام عينيه، حال علمه بخبر تكليفه بهذه المهمة. إنها المدينة التي كان يطلق عليها "أورشليم المقدسة"، والتي يقيم فيها البابا نفسه وكيل المسيح على الأرض وخليفة الرسول بطرس. المدينة التي استشهد فيها بطرس وبولس. روما التي شاهدت صراع ونضال المسيحيين الأولين الأبطال، الذين استطاعوا أن يحصلوا على خلاص أرواحهم من العذاب الأبدي بصبرهم وعذابهم وآلامهم وتضحياتهم حتى الموت. روما التي امتلأت بالكنائس وبذخائر القديسين. وعن طريق زيارة بعض هذه الكنائس وبعض ذخائر القديسين يستطيع الإنسان التائب أن يحصل على غفرانات كثيرة ولسنين عديدة. 
وعندما اقترب من روما بعدما عبر جبال الألب وهو عاري القدمين، سجد وهتف بيدين مرفوعتين إلى السماء قائلا: ايه يا روما المقدسة المباركة أني أحييك! وتحت تأثير حماسه أسرع يطوف في الأماكن المقدسة ويصغي إلى أحاديث تاريخها ومعجزاتها، مؤمنا بكل ما يرى ويسمع، متطلع لحل مشاكله الشخصية الروحية. توقع لوثر أن يجد في روما المركز الحقيقي للكنيسة، عمقًا في الروحانية لم يراه في ألمانيا. لكن خذلت نفسه حالة الرهبان ورجال الدين. فقد كانوا يعيشون عيشة البذخ والرفاهية، كأمراء وحكام لا خدام معلمين ومبشرين وخادمين، وأفزعت روحه عدم كفاءة الكاهن الذي اعترف أمامة، بالإضافة إلى خيبة إمل وإحباط من الإنحطاط والفساد الأخلاقي الذي لمسه في حياة الكهنة والرهبان. وقد رأى لوثر القوة الدنيويه في الإداره البابويه الرومانية، التي تمثلت في صكوك الغفران. عندئذ تحقق لوثر بأن الأمر قد تخطى إلى أبعد من أن تكون أخطاءًا فردية، لكن النظام بأكمله دب فيه العطب والتعفن، حتى أنه وصف زيارته إلى روما بعد عشرين عامًا، كما بدت له من منظور مصلح، فأطلق على نفسه "القديس المتشدد الذي اندفع بين الكنائس وسراديبها مصدقًا كل مظاهر الكذب والتزييف البغيضة بتلك الأماكن." 
وبما أنه كاهن، عندما دخل كنيسة القديس يوحنا، شعر بالحزن الشديد، لأن والديه مازلا على قيد الحياة. فكان السائد، إذا أقام كاهن قداسًا مساء الأحد في هذه الكنيسة، فإن روحا والديّ الكاهن الذي يقيم القداس تخرجا من المطهر. وزاد الحزن انه لم يستطع أن يستفيد من هذه الفرصة، ولا حتى من صعوده السلم المقدس (Scala Santa)، وهو السلم الذي كان أمام كنيسة روما، وهو عبارة عن ثمان وعشرين درجة يقال أن المسيح صعد عليه للمثول أمام بيلاطس عند محاكمته، والتي يعتقد أن القديسة هيلانه، أم قسطنطين الكبير، أحضرتها من أورشليم إلى روما. وكان المعروف أن من يصعد هذا السلم على ركبتيه مصليًا على كل درجة الصلاة الربانية يحصل على غفران خطايا، وتسمح له بتخطي المطهر. لقد صعد لوثر وفعل حسب العادة، وكان يقبل الأرض كلما صعد، وعندما وصل لوثر إلى القمة، لم يشعر بشئ، بل 
زادت حيرته وتدفقت اسألته، وزاد الخوف والقلق. وكل ما قاله هو: "كيف أتأكد إن كل هذا صحيح؟" 
لقد ذهب إلى روما يملؤه الأمل في الحصول على السلام الداخلي، ولكنه رجع منها مثقلًا وحزينًا وبائسًا ولهذا فقد بدأ من جديد الصراع في الحصول على الخلاص وعلى إرضاء الله القاضي. 
العودة إلى فيتنبرج
في عام 1511م، بأمر من أبيه الروحي " شتوبيتز" غادر لوثر "إيرفورت" وذهب إلى "فيتنبرج" وكان لا يزال الصراع الروحي يحفر في أعماقه. كانت قدرات لوثر الدراسية تساعدة في التقدم السريع كدارس ومدرس، فقد مُنح درجة الدكتوراه في اللآهوت في أكتوبر 1512م. وعين لوثر أستاذ كرسي تعليم الكتاب المقدس في الجامعة، وهو المنصب الوحيد الذي تقاضى فيه لوثر مرتبًا ثابتًا. 
وفي عهد نذر التعيين لهذا المنصب، تعهد لوثر بأن يدرّس ما يجده في الكتاب المقدس، حتى وإن خالف تعاليم الكنيسة الكاثوليكية وممارساتها. وهكذا أعد "شتوبيتز" الأب الروحي، دون معرفة لوثر لبدء حركة إصلاح لم يكن قادرًا على القيام بها هو بصورة شخصية. ففضل أن يُعِد لوثر لإصلاح الكنيسة، فنحن مدينون له بلوثر الإصلاح. 
كان عمل الدكتور الجديد هو تفسير الكتاب المقدس، فبتدأ في شرح وتفسير المزامير، والذي حفظه عن ظهر قلب تقريبًا، من (1513 الى 1515م). ويقول دانيال أوليفييه، كانت هذه الدراسات تحتوي على جميع كنوز التقوى والتعليم المسيحي، فمكنّت لوثر من القيام بجولة أفق واسعة تشمل جميع المشاكل التعليمية. 
كما أنه درس وقدم محاضراته في رسالة رومية (1515 – 1516م) ورسالة غلاطية (1516 – 1517م)، التي قال فيها أنه أحبها كما أحب زوجته، ثم رسالة العبرانيين ( 1517 – 1518م) قادته رسالة العبرانيين إلى التأمل في سر المسيح. 
وقد اكتشف لوثر في عام 1516م، مخطوطة ألمانية مجهولة المؤلف، أيد ما بها من التقوى الصوفية رأيه في اعتماد الروح الكلي في الخلاص على نعمة الله ورحمته، إلى حد أنه أعدها للنشر وطبعها باسم "لآهوت ألماني Theologia Germanica". 
في دراسته للكتب المقدسة، ومحاضراته، بدأ يبحث ويتعمق ويفتش. وكان يختلي بنفسه في غرفة صغيرة، وكان يطيل الاختلاء والتأمل. فكانت دروسه التي يلقيها على تلامذته، تثبت تمامًا اختباره الشخصي. فإن العنصر الحاسم الذي شكّل حياة لوثر هو الكتاب المقدس، رغم أنه ساهم في البداية في تعميق خوف وقلقه واضطرابه. فكتب لوثر يقول:" كنت أجعل من المسيح موسى آخر يضيف وصاياه إلى أحكام الشريعة التي كنت اعجز عن ممارستها." 
لقد قدم لوثر التعليم البسيط للكتاب المقدس بقواعده اللغوية وتاريخه، وفي عام 1517م، عزم على ما سماه " إصلاح الدروس اللآهوتية"، وقام بهذا العمل بشعور حي بمسؤليته كأستاذ. فأراد أن يدرس الكتاب المقدس واللغات الكتابية،بدل أرسطو والكتّاب. ولذلك ليتمكن التلاميذ من الوصول إلى النصوص الأصلية. وبدل الاعتماد على الثقافة المستمدة من الكتب أراد العودة إلى ينبوع المسيحية، وهو الكتاب المقدس، شرط أن يدرس بوسائل نقد النصوص. الذي يعتبر لوثر واحد من رواد هذا الاتجاه. 
نور جديد في حياة لوثر 
كانت الغرفة الصغيرة التي تقع في الجانب الأيسر من برج كنيسة فيتنبرج ( Wittenberg)، هي معمل تشكيل حياة مارتن لوثر. فقد كان يختلي بنفسه فيها فترات طويلة للتأمل، والبحث والغوص في أعماق كلمة الله. 
كان لوثر في الكتاب المقدس عن فهم جديد، وبعد شخصي يختلف عن التأويل الرسمي الراسخ من قبل سلطة الكنيسة وهيبة التراث المنقول أبًا عن جد منذ مئات السنين. وكما يشرح هشام صالح في تحليله لشخصية لوثر، "أنه كان يريد، كما لو على غير وعي منه، أن ينفض الغبار عن الكتاب المقدس لكي يقرأه بروح مختلفة، ولكي يراه بعيون جديدة، ولكي يفهمه بشكل ط ري، طازج، حر." 
أن عوامل كثيرة ساهمت في استنارة لوثر وشكلت قلبه وعقله واتجاهه وبعض منها كلآتي:
 خبرات الماضي بين المدرسة والجامعة والدير. أستاذه وأبوه الروحي شتوبيتز، الذي لعب دورًا هامًا ورئيسيًا في تطوير حياة لوثر. فعندما كان ينتاب لوثر اليأس، كان شتوبيتز يحيله إلى الكتاب المقدس ورسالته الإيجابيه، وأيضًا إلى تعاليم القديس أوغسطينوس، الجانب الإنجيلي فيها. وفي خطاب كتبه لوثر في سنة 1545م، عبر فيه عن إمتنانه لأبيه الروحي قائلًا: "كان فيه، الفضل له في ميلادي الثاني في المسيح، كما أني مدين له أيضًا بنور الإنجيل الذي أنار حياتي" 
 البحث الطويل في فهم الكتاب المقدس فهمًا جديدًا، وإعادة اكتشاف أوغسطينوس، خاصة الأوجه الإنجيلية في تعليمه الآهوتي. الدراسة التي ساعدته على مراجعة مفهومه لعدل الله. 
 كانت الغرفة الصغيرة التي تقع في الجانب الأيسر من برج الكنيسة في فيتنبرج، مكان يطيل لوثر الأختلاء والتأمل فيه. في تلك الغرفة بدأ يبحث ويتعمق ويفتش، ليس الكتب المقدسة وحدها ولا حتى كتابات أوغسطينوس، بل غاص في أعماق نفسه. فوجد الحل في مكنونات نفسه، ومعتقداته الخاطئة عن الله. يقول "هشام صالح"، الكاتب السوري في تحليله عن شخصية لوثر: " كان لوثر شخصية هشة، قلقلة تئن تحت وطأة ألآمه معتقداته المغلوطة عن الله. ولكن عظمته تكمن في أنه خاض المعركة الداخلية مع نفسه "على المكشوف" دون أي مواربة أو مداورة. وانتصر في نهاية المطاف على نفسه وأصبح أكبر قوة في ألمانيا، قوة لا تناقش ولا تُرَد. ويعلق هشام صالح، مسترسلًا:"أن من ينتصر على نفسه بعد صراع ضار يستطيع أن ينتصر على الآخرين. ومعركة الخارج لا يمكن أن تحسم إلا بعد حسم معركة الداخل. " 
كل هذه العوامل السابقة، كانت ومضات من نور إلى داخله، تجْلوا مساحات الظلمة في داخله رويدًا رويدًا على غير وعي منه، حتى وصل إلى لحظة إشرق في النفس والقلب والإدراك. إنها لحظة الولادة الثانية التي لا تقل أهمية عن الولادة الأولى، إن لم تزد. إن ولادة مارتن لوثر الجديدة تمثلت في اكتشافه للحقيقة العظيمة والتي تعد بالنسبة له تحريرًا على كل المستويات، وهي عقيدة التبرير بالإيمان. الاكتشاف الذي غير مسار تاريخ الكنيسة وتاريخ أوروبا. 
فهم لوثر مصطلح "بر الله"على أنه يعني أن الله هو الديان العادل الذي يطالب البر البشري، أما الآن، فقد فهم البر كعطية من نعمة الله. الفكر الذي قدمه أوغسطينوس وهو "أن الله بنعمته المجانية يبادر إلى تخليص الإنسان بالإيمان فقط، وبعد هذا الاختبار، يبدأ الإنسان بالتعاون مع الله في حياته الروحية." 
كيف استنتج لوثر هذا الفهم الجديد؟ الأقرب لتحليل ماذا فعل لوثر هو في فرص اختلائه في الغرفة الصغيرة "العُلية أو البرج " المكان الذي اختبر فيه الولادة الجديدة والاكتشاف المذهل، الذي يسمى "اختبار البرج" Tower Experience، فيه فحص لوثر بدقة كامله الكتاب المقدس ليتأكد أن المعرفة الجديدة التي توصل إليها تبقى صحيحة عند مقارنتها بعبارات أخرى في الكتاب المقدس.‏ وقد عثر في كل ما قرأه على أدلة تؤكد صحة ما وصل إليه"، أي قارنًا الروحيات بالروحيات.‏
وفي فهمه لهذا البر، استعمل لوثر عبارتين لكي يشرح بهما فكره عن بر الله: عبارة (البر الفعال، (Active Justice) و(البر السلبي، (Passive Justice فماذا يقصد لوثر بهذين الاصطلاحين؟
إن البر الفعال هو البر الذي يمنحه الله للإنسان: فهو عمل الله ويسمى بر الله العامل أو النشيط أو الإيجابي، لأن الله هو الذي يمنح أو يخلق فينا هذا البر. أما البر السلبي فهو عبارة عن موقف الإنسان أمام الله إزاء عملية التبرير. فالإنسان لا يأتي إلى الله بأعماله الصالحة النشيطة التي تبرره، بل تأتي سلبيًا (بلا عمل) والله يبرر هذا الإنسان: فالإنسان هنا مستقبل في هذه الحالة أي أن الله هو الذي يقوم بعملية التبرير المجاني. والإنسان ما عليه الا أن يمد يده لكي يقبل هذا التبرير من الله الفاعل والعامل والمقدم لهذا البر.
هنا يكمن الاكتشاف اللآهوتي الكبير لمارتن لوثر. وسوف تكون له انعكاسات هائلة ليس فقط بالنسبة له شخصيًا، وإنما بالنسبة للمسيحية الأوروبية ككل. هذا ما وصفه " هشام صالح" "بالانقلاب اللآهوتي الكبير الذي أحدثه مارتن لوثر والذي ترتبت عليه كل الانقلابات اللآحقة: من أخلاقية، وروحية، واجتماعية، وسياسية، بل وحتى الاقتصادية." 
لم يدّخر لوثر جهدًا في أن ينتهز الفرص التي كانت تتاح له للوعظ في الدير أو كنيسة الجامعة. وكان صوته الموسيقي العذب يخلب قلوب السامعين. وكان تفكيره يتميز بالطرافة والتجديد الجريء. وكان يشدد على قول الكتاب: إن البار بالإيمان يحيا لا بأعمال الناموس. وأن الله هو إله محب عطوف، لا ديان غضوب منتقم. وإننا حينما نأتي إليه لا يلزم أن نأتي بحزمة من الأعمال الصالحة نرشوه بها لنحمله على حبنا، بل علينا أن نأتي إليه بضعفنا وعدم استحقاقنا، بتضرعات البنين. 
صكوك الغفران
في ألمانيا، طلب مجلس الأمة (الدايت) في أوجسبورج بضرورة إعادة المبلغ الكبير من المال إلى ألمانيا من روما في اليوبيل عام 1500م، وهو ما كانت تحوّله ألمانيا إلى روما في عهد البابوية آنذاك إذ كان البابا قد سحب من ألمانيا دخلًا يزيد مائة مرّة عما يستطيع هو نفسه أن يتحصل عليه منها حسب تقدير الإمبراطور ماكسمليان لذلك، وفي عام 1510م طالب الألمان بضرورة وضع حد لتدفق الأموال الألمانية إلى إيطاليا، وبمعنى أوضح إلى نهضة إيطاليا التي تموّل الشعر والفن بالذهب الوارد إليها من وراء جبال الألب. 
على أنه لم يكن بيع صكوك الغفران جديد على الكنيسة. فهذا المفهوم يعود إلى القرن الثاني عشر، فقد كان يُصفح عن الأغنياء الذين أخطأوا، بالتبرع بالمال للحملات التبشيرية. وتطورت الفكرة فوضعت الكنيسة قوانين وأحكام كان يتحتم على كل فرد أن ينفذها بدقة، وإلا فعليه أن يذهب إلى المطهر ليستوفي القصاص المطلوب. وذهب بعضهم إلى الاعتقاد أنه ينبغي عليهم أن يجتازوا الآم المطهر لمدة طويلة تصل إلى آلاف السنين أوملايين السنين. فكانوا يعملون ما في طاقتهم على تقصير مدة المطهر. من هنا نشأت فكرة المطْهر، فاندفع الناس إلى شراء الغفرانات. 
وعندما اختير ليون العاشر ( (Leo X، بابا للكنيسة عام 1513م، كان طموحًا سياسيًا، وكنسيًا أيضًا.
من جهة السياسة: استخدم رجاله الدبلوماسيين، وجنوده، في توسيع رقعة الدولة. فقد ضم عدة ولايات، منها فلورنسا، وميلان، وبياتشندسا، وبارما، ومودينا، وفيرارا، وأربينو ليقف بقوة ضد قوى الشمال التي تهدد با قتسام إيطليا. وأيضًا، يقود أوروبا في حرب ضد الأتراك الذين لا يفتئون يهددون بالغزو. 
أما دينيًا: فكان ليون مغرمًا بحياة الرفاهية والبذخ وتعظم المعيشة والإسراف، بما أنه من عائلة كانت ثرية، كما أنه كان شغوفًا أيضا بالفن والعمارة ولذلك فقد عزم على إجراء بعض المباني والإصلاحات في كنيسة القديس بطرس استكمالًا لما بدأه البابا يوليوس( Julius II) في عام1505م،. وكانت مطالب البناء، والتشطيب الداخلي بلاحدود. كل هذا كان يقود خزينة البابا إلى هاوية الإفلاس، وبالتالي فكانت الحاجة ملحة إلى تدبير الأموال لتيسير طموحاته السياسية وأعمال تشييد الكنيسة.
ولكي يحقق "ليون" طموحاته، فاتجه إلى الاقتراض من الأغنياء، عن طريق بيع المناصب الكنسية. وكانت هذه المبالغ بمثابة قروض تعطى عليها فوائد 10%. فكان ليو في الحقيقة يبيع ما نسميه في أيامنا هذه سندات حكومية. وكان في بعض الأحيان يقترض المال من مصارف روما بفائدة تبلغ أربعين في المائة. 
على أنه لم يبع هذه المناصب الإسمية وحدها، بل باع أيضًا أعلى المناصب الكنسية كوظيفة رئيس التشريفات البابوية. ارتفعت القروض وفوائدها، إلى حد العجز عن السداد، لم تصمد في سداد الاحتياجات الملحة بين السياسة واعمال البناء. فجدد البابا ليو عملية بيع صكوك الغفران. 
وأول من اشترى المنصب الكنسي هو الأمير (ألبرت Albert Brandenburg)، بالرغم من أنه كان في الثالثة والعشرين من عمره فقط، إلا أنه شغل منصب أسقف (مجدبيرج Magdeburg)، وأسقف ( هالبيرستاد Halberstadt)، ورئيس أساقفة (ماينز Mainz) و. 
قام البابا "ليون" وألبرت بعقد اتفاق يعود عليهما بالفائدة، فاتفقا أن ألبرت يدعو في مواعظه لشراء صكوك الغفران لمدة ثماني سنوات، على أن يسمح له بأن يحتفظ بنصف الدخل ليدفع "ضريبة الأسقفية" أي فوائد القروض، التي كانت عليه. فأناب ألبرت عنه راهبًا دومينيكاني نشيطًا، يدعى (يوحنا تيتزل)، للقيام بهذه المهمة. ولكن تنزل هذا كان عارًا وفضيحة مكشوفة في ما أوكل إليه، إذ كان يدخل كل مدينة في موكب مهيب ويقيم صليبًا كبيرًا في وسط السوق، ثم يلقي عظة نارية يتحدث فيها إلى الشعب البسيط عن آبائهم وأقربائهم الذين يتألمون في اللهيب الأبدي وهم يتوسلون إلى أولادهم أن يعملوا على إنقاذهم. وانتشرت مقولته: " بمجرد أن ترن العملة في الصندوق يخرج الروح من المطهر."
لم يستمر تيتزل كثيرًا في أغراضه الدنيئة، فقد اتهمته سلطات الكنيسة بالاختلاس، فعاش مزعورًا من الكارثة التي تسبب فيها، فأكره على عدم الخروج خوفًا من أن يعدم بدون محاكمة. ولاحقة الموت في غضون سنة بسبب الرعب الذي لف حياته.
ولادة الإصلاح: 
كان لوثر مستاءًا وغاضبًا من بيع صكوك الغفران.‏ فقد تيقن أنه لا يمكن للبشر أن يساوموا الله.‏ فقام بكتابة بعض القضايا، اي بعض الجمل القصيرة التي تعبر عن نقاط للنقاش مع بعض اللآهوتيين، فبلغ مجموعها 95 قضية. وكان هدف لوثر الإصلاح لا الثورة،‏ لذا أرسل نسخًا من قضاياه إلى رئيس أساقفة ماينز (Mainz) "ألبرت"،‏ وإلى عدد من اللآهوتيين الآخرين. وفي أكتوبر 1517م، وجه لرئيس الأساقفة تحذيرًا مهذبًا لكنه قويًا، وهو أن يغير تعليماته إلى "تيتزل" وإلا جلب على الكنيسة الخزي المهين والعار العظيم. 
لم يرد رئيس الأساقفة، إلا أنه ارتبك ارتباكًا أفقده توازنه،لأنه رأى في هذه الاحتجاجات تهديدًا واضحًا لمشروعه المالي، لإنه كان يعلق أملًا كبيرًا على نجاح هذا المشروع لكي يسدد عن طريقه ديونه الكثيره. فأرسل على الفور نسخة إلى روما للبابا ليون العاشر.
من الناحية الأخرى علق لوثر قضاياة على باب كتدرائية ويتينبرج، وكانت مكتوبة باللغة اللآتينية. ويقول بعض المؤرخين، إنه قد قام بعض أصحاب المطابع في مقاطعات ألمانيا بطباعة تلك القضايا ونشرها مما حققت انتشارًا غير مسبوق لأي مؤلف جامعي من قبل. إلا أن آخرون أن بعض الطلاب قاموا- رغم رغبة لوثر- بترجمتها إلى اللغة الألمانية وحالا تناولتها المطابع وقامت بطبعها ثم ترجمت إلى لغات أخرى، وفي خلال أسبوعين انتشرت داخل ألمانيا وخارجها. بفضل اللذين جاءوا لكي يحتفلوا بعيد جميع القديسين. وبدأ الجامعيون والعاميون، التجار وأصحاب الحرف في دراستها بل أصبحت موضوع أحاديث الناس. أما منافسو لوثر فقد رأوا أن نهايته قد اقتربت، وأن مصيره سيكون الحرق على خشبة مثل الذين سبقوه. 
وجدت احتجاجات لوثر الخمس والتسعين تأييد الطبقة المتعلمة في ألمانيا، ووقوف الآلاف ينتظرون هذا الاحتجاج، كذلك لقيت تهليل وترحيب الحركة المضادة لرجال الدين وانفلاتها من عقالها إذ وجدت صوتًا يعبر عنها. 
استلم البابا رسالة رئيس أساقفة ألمانيا وقرأها، وأدرك خطورة الموقف، حيث أن هذا سوف يؤثر تأثيرًا مباشرًا على المصالح الرومانية، وبدأ يفكر في حل. في نفس الوقت أرسل الراهب تتيزل، القائم بأعمال رئيس الأساقفة، إلى جامعة فرانكفورت لدراسة هذه الاحتجاجات، وبعد دراستها أقروا بأنها تحتوي على 116 خطأ عقائدي وبناء عليه رُفع الأمر إلى روما بأن لوثر هرطوقي ويجب محاكمته. 
لم يكن لوثر المستاء الوحيد من فساد الكنيسة وصكوك الغفران.‏ وكما ذكرنا سابقًا أن من مائة عام،‏ أدان التشيكي جون هس،‏ بيع صكوك الغفران.‏ وحتى قبل هس،‏ أشار جون ويكلف من إنجلترا إلى أن بعض التقاليد التي تتشبث بها الكنيسة ليست مؤسسة على الأسفار المقدسة.‏ وأيضًا معاصرو لوثر،‏ إيرازموس من روتردام وتندل من إنجلترا،‏ نادا بالإصلاح.‏ 
في ديسمبر 1517، كُلف الكاردينال " كاجيتان" وهو دومينيكاني ومن أعظم علماء الفاتيكان في ذلك الوقت أن يكتب له تقريرًا عن هذه الاحتجاجات. وفي نهاية الشهر قدم الكاردينال تقريرًا مفاده، أن لوثر يهاجم الكنيسة في مسألتين: 1- لا خلاص بالأعمال الحسنة أو بالاستحقاقات الشخصية.
2- أن البابا وسلطته غير معصومة وعلى المؤمن الاعتماد على الروح القدس الذي يرشده والرجوع إلى الكتاب المقدس.
وفي 3 فبراير (شباط) 1518 كلف البابا "ليون" الكردينال كاجيتان بأن يصدر أمرًا إلى شتوبتز المسئول عن الرهبانيات الأوغسطينية في ألمانيا، بأن يعمل ما في وسعه لكي يسحب لوثر احتجاجاته وأن يعلن طاعته وخضوعه وإلا فلابد من محاكمته في روما. 
كان شتوبتز الصديق المخلص للوثر في موقف حرج جدًا أمام طلب البابا. لذا دعا لوثر للمثول أمام مجمع من الرهبان وتحدد تاريخ الاجتماع في يوم 25 أبريل 1518 ومكانه في مدينة هيدلبرج (Heidelberg). انتهت المنافسة في جو هادئ لطيف، على أن لوثر لم يستطع أن يقنع معارضيه من الدومنيكان وخاصة كبار السن منهم، إلا أنه ترك في نفوس الشباب تأثيرًا عميقًا جدًا بل أن كثيرين منهم قرروا من تلك اللحظة تأييد لوثر تأييدًا كاملًا. 
كتب شتوبتز تقريرًا عن ما حدث في مجمع هيدلبرج وأرسله إلى روما 1518. وهناك تناول التقرير المسئول عن الشئون القانونية والمالية فكان فكتب في تقريره "أن لوثر هرطوقي ويجب محاكمته." 
وبناء على ذلك، استُدعى لوثر إلى رومة، من القضاة الرومانيون، ومن هنا كان لوثر قد دخل إلى عش الدبابير، فكثير ما كان الناس يموتون بالخنجر أو السم إذ لم يكن بالنار. لذا إلتجأ لوثر إلى فريدريك الحكيم(Fredrick the wise ) أمير ولاية سكسونيا ليتدخل، كما انه كتب إلى صديق له يدعى سبالاتين(Spalatin) وكان زميلًا له في الدراسة وأصبح سكرتير البلاط الملكي. 
ويقول الدكتور جون لوريمر: "عند هذه النقطة لعبت السياسة دورًا فاعلًا، فقد كان البابا "ليو" متشوقًا لكسب صدقة فريدريك. وكان الإمبراطور مكسمليان مشرفًا على الموت. فقد كان فريدريك واحد من سبعة لهم حق التصويت في انتخاب الإمبراطور الذي يرغبه البابا.... لذلك لما طلب فريدريك أن تعقد جلسة الاستماع الى لوثر في ألمانيا لا روما أمام الكردينال كاتيجان " Cajetan" رئيس الدومنيكان العام وممثل البابا الشخصي، وافق البابا."
تمت المقابلة في "أوجسبورج " Augsburg" لكنها وصلت إلى طريق مسدود، وآثر الكرادينال إقناع لوثر بالعزوف عن احتجاجاته، إلا أن لوثر لم يتنازل عن شئ، مُعربًا عن أنه ممكن أن يتراجع إذا كان ما كتبه خطأ يثبته الكتاب المقدس وتعاليم أباء الكنيسة. وقد إزداد الحوار حدة لما شكك لوثر في عصمة البابا. طلب كاجيتان من لوثر أن لا يعود إلى أن يغير رأيه. 
اُعتبر لوثر من ذلك الوقت هرطوقًا ويجب أن يحاكم كهرطوقي ولذلك فقد وعد الإمبراطور العجوز فاكسيمليان بمعاقبته ومطاردته كهرطوقي (. ولقد كلف الكاردينال كاجتيان للقيام بالإجراءات اللآزمة لدى السلطات الألمانية لكي يسلمه للمحاكمة في روما.
فأرسل البابا مندوبًا يدعى "كارل فون ميلتيتز “Miltitz وهو ألماني الجنسية، ذكيًا وسياسيًا محنكًا. ودبلوماسيًا ماهرًا بالرغم من صغر سنه، لإحضار لوثر للمحاكمة. وقد جاء لمقابلة الملك فريدرك حاملا ًفي إحدى يديه سوطًا وفي اليد الأخرى وردة من ذهب كهدية لفريدريك اعترافًا لخدماته للبابا. 
إلا أن أمير سكسونيا " فريدريك الحكيم " كان أكثر دبلوماسية وأطول خبرة وحنكة في الأمور السياسية. 
فقد أقنع "ميلتيتز" بأن لوثر لا يطلب إلا الاقتناع بأخطائه. وربما إذا وجد رجلًا حكيمًا يمكن أن يقتنع فطلب ميلتيتز مقابلة لوثر وهذا ما كان يسعى إليه الأمير إذا أنه كان يريد أن يثبت أن لوثر كان ومازال محقا في طلبه للمناقشة وليس للخضوع دون إقتناع، فطلب ميلتيتز مقابلة لوثر. وخرج ميلتيتز بانطباعات طيبة من هذه المقابلة وطلب إلى البابا أن يسند هذه القضية إلى قضاة ألمان للحكم فيها بعدها توفي الإمبراطور مكسميليان، وانشغل الديوان البابوي بالانتخابات فعُلِقت ملاحقة لوثر لمدة عام كامل. 
كان لوثر يؤمن بإن الخلاص الذي يبحث عنه هو في الكنيسة، ولا يجب أن يبحث عنه إلا في داخلها وحتى بعد أن دخل النور إلى قلبه فجدده، لم يفكر لوثر ولا لحظة واحدة أن يهجر الكنيسة المحبوبة بل كان راهبًا مطيعًا لرؤسائه وكاهنًا مثاليًا وأستاذًا قديرًا في محاضراته وتدريسه امتلك مارتن ذكاءً حادًا،‏ ذاكرة مذهلة،‏ وبلاغة في اللغة،‏ كما بذل جهودًا جبارة كرّسها لأعماله الكثيرة والمتقنة‏ كان مارتن أيضًا نافد الصبر،‏ هادئًا،‏ وعنيفًا تجاه ما أعتبره رياء، فما مصيرة بعد الهدنة التي فرضها موت الإمبراطور؟