الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

تطور العلاقات التاريخية بين الأقباط والمسلمين

زيارة البابا لمصر هدمت تاريخا من الفتور

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الشعب المصرى يميل دائمًا لاختيار الديانات السماوية.. منذ الفتح العربى تعايش الدين المسيحى مع الإسلام بشكل سلمي.. والتعصب الدينى كان استثناء فى التاريخ المصري.. شارك الأقباط بفعالية فى الثورة العرابية وثورة 19 وفى مقاومة الاحتلال البريطاني
لا شك أن الزيارة التى قام بها بابا الفاتيكان إلى مصر، تعد حدثًا تاريخيًا فريدًا، حيث جاءت فى توقيت صعب تمر به مصر فى أعقاب عدد من الحوادث الإرهابية التى استهدفت المصريين الأقباط، والمتأمل لمشاركة قداسة البابا فى العديد من الفعاليات مع الكنيسة المصرية والأزهر الشريف، يتأكد من ميلاد علاقات دينية رفيعة المستوى تتجسد فيها المشاعر الصادقة التى تعكس القيم الدينية الأصيلة للديانات التوحيدية، وانفعالا بهذه الزيارة الميمونة نقدم فى هذا المقال عرضا لتطور العلاقة بين الأقباط والمسلمين فى مصر، وأهم المحطات التاريخية التى جمعت بين أبناء الوطن الواحد.

أولًا: الشعب المصري يختار الديانة السماوية
فى العام ٤٨م دخلت المسيحية مصر على يد القديس مرقس الرسول، فاستقبلها الحس المشترك المصرى بالقبول، ورغم أن النظام الرومانى الحاكم فى ذلك الوقت كان مناهضًا للديانة الجديدة. ومع ذلك انتشرت المسيحية فى مصر فى وقت قياسى، بسبب عمق التجربة الدينية للمصريين، وتفاعلها المدهش مع الديانة الجديدة، فالمصرى القديم، كما يذهب ميلاد حنا فى كتابه (الأعمدة السبعة للشخصية المصرية) عرف مبدأ التثليث قبل ظهور المسيحية واتخذه عقيدة لفترات طويلة كثالوثي: (آمون - موت - خنسو)، (أوزيريس- إيزيس- حورس). المهم أن إقبال المصريين على الدين المسيحى الجديد المخالف لدين حكامهم فى ذلك الوقت، يمثل فى حد ذاته ملحمة مصرية كبيرة، تحمل خلالها المصريون أقصى درجات البطش والاضطهاد طوال قرنين ونصف القرن من النظام الرومانى.
وفى العام ٦٤٢م، فُتحت مصر بعد معاهدة سلام بين الروم وعمرو بن العاص. ولم يُكْرِه نظام الحكم الجديد المصريين على تغيير ديانتهم، بل أمنهم على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم. على معنى أن تعايش الدين الإسلامى مع الدين المسيحى على أرض مصر كان منذ البداية تعايشًا سلميًا، لم ترق فيه الدماء، ورحب المصريون بالحكم الإسلامى كبديل للنظام الرومانى المتسلط. وتركت مسألة العقيدة الدينية للحرية الفردية البحتة، ومن هنا يمكن أن نفهم أن مصر بقيت مسيحية فى ظل الحكم الإسلامى مدة تزيد علي قرنين من الزمن. 
هذه التجربة الدينية الفريدة، تبرهن على أن التاريخ الدينى فى مصر لم يشهد انقطاعات أو صراعات حادة بين القديم والجديد.

ثانيًا: العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الأقباط والمسلمين
بناء على ما سبق، فإن بنية العلاقة بين الأقباط والمسلمين، لم تشذ عن قاعدة التعايش السمح، وتشير الوثائق التاريخية إلى أن القبط كانوا يشركون المسلمين معهم فى الشهادة أمام المحاكم الرسمية أو العرفية، والتوقيع على عقود البيع والشراء، وحجج الوصايا، وحتى عقود الزواج. واستعان بهم الولاة المسلمون فى تسيير الأمور الإدارية للدولة، ولكنهم ظلوا خارج المؤسسة العسكرية والتزموا بدفع الجزية. 
ولا يعنى ذلك أن العلاقة بين الأقباط والمسلمين كانت خالية من التوترات وأحيانًا الصراعات، فالخلاف بين الجماعتين ينشب بين الحين والحين، كما تذهب فاطمة عمر فى كتابها (تاريخ أهل الذمة فى مصر) بسبب كراهية بعض الولاة والخلفاء لأهل الذمة والقبط على نحو خاص، (الحاكم بأمر الله نموذجًا)، أو بسبب الصراع على المناصب، خاصة أن الكثير من أعمال الدواوين وشئون الحكم والوظائف المالية كان يتولاها موظفون مهرة من الأقباط، وفيما يتعلق بممارسات الحياة اليومية، فتذكر المصادر التاريخية أن الأوامر التى صدرت مرارًا وتكرارًا فى مختلف عصور الحكم الإسلامى من أجل تحريم لبس العمائم على الأقباط والالتزام بلبس المنطق ـ حزام من الجلد يربط على البطن ـ والإمساك بالصلبان الخشبية أثناء التجوال فى الأسواق، وغيرها من الالتزامات التمييزية. سرعان ما كان يبطل أثرها، وتعود الحياة الاجتماعية إلى مجاريها الطبيعية. ما يعنى أن هذه الأوامر خالفت الحس المشترك العام، خاصة فى الأوساط الشعبية فى الحضر والريف، فلم يستسغها الحس المشترك، ما دفع الولاة إلى عدم التشدد فى تطبيقها. ومن هنا أطلق المصريون المثل الشعبى الباقى حتى الآن (لكلِ غربال جديد شَدَّة).
أما لغة التفاعلات اليومية، فإن اللغة القبطية ذات الأصل الهيروغليفى بقيت مهيمنة على السوق اللغوية المصرية قرابة أربعة قرون بعد الفتح العربى، والثابت أن الأقباط أقبلوا على تعلم العربية من قبل تحول غالبية المصريين للإسلام أملًا فى تولى المناصب.

ثالثًا: العلاقات الحديثة بين الأقباط والمسلمين
يمكن تصنيف مراحل تطور العلاقة بين الأقباط والمسلمين فى العصر الحديث إلى خمس مراحل تبدأ فى عام ١٨٠٥ بمرحلة الهوية الوطنية الكاملة، وتدخل بعد ٢٠١٣ مرحلة استعادة الحقوق والعاطفة الوطنية. 
١- الهوية الوطنية الكاملة (١٨٠٥-١٩٥١): يذهب جاك تاجر فى كتابه (أقباط ومسلمون منذ الفتح العربى إلى عام ١٩٢٢٢) أن محمد على  هو الذى قضى مبدئيًا على التفرقة بين الأقباط والمسلمين، وزاد الوالى سعيد  باشا بإزالة معظم العقبات التى تحول دون الاندماج الكامل للأقباط فى صلب الأمة، بقراراته غير المسبوقة بقبول الأقباط فى الجيش، وإلغاء الجزية المفروضة على الذميين بالفرمان الصادر فى ١٨٥٥، وفى عصر الخديو إسماعيل نال الأقباط حقوقهم السياسية والاعتبارية بموجب قانون إنشاء مجلس الشورى فى ١٨٦٦، الذى منحهم الحق فى عضوية المجلس أسوة بالمسلمين، بالإضافة إلى تعيين قضاة من الأقباط فى المحاكم. والثابت تاريخيًا أن الجماعة المصرية القبطية تعاطت مع جميع الأحداث الكبيرة التى شهدتها هذه المرحلة بقدرٍ كبيرٍ من المسئولية الوطنية، مشاركين فى ثورة عرابى، ومقاومة الاحتلال البريطانى منذ عام ١٨٨٢، مرورًا بالمشاركة فى ثورة ١٩١٩ وحتى قيام ثورة يوليو١٩٥٢.
٢ ـ التحجيم والتأطير (١٩٥٢-١٩٧٠):
انشغل عبدالناصر على المستوى الداخلى بمشروع التنمية الأول، وتحقيق العدالة الاجتماعية على النهج الاشتراكى، وإعادة توزيع الثروة عبر قرارات التأميم المعروفة. ولم يسمح بظهور النعرات الطائفية، وكانت تربطه بالبابا كيرلس علاقة صداقة وتفاهم عميقة.
يذكر فى هذا المقام تبرعه بالمساهمة فى بناء الكاتدرائية الكبيرة بالعباسية، ورخص للأقباط ببناء وترميم ٢٥ كنيسة سنويًا، ويذكر أنه لم تحدث أية حوادث طائفية كبيرة فى عهده. ومع ذلك فقد كان عبدالناصر مبالغًا فى عدم استفزاز القوى الدينية المحافظة، فاقتصد فى تعيين الأقباط فى المناصب العليا.
٣ ـ مأسسة الفتنة الطائفية (١٩٧١-١٩٨١):
شهدت هذه المرحلة تدهورًا كبيرًا فى العلاقات بين الأقباط والمسلمين، فقد أضر السادات بمسألة الاندماج الاجتماعى للأقباط، لأنه أراد حل مشاكله مع القوى السياسية باللعب على وتر الدين، ومنذ بداية عهده قرر نقل مصر بالكامل من خانة اليسار إلى خانة اليمين محليًا وعربيًا ودوليًا. فسعى إلى ضرب التواجد الناصرى واليسارى داخل الجامعة، وذلك بتمكين الجماعات الإسلامية السلفية وجماعة الإخوان من الاتحادات الطلابية، فتحول الحرم الجامعى فى سبعينيات القرن العشرين إلى مرتع لأمراء الجماعات والكوادر الإخوانية، وأضحت مصدرًا لإنتاج التطرف والتخلف والعنف، كظاهرة الفصل بين الطلاب والطالبات بالقوة فى حجرات الدراسة، إلغاء الاحتفال بالأعياد الوطنية، منع إقامة الحفلات الفنية داخل الحرم الجامعى، وتسيير كوادر الجماعة فى أروقة الجامعة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، النظرة الدونية للشباب القبطى وعدم تمكينه من ممارسة أدوار سياسية داخل الجامعة.
٤ ـ مرحلة العنف الطائفى (١٩٨٢-٢٠١٣):
أحداث وأحوال جرت خلال هذه الفترة الطويلة، فعقب اغتيال السادات على يد الفصيل المتطرف الذى مكن له العمل فى بداية السبعينيات. ومنذ ليلة اغتيال السادات، اتضح للجميع أن الجماعات الجهادية، أكبر حجمًا وأعلى طموحًا مما ظنت الأجهزة الأمنية فى مصر. وعرفت مصر بعد اغتيال السادات موجة ضخمة من العنف بدأت بمعارك يومية ضارية بين الأمن والجماعات الجهادية، ثم تحولت هذه الجماعات إلى أسلوب الاغتيالات، فمهاجمة السياح وضرب الاقتصاد، ثم تأجيج العنف الطائفى بكل وحشية، من خلال منظومة من المعتقدات الخاطئة المدعومة بفتاوى المتشددين من رموز الحركة الإسلامية. واستمرت موجات العنف تزيد وتنقص، حتى قيام ثورة ٢٥ يناير، ليتضح سريعًا أن قوى الإسلام السياسى، تدشن لمرحلة جديدة من الإقصاء للجماعة القبطية المصرية.
٥ ـ مرحلة استعادة الحقوق والعاطفة الوطنية (٢٠١٤)
وتبدو فى الأفق ملامح وإرهاصات مرحلة جديدة، يستعيد فيها الأقباط حقوقهم ويشعرون بهويتهم الوطنية، خاصة بعد إقرار قانون بناء وتعمير الكنائس، وأصبحت العلاقة التى تربطهم بالسلطة فى مصر هى علاقة احترام وتقدير متبادل، ورغم تعرض الأقباط لموجات إرهابية متتالية فى هذه المرحلة الجديدة، إلا أنهم فى كل حدث يثبتون للجميع أن مصر وطن واحد يعيش فينا ولا نعيش فيه. 
إن زيارة بابا الفاتيكان فى هذه المرحلة التاريخية، وهى بالتأكيد زيارة محبة وسلام، تقدم دعمًا معنويًا كبيرًا للتوجهات المصرية الجديدة فى مواجهة جميع صور التطرف والإرهاب، وترسخ لمرحلة جديدة للحوار بين الدين الإسلامى والمسيحى لنشر السلام والاستقرار والأمن فى ربوع الشرق الأوسط والعالم بأسره.