السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

نرصد سيناريوهات "ترامب" للتحرك ضد الاتفاق النووي الإيراني

الحديث عن إلغاء الاتفاق أو تمزيقه للاستهلاك الشعبوى

 الرئيس الأمريكي
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب و روحاني
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مجلس الأمن الجهة الوحيدة التى بإمكانها معاقبة إيران بعد توصية من وكالة الطاقة الذرية
إلغاء الاتفاق لمجرد رغبة الرئيس المنتخب أمر مستحيل.. وأقصى ما يمكن أن تفعله واشنطن 
الانسحاب الأحادى من الاتفاق من غير المتوقع أن يكون الاتحاد الأوروبى من الداعمين لسياسة العقوبات

تشابكات إقليمية إيرانية عبر سوريا
انطلاقًا من سوريا، استطاعت طهران مستفيدة من القوة التى منحها لها الاتفاق من خلق تشابكات إقليمية مهمة، كما استطاعت ربط مصلحتها الخاصة بمصالح جهات إقليمية ودولية مختلفة، بحيث تكون أول المساندين لها دبلوماسيًا وسياسيًا ضد محاولات الانقلاب على الاتفاق.
حينما فرغت من كتابة هذا المقال كان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب قد عيّن الجنرال هيربرت رايموند ماكماستر، الذى شارك فى الحملات الأمريكية على العراق وأفغانستان مستشارًا للأمن القومي. كانت كل التعليقات تشير إلى أن سبب الاختيار كان بالتحديد هذه الخبرة فى المشرق الإسلامى، وهو ما يقرأ بالتوازى مع أولوية ترامب الذى يبدو مهووسًا بها وهى محاربة ما يسميه «الإرهاب الإسلامي».
لم تمر سوى أسابيع على تولى ترامب مقاليد السلطة فى البيت الأبيض، إلا أن هذه الأسابيع قد حملت الكثير من الإثارة على صعيد الإجراءات الخاصة والمتسرعة التى اتخذها الرئيس الجديد من جهة، وعلى صعيد الفضائح، التى كان من أهمها تورط مستشار ترامب الأمنى مايكل فلين فى علاقة تخابر مع الروس ما أدى إلى عزله خلال أيام معدودة من اختياره وهو من سيخلفه ماكماستر.
هذه مجرد لمحة يمكن أن توضح لنا حجم الالتباس الأمريكى ليس فقط تجاه موضوع الاتفاق النووى الذى نحن بصدده، ولكن تجاه العلاقات الأمريكية الخارجية بشكل عام، وبشكل خاص العلاقة مع موسكو التى بدت أقرب للتحالف مع الإدارة الأمريكية الجديدة، قبل ظهور مؤشرات على تدخلها فى الانتخابات، ومحاولة اختراقها البيت الأبيض عبر شخصيات كمايكل فلين وغيره، وهو ما سيجبر أصدقاء روسيا فى دوائر صنع القرار الأمريكية على التعامل معها بحذر فى الفترة المقبلة.
فى ظل هذا الالتباس والانقسام داخل دوائر صنع القرار الأمريكية نحاول فى هذا المقال استعراض الخيارات المختلفة التى يمكن أن تتعامل بها أمريكا- ترامب مع الاتفاق النووى الإيراني.
الموقف الترامبى من الاتفاق 
خلال الأسابيع الأولى من ولايته، تبادل ترامب ومسئولون إيرانيون تصريحات عدائية، وبدا واضحًا أن الرئيس الجديد جاد فعلًا فى مسألة تغيير سياسة بلاده تجاه الدولة، التى ظهرت خلال الأعوام السابقة وكأنها شريكة للولايات المتحدة. فى الواقع، ورغم أن موقف دونالد ترامب الرافض للاتفاق النووى كان واضحًا منذ حملته الانتخابية، حيث وصفه بالغبى، وهدد بشكل علنى بتمزيقه بمجرد فوزه بمنصب الرئاسة، إلا أن معظم المراقبين كانوا يعتبرون أن هذه التصريحات هى أداة للاستهلاك الانتخابي، وأن الوضع سيختلف بمجرد تسلم مفاتيح البيت الأبيض.
طهران نفسها لم تأخذ تلك التصريحات على محمل الجد، فقد كانت معتادة حتى خلال الفترة الأوبامية على استقبال الانتقادات من الجانب الأمريكى، وهى انتقادات لم تعطلها كثيرًا سواء أكان على صعيد مشاريع تطوير السلاح فى الداخل أم على مستوى التدخلات الخارجية، وبخاصة فى العراق وسوريا واليمن.
تجربة صاروخ باليستى
هذا هو ربما ما جعلها لا تبالى وهى تقوم بتجربة علنية لتجريب صاروخ باليستى متوسط المدى. الأمر الذى يتنافى مع أهم مبادئ الاتفاق النووى المتعلقة بتجميد مثل هذه العمليات حتى حين. أدى ذلك إلى غضب الإدارة الأمريكية الجديدة، وبخاصة أنه قد تزامن مع استهداف مجموعة الحوثى المدعومة من طهران لقطعة بحرية سعودية. هذه المرة لم يكن الغضب الأمريكى مفتعلًا أو مسرحيًا على غرار الغضب والاستياء الذى كان يعبر عنه الرئيس السابق من حين إلى آخر دون اتخاذ إجراءات فعلية، فترامب لم يكتف بتجديد وعوده بمعاقبة إيران «التى لم تقدّر»، بحسب تعبيره، ما منحه لها باراك أوباما، بل عمد إلى تفعيل عقوبات اقتصادية طالت الكثير من الكيانات الإيرانية.
لكن، وقبل تحليل مستجدات العلاقة الأمريكية الإيرانية وموقف الرئيس المنتخب الجديد من الملف النووى، فإنه يجب علينا تقديم تعريف وتذكير بما يعنيه ذلك الاتفاق.
ما الاتفاق النووي؟
هناك نقاط عدة يجب أخذها فى الاعتبار عند الحديث عن الاتفاق النووى، ولعل أهمها:
■ الاتفاق النووى الذى اعتمد فى لوزان بتاريخ ٢٤/ يوليو/٢٠١٥، والذى دخل حيز التنفيذ بداية العام ٢٠١٦ لم يكن مجرد اتفاق تقني، بل كان اتفاقًا ملخصه ضمان تحسن السلوك الإيرانى، وبخاصة تجميد المساعى النووية لمدى عشر سنوات، مقابل إعادة فتح الأسواق أمام الاقتصاد الإيرانى وقبول ذلك البلد، الذى عانى لعقود الحصار والمقاطعة ضمن المنظومة السياسية والاقتصادية الدولية. 
كان ذلك وفقًا لنظرية تبناها وبشكل واضح الرئيس السابق باراك أوباما وفريق عمله، وهى التى كانت تقول إن ما لم ينجح المجتمع الدولى فى الوصول إليه بطريق الاستهداف والعداء، قد ينجح فى التحصل عليه عن طريق الضغوط الناعمة والاحتواء.
■ كثيرًا ما ينسى المحللون أن هذا الاتفاق ليس اتفاقًا ثنائيًا بين الولايات المتحدة وإيران، وإن كانت الأولى صاحبة الصوت الأعلى فى الحديث عنه، فهو اتفاق بين إيران ومجموعة الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا والاتحاد الأوروبي. أهمية هذه النقطة هى فى كونها تضع الولايات المتحدة فى حجمها الطبيعى كأحد أطراف الاتفاق. هكذا يكون حديث ترامب عن إلغاء الاتفاق أو تمزيقه حديثًا للاستهلاك الشعبوى فقط، حيث إنه لا يملك الحديث نيابة عن كل تلك الدول فى الطرف الغربي. كذلك الحديث عن العقوبات، حيث إن الجهة الوحيدة التى بإمكانها معاقبة إيران على سلوكها هى مجلس الأمن بعد توصية من وكالة الطاقة الذرية. هنا لا يمكن التقليل من أثر العقوبات الأحادية التى بإمكان الولايات المتحدة أن تفرضها على أى طرف دولى، حيث تظل هى الدولة الأكبر والأهم وصاحبة التحكم الذى لا ينكر فى اقتصاديات العالم ومؤسساته. إلا أنه، وفيما يتعلق بالعقوبات المرتبطة بتنفيذ الاتفاق، فإن دورها يظل محدودًا، ولذلك فقد هاجمت طهران العقوبات الأمريكية الأخيرة التى فرضها الرئيس ترامب عليها باعتبارها غير قانونية.
■ للترويج للاتفاق النووى خاصة فى المنطقة العربية، كان الرئيس السابق باراك أوباما وإدارته المتحمسة للاتفاق تصوره ضمانًا لتحسن السلوك الإيرانى العام وتغير نهجها العدائى وتدخلاتها ضد جيرانها العرب. إلا أن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا، وفى رأيى، فإن السبب كان يعود إلى الفارق الكبير بين تحسن السلوك الإيرانى النووى وتحسن السلوك الإيرانى العام. بالنسبة للغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، كان الاهتمام ينحصر فى تحسن السلوك تجاه المسألة النووية. هذا هو ما أوجد حالة التراخى واللامبالاة التى كانت أقرب إلى تشجيع إيران على التمادى فى تدخلاتها وسياستها القائمة على تجنيد ودعم الميليشيات الشيعية الإرهابية وغيرها. كأن كل شيء كان مقبولًا طالما ارتضى نظام الملالى تأخير الحصول على السلاح النووي. هذا هو ما جعل عددًا كبيرًا من المحللين يتحدثون عن الاتفاق النووى كصفقة بين واشنطن وطهران على حساب الجيران العرب.
■ جاء الاتفاق النووى فى وقت كان فيه الطرفان الأوروبى والإيرانى بحاجة للإنعاش الاقتصادي، وبخاصة الأخيرة، التى استنزفت نفسها من خلال تدخلاتها العسكرية الخارجية ودعمها غير المحدود للمجموعات الفوضوية فى أكثر من مكان، هذا غير تهاوى أسعار النفط الذى شكّل ضربة أخرى قوية لها. بهذا الاتفاق حصلت إيران بشكل فورى على ٤٠٠ مليون دولار، هذا بخلاف تحرير مبالغ بمليارات الدولارات كانت مجمدة فى البنوك الأمريكية، كما أسهم إلغاء الحظر فى تمكن إيران من شراء الذهب والمعادن الثمينة وصناعة السيارات والمواد البتروكيميائية إضافة إلى صيانة الطائرات المدنية فى الخارج.
المؤسف هو أن طهران وعوضًا عن استغلال كل ذلك فى تحقيق الرفاه والأمن الاقتصادى الداخلى، وجهت كل تلك الطاقات المالية تجاه المسألة العسكرية داعمة بلا حدود مؤسسات كالحرس الثورى الذى يكاد أن يسيطر على الاقتصاد الإيراني.
بين أوباما وترامب 
لسوء حظ إيران، فإن الرئيس الجديد لا يضع فروقًا كبيرة بينها وبين الدول السنية الأخرى، بحيث سيصعب أن تنطلى عليه الدعاية التى عملت عليها طهران لسنوات، والتى تجعلها تظهر بمظهر الشريك فى محاربة الإرهاب الذى يرعاه منافسوها من أهل السنة. كان أوباما وفريقه الرئاسى يظنون أنهم قادرون على تفهم العلاقات المتشابكة بين دول المنطقة، ولذلك فقد كانوا يحاولون إقامة علاقة متوازنة مع إيران من جهة عبر الاتفاق النووي، ومن جهة أخرى عبر الاستفادة من حماسها الطائفى من أجل التنسيق فى مجال محاربة ما يسميه بـ«الإرهاب»، كما كانوا يعملون فى الوقت ذاته على توطيد علاقتهم بدول الخليج الذين تربطهم بها علاقات تاريخية واستراتيجية.
هذه السياسة التى حاولت إظهار التوازن كانت ذات آثار سلبية على العلاقات الأمريكية الخارجية، فقد هزت ثقة دول الخليج بحليفتها القديمة ما جعلها تفكر فى نسج شراكات جديدة، كما أن إيران نفسها لم تستطع أن تسلّم جميع أوراقها لأمريكا التى كان واضحًا أنها قد ترضى فى وقت ما أصدقاءها العرب على حساب المصالح الإيرانية. 
تغيّر الوضع اليوم بشكل واضح ولا جدوى هنا من تكرار العبارة التى تقول إن السياسة الأمريكية واحدة وإن الرؤساء فقط يتغيرون. الواضح أن لكل رئيس بصمته الخاصة وطريقته فى ممارسة السياستين الداخلية والخارجية، وذلك يظهر عند المقارنة مثلًا بين عهد جورج بوش الابن وخلفه باراك أوباما، حيث تراوحت السياسة الأمريكية بين التهور والتسرع والميل لخوض الحروب فى كل مكان فى عهد الأول، وبين الهدوء والجمود والتردد لدرجة السلبية فى عهد الثاني.
ترامب لا يستثنى إيران من خطاباته وإجراءاته المعادية للعرب والمسلمين، وهو يستخدم لغة مباشرة للتعبير عن رغبته فى نقض الاتفاق النووى مع إيران وتفكيكه. والسؤال الكبير هو: هل يستطيع ترامب فعلًا ذلك؟ 
باستحضار النقاط التى ذكرناها فى التعريف بهذا الاتفاق، يمكننا أن نستنتج أن إلغاء هذا الاتفاق لمجرد أن تلك هى رغبة الرئيس المنتخب هو أمر مستحيل، وأن أقصى ما يمكنه أن تفعله واشنطن هو الانسحاب الأحادى من الاتفاق، أو انتظار إقناع مجموعة الدول الأخرى الموقعة بالأمر.
إلا أن هناك أسبابًا أخرى مرتبطة بالتوافقات الأمريكية الداخلية، فليس كل صناع القرار من فريق ترامب مقتنعين بالحماس الترامبى لنقض الاتفاق، ولعل أهم اسمين هنا هما جيمس ماتيس وزير الدفاع وريكس تيليرسون وزير الخارجية، حيث يقود كلاهما حملة مختلفة، ليس نحو الانسحاب من الاتفاق وإنما من أجل الضغط على إيران لتنفذ بنوده بشكل أكثر صرامة وجدية. 
تشابكات إيرانية:
انطلاقًا من سوريا، استطاعت طهران مستفيدة من القوة التى منحها لها الاتفاق من خلق تشابكات إقليمية مهمة، كما استطاعت ربط مصلحتها الخاصة بمصالح جهات إقليمية ودولية مختلفة، بحيث تكون أول المساندين لها دبلوماسيًا وسياسيًا ضد محاولات الانقلاب على الاتفاق.
«ترامب يريد أن يصد إيران، ولكن إيران الآن أقوى من أى وقت مضى». هذا هو، وبشكل حرفى، عنوان التقرير الذى نشرته صحيفة «الواشنطن بوست» تعليقًا على تهديدات الرئيس الأمريكي. يوضح التقرير أنه وبخلاف شبكة الربط الاقتصادى والسياسى التى أنشأتها طهران عقب الاتفاق ورفع العقوبات، فإن نظام الملالى قد استطاع فعلًا تطوير قدراته العسكرية ومدى صواريخه، بحيث يستطيع أن يهدد بجدية الوجود والقواعد الأمريكية فى المنطقة، إضافة إلى أن الكيان الصهيونى نفسه قد أصبح بالنسبة له فى مرمى النيران.
ليس فى الأمر مبالغة، وحين نتحدث عن جمهورية الولى الفقيه، فإنه يجب علينا بالضرورة أن نستحضر توابعها القريبة من ممرات ومناطق داخل حدود التواجد الأمريكى فى الخليج واليمن ولبنان وغيرها. لهذا السبب، فإن كثيرًا من الأصوات باتت اليوم تنصح الرئيس الأمريكى بعدم الاستخفاف بطهران القادرة على تنفيذ تهديداتها بضرب بعض المصالح الاستراتيجية الأمريكية فى الخليج العربى أو قرب باب المندب. 
التشابكات متعددة، ويكفى أن نتذكر أنه، ورغم كل شيء، فإن النغمة الأمريكية المهددة لم تجد من الأطراف الدولية من يساندها. روسيا التى تخوض حلفًا استراتيجيًا مع إيران أعلنت أكثر من مرة أنها لا تعتبر حليفتها داعمة للإرهاب، كما أنها لا تراها قد خرقت الاتفاق، حتى بعد إجرائها للتجربة الباليستية، باعتبار أن من حق الجميع إجراء ما يرونه مناسبًا لضمان «الاستعداد الدفاعي».
أكثر من ذلك، فإنه من غير المتوقع أن يكون الاتحاد الأوروبي، الحليف الأقرب إلى الولايات المتحدة، من الداعمين لسياسة العقوبات، وذلك لارتباطه الحالى مع السلطة الإيرانية باتفاقيات بملايين الدولارات. وإذا تحدثنا بلغة البزنس التى يعرفها الرئيس الأمريكى وسياسيوه المقربون من طبقة رجال الأعمال، فإننا سندرك أن الخسارة لن تكون على الطرف الأوروبى فقط، ولكن أيضًا ستقع خسائر مهمة على الجانب الأمريكى، حيث تستعد عشرات الشركات للدخول بقوة إلى السوق الإيرانية الخصبة، التى لا تتميز فقط بالكثافة السكانية، ولكن أيضًا بالدور المهم على صعيد سوق الطاقة، فإيران تتمتع بمركز متقدم على صعيد إنتاج النفط الخام، كما تعد ثالث أكبر مصدّر له وصاحبة أكبر احتياطى عالمى من النفط والغاز الطبيعي.
من المهم هنا التذكير بأن رفض الاتفاق النووى والتشكيك فى النوايا الإيرانية ليس شيئًا شخصيًا خاصًا بالرئيس الجديد، بل هو اتجاه قوى داخل الولايات المتحدة ومدعوم من الكثير من الشخصيات اليمينية، ولعلنا نذكر على سبيل المثال، اقتراح الدبلوماسى جون بولتن، بأن ترعى أمريكا- ترامب المعارضات الإيرانية المسلحة التى تهدف لانتزاع الحكم بالقوة من أيدى السلطة الحالية.
لكن التشابكات التى استطاعت طهران نسجها خلال السنوات الماضية دعمت موقفها بشكل جيد، وحصنتها أمام أى إجراءات قد تضرها بشكل فعلي، والأهم، أوجدت لها الكثير من الأنصار. على سبيل المثال، فإن هوس ترامب بمكافحة التنظيمات الإسلامية المقاتلة قد دفعه لاحترام التدخل الروسى فى سوريا، كما جعله يبدى إعجابه بالرئيس بوتين الذى يخوض حربًا استباقية ضد المتشددين. الشراكة المتوقعة مع روسيا إذا لم تتأثر بمستجدات السياسة الأمريكية سوف تحمى بشكل ما إيران المرتبطة بها، وقد يستطيع الرئيس الروسى إقناع الإدارة الأمريكية بأهمية الدور الإيرانى فى مكافحة الإرهاب، على اعتبار أنها الدولة القادرة على توفير الكثير من المقاتلين الدوليين من أبناء عقيدة الولى الفقيه من الذين لا يتورعون عن فعل كل ما يناط بهم بلا تفكير.
الشراكة مع روسيا:
مشكلة الشراكة أو التحالف الإيرانى الروسى لا تنحصر فى التنسيق تجاه المسألة السورية، بل إنها تتعدى ذلك لتستهدف استغلال الوسيط الروسى من أجل إقناع صانع القرار الأمريكى بأن الإرهاب الحقيقى إنما هو الإرهاب السنى الذى يستهدف الجميع، وبخاصة المصالح الغربية، فى حين تقصر المجموعات الشيعية نطاق عملها على الهجمات ضد المسلمين السنة «الإرهابيين».
الشراكة الموازية بين روسيا والولايات المتحدة قد تقود إلى تنسيق الطرفين مع إيران للأسباب أعلاه، لكنها قد تقود أيضًا، بحسب وجهات نظر معتبرة، إلى تفكيك العلاقة الروسية الإيرانية بمحاولة إقناع موسكو بأن تضحى بحليفتها الإشكالية فى سبيل علاقات طيبة وتنسيق أكبر مع واشنطن. عبّر عن هذه الرؤية بوضوح جاى سولومون من صحيفة «وول ستريت جورنال» بمقال تناول فيه «النظر فى توسيع الهوة بين روسيا وإيران».
اللافت فى مقال سولومون، تركيزه على أن تفكيك هذه العلاقة بين الطرفين ليس أمرًا سهلًا، فهو يذكرنا أن الرئيس السابق أوباما قد استطاع خلال فترة حكمه الأولى إقناع الرئيس الروسى حينها ديمترى ميدفيديف بأن يصوّت لصالح عقوبات الأمم المتحدة التى فرضت ذلك الحين على إيران بسبب أنشطتها النووية.
لكن هذا التفكيك لم يستمر طويلًا، فسرعان ما دب الخلاف على إثر قضايا الدرع الصاروخى والتدخل الروسى فى القرم وأوكرانيا، ما أدى إلى إطلاق حزمة من العقوبات ضد موسكو، التى قابلت كل ذلك بمزيد من الإصرار على فرض هيبتها فى مناطق نفوذها السابقة، والتى أضافت إليها هذه المرة مناطق نفوذ جديدة أبرزها سوريا.
قبل متابعة هذه القراءة للعلاقة المعقدة بين واشنطن وكل من موسكو وطهران، أحب أن أتوقف عند نقطة التفكيك تلك. كما قلنا، فإن الأمر ليس سهلًا ولكنه فى الوقت ذاته ليس مستحيلًا، وقد سبق وطرحت هذه الفكرة فى مقال سابق لى عن التحالف الروسى الإيراني. 
حينها قلت إنه لا يجب التعامل مع روسيا وإيران وكأنهما فى صندوق أبدى واحد، فكلا الطرفين يحكمهما منطق المصلحة، ولذلك فإن بإمكان الدول العربية أو السنية المعارضة للتدخل الروسى فى سوريا وغيره من مظاهر التماهى الروسى مع السياسة الإيرانية أن تسعى للفصل بين الجانبين، وبخاصة استمالة الطرف الروسى الذي، أيضًا، يرتبط بالكثير من المصالح مع دول المنطقة.
أخيرًا: ماذا يعنى انهيار الاتفاق؟
لو فرضنا جدلًا، ورغم كل ما سردناه سابقًا، أنه قد تم تمزيق هذا الاتفاق بحسب رغبة الرئيس ترامب، فما الذى يمكن أن يعنيه ذلك؟
من المهم أن نعلم أن انهيار الاتفاق لن يعنى بأى حال الدخول فى حرب مع إيران، كما أنه، وكما رأينا أعلاه، لن يعنى العودة إلى مربع الحصار الاقتصادى الذى ستعارضه أطراف دولية عدة اشتبكت مصالحها مع طهران. انهيار الاتفاق لا يعنى سوى الدخول فى جولة جديدة من المفاوضات الهادفة لإنجاز اتفاق بشروط معدّلة.
مثل هذا السيناريو سيخدم الطرفين، الأمريكى الذى سيظهر متصالحًا مع الموقف اليمينى المتشدد من الاتفاق، والإيرانى الذى سيرتاح من ذلك التناقض الذى ولده الاتفاق مع الغرب، والذى أظهر البلاد كحليف لما كان يسمى حتى سنوات قليلة مضت بـ«الشيطان الأكبر».
بهذه الطريقة سيكون ترامب قد قدم خدمة مهمة للجناح المتشدد من الملالى، حيث سيمكنهم من استعادة أدبياتهم القديمة حول «الاستهداف الإمبريالي» للثورة وهو ما سيحتاجون له بشدة خلال الأيام المقبلة بالنظر لأن البلاد مقبلة على انتخابات رئاسية. 
من جهة أخرى ستكون طهران، فى حالة إلغاء الاتفاق، فى حل من كل تعهد، مما سيمنحها مساحة وحرية أكبر فى العمل وصولًا إلى هدفها الاستراتيجي: الانتقال والتحول من مرحلة القوة الإقليمية إلى مساحة أكبر كلاعب دولى خاصة بعد استكمال المشروع النووى الذى لا تفصلها عنه سوى خطوات قصيرة.