الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

محمود الغيطاني يكتب: "تونس الدولي للكتاب" لم يكن مجرد معرض

محمود الغيطاني
محمود الغيطاني
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
سُررت بالدعوة التي وُجهت لي من قِبل معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الثالثة والثلاثين. وصلتني الدعوة قبل شهر من بداية فعاليات المعرض. كان سبب سعادتي بالدعوة أمرين مهمين: أولهما: أني لم أزر تونس من قبل، وهي فرصة مهمة للتعرف على أدبها ووسطها الثقافي عن قرب؛ ولا سيما أني أدرك جيدًا أن القارئ في تونس لديه ثقافة لا يُستهان بها، وهناك حركة ثقافية حقيقية هناك. والسبب الثاني أن الدعوة كانت للمشاركة كناقد مصري يعي جيدًا الحركة الثقافية والأدبية في دول المغرب العربي؛ وهو ما وجهته لي إدارة المعرض حيث أقوم بإدارة ندوة عن الأدب المغاربي أناقش فيها الروائيين: التونسي كمال الرياحي، والجزائري بشير مفتي، والمغربيين ياسين عدنان، وطارق بكاري.
فكرة أن يُدير ندوة عن الأدب المغاربي ناقد ورائي مصري هي فكرة ليست مطروحة أو غير مهضمومة من قبل البعض؛ لأن دول المغرب ما زالت تنظر إلى أن المشرق/ مصر لا تهتم الاهتمام الواجب تجاه الأدب المغاربي، كما أنهم يرون مصر منكفئة على ذاتها تجاه ثقافتها وأدبها باعتبار أن المصريين يرون أنهم دولة المركز التي يدور في فلكها دول الهامش، أو ثقافات الهامش، وهي نظرة- للأسف متأصلة- لدى العديدين من المصريين، ولم يتخلصوا منها بعد؛ فأدى ذلك إلى عدم الانفتاح على الآخرين وتأمل آدابهم؛ الأمر الذي جعل الحركة الثقافية والإبداعية النشطة في غيرها من الدول تكاد أن تتجاوزها بينما تظل مصر تعيش في أوهام المركزية التي أدت إلى تراجع مستواها الإبداعي لدرجة خطيرة أمام تطور التجارب الروائية في غيرها من الدول التي تحيطها- أو الدول الهامشية- كما يظن بعض المصريين.
كانت هناك أمسية أخرى شاركني فيها الروائي المغربي ياسين عدنان عن "منزلة الكتاب في الإعلام الثقافي" تحدث فيها من خلال دوره كإعلامي في التليفزيون المغربي، بينما تحدثت فيها من خلال عملي في الصحافة الثقافية، وشاركنا فيها الإعلامي التونسي محمد آيت ميهوب من خلال تجربته في الإذاعة الثقافية التونسية.
لا يمكن إنكار أن معرض الكتاب التونسي ليس مجرد معرض لبيع الكتب، بل تظاهرة فنية وثقافية كبيرة للموسيقى، والسينما، والأغنيات، والتراث، وبيع الكتب، وحفلات التوقيع، وغيرها من الأمور، كما أن هناك جمهورًا واعيًا وحقيقيًّا لقيمة الثقافة؛ الأمر الذي يجعل هذا الجمهور حريصًا على حضور الفعاليات بالكامل والمشاركة فيها بوعي ثقافي مُفتقد في الكثير من الأحيان.
ربما كان من أسباب سعادتي أيضا لقاء العديد من الأصدقاء لاسيما الروائي الجزائري عبد الوهاب بن منصور الذي قطع المسافة من "تلمسان" الجزائرية حتى تونس في يومين بالسيارة من أجل لقاءنا في تونس. تعارفت على الروائي المغربي ياسين عدنان عن قرب بعد أن قرأت له روايته الساحرة "هوت ماروك" وهي من الروايات النادرة التي تجعلك مرتبطًا بها؛ حتى إنها تظل في ذاكرتك لا يمكنك نسيانها بسهولة خاصة بطلها القمئ اللزج "رحال" الذي أرى أنه من الشخصيات التي يمكن تخليدها بسهولة في الأدب العربي مثل شخصية "السيد أحمد عبدالجواد".
اطلاعي على الكثير مما يصدر في الحياة الثقافية المغاربية جعل أمسية الأدب المغاربي من أكثر الأمسيات فعالية وكأني منهم ولست مجرد مشرقي منفصل عنهم في الثقافة؛ فجميع المشاركين قرأتهم جيدا فضلا عن قراءة غيرهم من التجارب الأدبية المغاربية؛ وهو ما جعل الحوار متصلا وحيويا؛ حتى أن الأمسية تعدت وقتها المحدد لها لتصل إلى ساعتين ونصف، وكان من الممكن لها الاستمرار أكثر من ذلك لولا أن المنظمين طلبوا منا التوقف لانتهاء اليوم الرسمي للمعرض. كما كان الجمهور الحاضر للأمسية متفاعلا معها بشكل حيوي.
في الحديث عن منزلة الكتاب في الإعلام الثقافي اتضح أن حال الدول العربية جميعها- في الثقافة- لا يمكن أن يختلف من دولة لأخرى؛ فالكتاب والثقافة يأتيان في نهاية اهتمام جميع وسائل الإعلام ورأس المال المتحكم في وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، حتى أنه يتم التخلص من الصفحات الثقافية، أو البرامج الثقافية بسهولة باعتبارها عبئا على الجميع، وظنا من أصحاب رأس المال والمسؤولين بأن الثقافة ليس لها جمهور؛ ومن ثم فالتخلص منها هو الأفضل، فنجد أن الميزانيات المخصصة للبرامج الثقافية تكاد تكون غير موجودة، كما أنها تُبث في أوقات ميتة بالنسبة لأوقات المشاهدة أو الاستماع، وهو ما نراه في الصفحات الثقافية في الجرائد التي تحاول التخلص من عبء الثقافة.
لاحظت أن الاهتمام بالسينما التونسية وعرض العديد من الأفلام السينمائية كان من أولويات معرض الكتاب، وهو دليل على أن المعرض يهتم بالثقافة والفن بشكل عام، وبمفهومه الأوسع حتى لا يتحول إلى مجرد تظاهرة لبيع الكتب فقط. كما كان القائمون على تنظيم المعرض في حالة نشاط لا مثيل لها تحاول العمل على خدمة الجميع، لاسيما شكري المبخوت الذي كنت أشفق عليه لفرط مسؤولياته، ورغم ذلك كان لابد أن يكون مجاملا ومبتسما في وجه الجميع.
فرصة اللقاء بالعديد من المبدعين المدعويين إلى المعرض ومشاركتنا العديد من اللقاءات الثقافية والنقاش حول الكثير من الأمور المختلفة في مجال الثقافة هي فرصة ثرية تعمل على التقارب وإثراء الثقافة العربية بشكل حقيقي. تبادلنا الكثير من الآراء في أمسياتنا سواء في المعرض أو في فندق "أفريكا" حيث مكان الضيوف جميعا. كانت هناك حوارات لا تنتهي بيني وبين الروائي المغربي ياسين عدنان في الثقافة العربية من شرقها إلى غربها، وطارق بكاري، والجزائري بشير مفتي، والأريتري حجي جابر، والسعودي يحيى امقاسم، والعراقي أحمد سعداوي، والسوداني حمور زيادة، والسورية مها الحسن، والتونسية لمياء المقدم، والسورية شهلا العجيلي، والتونسي جمال الجلاصي، والتونسي كمال الرياحي، والمغربي سعيد بنكراد وغيرهم الكثيرين من الروائيين والشعراء العرب؛ فكان الحوار ممتدا لا ينتهي.
يكاد يكون معرض تونس الدولي للكتاب من أكثر المعارض نشاطا واهتماما بالثقافة من خلال مفهومها الواسع، وليس مجرد معرض لبيع الكتاب وترويجه؛ وهو ما يُكسبه أهمية وحيوية ربما تفتقدها الكثير من المعارض الأخرى المهتمة ببيع الكتاب أكثر من اهتمامها بمفهوم الثقافة بمعناه الأشمل؛ وهذا ما جعلني أفتقد تونس المثقفة.