السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"تجديد الفكر اليساري".. إشكالية تشغل شريف حتاتة في كتابه الجديد

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في محاولات تجديد الأفكار، يبدو اليسار نموذجا لاجتهادات ثقافية ومراجعات فكرية عميقة، سواء في عالم الشمال أو الغرب، أو في عالم الجنوب، حيث تتجلى مكانة مصر الثقافية بفضل اسهامات ثلة من كبار مثقفيها مثل الدكتور شريف حتاتة. 
وفي الغرب الآن يدور جدل عميق وواسع النطاق حول سبل تجديد أفكار اليسار، كما يتجلى في طروحات وكتابات ثقافية لصمويل فريمان؛ أستاذ الفلسفة في جامعات امريكية شهيرة من بينها جامعة بنسلفانيا وكتب مثل الكتاب الجديد "هاوية النزل العظيم.. حيوات مدرسة فرانكفورت"؛ لستيوارت جيفريز، ويتناول فيه المؤلف وهو كاتب صحفي وناقد ثقافي بريطاني التطورات في أحد أهم مراكز الأفكار الثقافية في العالم أي معهد العلوم الاجتماعية الألماني الشهير بمدرسة فرانكفورت.
وهذا المعهد العريق في العلوم الاجتماعية بالغرب والذي أسس عام 1924 معني بمحاولات تطوير أفكار اليسار في الواقع الجديد الذي قد تتحدى متغيراته أفكار ومقولات الفيلسوف كارل ماركس الذي تنسب له الماركسية كرافد رئيس في الفكر اليساري.
فالعالم الآن في ظل الثورة الرقمية يشهد متغيرات قد لا يكون كارل ماركس الألماني الأصل قد تصورها في أكثر نوبات خياله جموحا حتى رحيله يوم الرابع عشر من مارس عام 1883 في لندن.. ولعل "مدرسة فرانكفورت" بنزعتها النقدية لأفكار اليسار تقوم بدور بالغ الأهمية على صعيد المراجعات الفكرية العميقة ومحاولات تجديد اليسار في مرحلة لا يمكن وصفها إلا بانها مرحلة التراجع اليساري وانحسار النفوذ الفكري لهذا التيار.
وفي كتابه "هاوية النزل العظيم.. حيوات مدرسة فرانكفورت" يتناول ستيوارت جيفريز أفكارا ورؤى شخصيات مرت بمدرسة فرانكفورت التي قدمت للعالم فلاسفة ومفكرين مثل ماكس هوركهايمر وتيودرو ادورنو واريك فروم وهربرت ماركيوز، غير أن الأهم هو وضع أفكارهم على محك متغيرات العالم الجديد، كما فعل مثقف مصري كبير هو الدكتور شريف حتاتة. 
وبقدر ما يشكل كتاب "معارك العالم البديل"، الصادر حديثا عن دار روافد؛ اسهاما ثقافيا جديد للدكتور شريف حتاتة بقدر ما يحق وصفه بالمحاولة الجادة والهامة على صعيد تجديد أفكار اليسار.
وشريف حتاتة ولد عام 1923 وتخرج في كلية الطب عام 1946 وعمل في وزارة الصحة ومنظمة العمل الدولية حتى قرر في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي التفرغ تماما للكتابة، وصدر له أكثر من 20 كتابا ما بين الروايات والدراسات وأدب الرحلات فيما جاءت مذكراته بعنوان "النوافذ المفتوحة".
والطريف أن الدكتور شريف حتاتة يعترض على وصفه "بالمفكر" بل ويعترض على اللفظ ذاته ويقول: "أنا اعترض على لفظ المفكر لأنه يقسم الناس إلى مفكرين وغير مفكرين وفي رأيي أنه لا يوجد ناس مفكرون وناس غير مفكرين.. نحن جميعا نفكر من واقع المكان الذي نوجد فيه والمجال الذي نعمل فيه ووفقا لنشأتنا وتربيتنا وتاريخنا وتجاربنا".
وفي كتابه "معارك العالم البديل" الذي صدر خلال الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، يتناول شريف حتاتة انعكاسات تطورات العولمة الرأسمالية، ويطرح سؤالا مهما: هل يجب أن تؤدي هذه التطورات إلى تطورات في مضمون وشكل اليسار تستلزم أن يغير في تفكيره؟.
وإذ يستخدم تعبير "اليسار الجديد" في غير موضع بكتابه الذي يتأمل فيه مسيرته المديدة ومسيرة اليسار الذي انتمى إليه؛ يقول الدكتور شريف حتاتة إن اليسار يواجه أوضاعا جديدة تتطلب مراجعة سياساته ومواقفه النظرية، معتبرا أن انفصالا قد حدث في العلاقة بين النظرية والتطبيق.
ويوضح حتاتة أن النظرية تنبع من الواقع وليس العكس، كما أن النظرية "ليست سوى منهج في التفكير لا أكثر ولا أقل"، فيما يتحدث عن "اليسار العالمي الجديد"، أو "اليسار المعولم" كتحالف يبحث عن عولمة بديلة لعولمة الرأسمالية المتوحشة. ولم يغفل حتاتة سياقات ما بعد الحداثة، وها هو يقول ان فكر ما بعد الحداثة نبهنا الى الأحجار التي يقام منها البناء الكلي، مشيرا ضمنا إلى أن بعض أطراف اليسار أهملت جوانب تتعلق بانعكاسات فكر ما بعد الحداثة بالتركيز على الكل أو الجماعة.
ويرى الدكتور شريف حتاتة ان "العولمة النيو ليبرالية" فرضت على مستوى الفكر والفعل "نظاما شموليا لم ير التاريخ مثله"، معتبرا أن "الأفكار والقيم التي تدعو اليها تتحدث عن الفرد وتلغيه"، كما تتحدث عن "الخصوصية وتعدد الثقافات وضرورة احترامها وتقضي عليها لتصنع النمط الواحد للمستهلك".
ومن نافلة القول إن المفكر المصري شريف حتاتة يعارض مقولة المفكر الأمريكي فوكوياما حول "نهاية التاريخ" ويعتبرها محاولة للايحاء بأن الرأسمالية النيو ليبرالية لا بديل لها وينبغي إثناء البشر عن البحث عن مستقبل أفضل أو عالم آخر ممكن بما في ذلك البحث عن عولمة مغايرة للعولمة الخاضعة لسطوة الرأسمالية النيو ليبرالية.
ووسط تساؤلات ترددت طويلا حول ثقافة اليسار ومآلات هذا الفكر على مستوى العالم، ثمة اتفاق على أن أزمة اليسار بدت واضحة لكل ذي عينين منذ سقوط سور برلين في عام 1989 وبهذا السقوط –كما يقول الدكتور شريف حتاتة- انقضى عصر كان فيه العالم منقسما إلى معسكرين أو قطبين متنازعين، أي المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي الذي ولد في اكتوبر عام 1917 مع الثورة السوفييتية.
ويشير حتاتة في كتابه إلى أن هذا السقوط أثر أيضا بالسلب على الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية، معتبرا أن هذه الأحزاب فقدت جوهرها الاشتراكي الثوري بالتدريج، كما أدى هذا السقوط وتداعياته إلى تفرق الملايين من أنصار الفكر الاشتراكي واستكانتهم، وكلها تطورات كانت تستدعي "أسلوبا جديدا لليسار".
فالمقاربات القديمة لم تعد في أغلبها صالحة لتقديم فهم جديد ولغة جديدة مواكبة للواقع الجديد والمتغير بتناقضاته وتحولاته ومؤثراته في المكونات الثقافية، وانما المطلوب كما يرى الدكتور شريف حتاتة هو "عملية اكتشاف" لا بد وأن تكون حصيلة اتفاق ديمقراطي في عالم أصبح شديد التنوع.
ويعيد هذا المفكر اليساري المصري للأذهان أن مؤسس الاتحاد السوفييتي السابق فلاديمير لينين كان قد أشار إلى أنه "لا يوجد شكل مطلق ونهائي" لأحزاب اليسار في كل زمن.
ويدعو شريف حتاتة اليسار "لفتح عقله والخروج من القمقم"، معتبرا أن التحجر وتمسكه بالرطانة القديمة والقضايا القديمة المعبرة عن زمن انقضى عهده يشكل "سجنا لليسار" يحول دون طرح الأسئلة التي يلح عليها الواقع المتغير وتدويل رأس المال في اطار ما وصف بالعولمة وانعكاسات هذه الظاهرة في مجالات متعددة من بينها الأوضاع الثقافية.
وبدلا من "التخشب الدوجمائي" والاستمرار في إثارة قضايا عفا عليها الزمن ولم يعد لها محل من الإعراب في سياقات الحاضر ومعطيات الراهن بتعقيداته وتحدياته الكبيرة وأغلبها لا علاقة لها برطانة اليسار القديم، فإن اليسار عليه ألا ينعزل عما يصفه الدكتور شريف حتاتة "بالتطورات العميقة المعنى الواسعة النطاق"، في راهن عالمنا المعاصر.
وفيما يعاني اليسار من "الهشاشة" على حد وصف مفكر كبير وعالم اقتصاد كبير انتمى بدوره لليسار وهو الدكتور سمير أمين، فإن مسألة التجديد في الأفكار ينبغي ان تفلت من فخ أشار إليه الباحث المرموق والكاتب في جريدة "الأهرام" نبيل عبد الفتاح عندما تحدث عن "نزعة إعادة الرؤى القديمة وإثبات مطابقتها للمتغير والجديد والمتحول".
ولفت نبيل عبد الفتاح في سياق تناوله لإشكاليات مراحل تاريخية مثل الانتقال من الحداثة إلى مابعدها، إلى نزوع الأجيال الفكرية إلى رؤية العالم المتغير وتحولاته وفق الرؤى والمفاهيم التي سبق وأن شكلتهم، ومن ثم يحاولون فرضها على الجديد والمتحول ونسيان الواقع الموضوعي المتغير.
ولئن تحدث مثقفون عن أخطاء اليسار في حياتنا الثقافية كقضايا تحتاج إلى حوار موضوعي مع النفس أولا ومع المجتمع ثانيا ومع الحقيقة قبل أي شيء، فإن الدكتور شريف حتاتة يدعو اليسار إلى اقامة منظومة ثقافية أخلاقية تدافع عن كل منابع الفكر الإنساني المتقدم وحقوق الإنسان في الإبداع وقيمة العمل.
وفي إشارة دالة إلى أهمية توسيع نطاق الأنشطة الإبداعية حتى على المستوى الشخصي، يؤكد الدكتور شريف حتاتة صاحب الروايتين الشهيرتين "الشبكة" و"نبض الأشياء الضائعة"، أن انخراطه في الكتابة الروائية أحدث تطورا في تفكيره وأضاف إليه أشياءا أدت إلى انه اصبح يفكر بطريقة مختلفة عن طريقته في الماضي بما في ذلك تفكيره كيساري. 
وفيما يرى بعض المثقفين ممن لا ينتمون لليسار ان هذا التيار؛ "كان ومايزال لا يرى في الساحة المصرية والعربية أحدا غير رموزه وأقلامه ومفكريه وشطب من اجندة الحياة المصرية كل من خالفه الرأي"، يقر شريف حتاتة بشجاعة ونزاهة في كتابه الجديد بأن اليسار كما عرفه وانخرط في تنظيماته "لم يكن ديمقراطيا في يوم من الأيام".
ويقول الدكتور شريف حتاتة صاحب روايات "العين ذات الجفن المعدني"، و"عمق البحر"، و"عطر البرتقال"، و"قصة حب عصرية" أنه يلتقي بأشخاص لا ينتمون للأحزاب والتنظيمات اليسارية لكنهم أكثر مرونة وعمقا من أعضاء هذه الأحزاب والتنظيمات.
واليسار في هذه الأيام أصبح إلى حد ما "تكوينا هلاميا فقد الطابع القاطع والجامد الذي اعتدناه في المراحل السابقة"؛ حسب قول الدكتور شريف حتاتة وهو ينبه لأهمية الالتفات لهذه الظاهرة إذا كانت هناك رغبة في النهوض باليسار من حالة الضعف التي يعاني منها.
وإذ رأى استاذ العلاقات الاقتصادية الدولية بمعهد التخطيط القومي الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى أن اليسار مدعو للمشاركة تحت مظلة جامعة للتيارات السياسية المدنية لإعادة صياغة "جدول أعمال وطني قومي تقدمي حقيقي"، فإن هذا المثقف المصري يوضح أن الهدف المرحلي لهذه المظلة هو "شل حركة تيار العنف الدموي وعزله سياسيا وشعبيا".
كما يلفت الدكتور شريف حتاتة إلى تغير الرؤية القديمة في حركات يسارية معاصرة وهي الرؤية التي كانت تعتبر اليسار "حركة طليعية تتقدم الجماهير" موضحا ان الرؤية الجديدة تعتبر اليسار جزءا من صفوف الجماهير.
إنه شريف حتاتة المثقف المصري الذي يبرهن على أن هذا الوطن بمقدوره دوما الاسهام بقوة وايجابية في جدل الأفكار على مستوى العالم.. فتحية لمثقف مصري كبير يشارك مع ثلة من المثقفين الكبار في العالم في البحث عن إجابات لمرحلة أرق يعيشها هذا العالم.