الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

حوارات

مجيد طوبيا في حواره لـ"البوابة نيوز": لم يعد أمامي غير انتظار الموت.. أحب "محمد نجيب" لأنه يشبه والدي.. قصص الحب البائسة شبح يطارد "حتحوت" فى تغريبته الأخيرة.. وأعتبر عدم زواجه "ستر من ربنا"

«البوابة» تنقذ ما لم يتلفه الزهايمر

مجيد طوبيا
مجيد طوبيا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وسط الأشجار العجوز الضخمة التى غلفت حى تريومف بمصر الجديدة، دلفت متجها إلى بيت الأديب الكبير مجيد طوبيا.. شقته متواضعة لكنها تحوى كنوزا عظيمة من كتب نادرة ولوحات فن تشكيلى وصور قديمة، كان يجلس فى أحد أركانها يحشو غليونه بكمية من التبغ ويدخن فى استجمام، عمره يقترب من عمر الأشجار التى تحيط بمنزله، ففى 25 مارس هذا العام بلغ «طوبيا» 79 عاما، ملامح وجهه الحادة ولحيته البيضاء فتحت الباب أمامى للحديث حول ماض ملون بالذكريات، منذ طفولته السابحة فى عالم القراءة والمعرفة بالمنيا، حيث كان من رواد المكتبة العامة إلى انتقاله للقاهرة وتخرجه فى جامعتها العريقة ودراسته السينما وتأسيسه أول شركة إنتاج سينمائى بالتعاون مع المخرج محمد راضى، كل هذا، بالتزامن مع مسيرة أدبية حافلة لم تنقطع حتى يومنا هذا من أولى رواياته «دوائر عدم الإمكان» مرورا بملحمته الأشهر «تغريبة بنى حتحوت»، لكن مرض الزهايمر اللعين مزق أغلب أوراق ذاكرة مجيد طوبيا، فيكاد ألا يتذكر أغلب مراحل حياته إلا بعض المواقف التى يحفظ سردها عن ظهر قلب ويرددها مرة تلو الأخرى.


عندما لمحت أفيش فيلم «أبناء الصمت» الذى أنتجه وألفه بادرته بالسؤال لماذا شهرتك كأديب امتدت أكثر من شهرتك كسينمائى؟ فقال: إن السينما مجرد حالة حب بالنسبة لى، بينما كتابة القصص مثلت لى حياة حقيقية، كان الأدب هو أكثر شىء جاد فى حياتى لم يكن رفاهية يوما ما، عشق السينما أمر وارد فنجيب محفوظ كان يعشق السينما أيضا، لكنه لم يترك الأدب، فالكتابة حياة بالنسبة لنا وقبل أى شىء آخر.
ورغم أن «مجيد» قد درس الإخراج والسيناريو على أيدى كبار أساتذة معهد السينما، فإنه لم يمارس مطلقا فن الإخراج، واكتفى فقط بكتابة السيناريوهات للأفلام، ومع ذلك لم تكن كثيرة، فقد كتب أربعة أفلام فقط، أبرزها كان فيلم «أبناء الصمت» الذى أخرجه رفيق دربه وشريكه فى مشروع الإنتاج الذى أسساه معا على حد قول مجيد، وكان ذلك عام ١٩٧٤، ويبرر «مجيد» عدم اتجاهه للإخراج السينمائى لكونه لا يقدر على المعارك الكثيرة التى تحدث بين المخرج وطاقم العمل، إذ يرى فى الأمر مسئولية كبيرة ما قد تؤدى به إلا مخاطر، فعلاقته بالسينما كانت تشبه علاقة أبيه الروحى نجيب محفوظ بها، رغم أنه أكد أن نجيب لم يكن هو الذى جره إلى عالم السينما، والذى قاده إلى السينما هو شغفه بمحاولة معرفة ما يدور خلف الكواليس، وبالفعل قد استطاع فك شفرات ما يدور خلف كواليس الأفلام حيث قد كتب فيلما يعد علامة فى تاريخ السينما وهو «أبناء الصمت» الذى ضم عددا من النجوم الشبان فى ذلك الوقت، من بينهم أحمد زكى الذى صار اسما له بريق فى عالم الفن فى وقت لاحق، يقول «مجيد» إنه كان يحب «زكى» للغاية ويؤمن بموهبته، مؤكدا أن إسناد دور «محمود» أحد الجنود المحوريين فى أحداث الفيلم التى تتناول فترة حرب الاستنزاف، قد حقق له نجاحا ملحوظا كاشفا أن علاقة «زكى» به قد توطدت فى هذا الوقت لدرجة أنه كان يأتى ليبيت عنده فى منزله بمصر الجديدة أثناء إعدادهم لهذا الفيلم.
نجيب محفوظ
لم يكف «مجيد» عن الزج باسم الأديب العالمى نجيب محفوظ بين حين وآخر أثناء حديثه عن السينما ما دفعنى  للانتقال إلى الحديث عن صاحب نوبل، ورغم أن «الزهايمر» قد نسف جزءا كبيرا من بناء ذاكرة مجيد غير أن هناك مواقف كان يتذكرها جيدا وكأنها حدثت منذ قليل مثل علاقته بأحد أدباء جيله ويدعى أحمد هاشم الشريف، الذى كان يغار من «مجيد» كثيرا فى كل شيء.. علاقة غريبة تشبه علاقة هارون الرشيد بوزيره جعفر البرمكى ما بين الحب والشك والجدل والسخرية والجد، فيقول «مجيد»: «كان نجيب محفوظ يشيد بكتابتى فى كثير من المحافل الثقافية، وتلك الإشادت فورت دم هاشم الشريف، فصرخ فى وجه الأديب العالمى قائلا فى استنكار ألا يوجد فى عالم الأدب سوى مجيد طوبيا، فهز له محفوظ رأسه، وقال فى ثبات نعم لا يوجد سوى «مجيد» فكادهاشم الشريف أن ينفجر من الغيظ.. حكى طوبيا هذه الحكاية ورأيته ينفجر ضاحكا ويقسم لى أكثر من مرة أن هذا  حدث بالفعل. 


قال «طوبيا» إنهما كان يلتقيان بالأستاذ فى عوامة صديقهم الكاتب الساخر محمد عفيفى، وحكى طوبيا موقفا آخر يتعلق بأديب نوبل وصديقه الحقود الكاتب أحمد هاشم الشريف، حيث دار حوار طويل بينه وبين نجيب حول مصر وسحرها وكيف أنها دائما محروسة، كانا يتحدثان ويبدو أن الحديث لم يعجب هاشم الشريف أو أنهم تجاهلوه ما أثار غضب الشريف، فانتفض فى وجه أديب نوبل صارخا «ألا يوجد شيء سوى مصر نتحدث فيه» فرد نجيب بشيء يوحى بإغاظة الشريف «قطعا لا يوجد شيء سوى مصر»، فنجح «نجيب» فى إغاظة «الشريف» مرة أخرى منتصرا لمجيد، وفور أن أنهى طوبيا حكايته خر ضاحكا للمرة الثانية.
لم تدم حالة الضحك كثيرا فسريعا ما انقلب وجه مجيد إلى ملامح طفل بريء إذ دخل فى حالة من الشجن حينما تذكر السيدة نعمة الله إبراهيم زوجة نجيب محفوظ، ترحم عليهما الاثنين معا، وقال إنهما كان يعاملانه كواحد من الأسرة ذاكرا أن السيدة نعمة الله كانت تعلم أن مجيد لم يكن متزوجا، حين كان يتردد إلى منزل نجيب محفوظ، فعندما ينتهى اللقاء بينه وبين نجيب لا تسمح له نهائيا بالمغادرة، وتجبر نجيب على الإمساك به حتى يأكل معهم، ونجيب كان يغضب بشدة إذا فكر طوبيا فى المغادرة دون تناول وجبة الغداء معهم.
تلك الذكريات الحلوة التى جمعته بنجيب محفوظ وأسرته جعلته يتذكر ما كتب عن نجلتيه وزوجته مؤخرا فى إحدى  الصحف حيث اتهمهم أحد الكتاب الصحفيين بالانتماء لداعش والانتصار لأفكارها، مشيرًا إلى أن هذا كلام  لا يصح وعبثى ومن يكتبون مثل هذه الكلمات تافهون ويبحثون عن أمجاد واهية على حساب التقليل من رموز المجتمع أمثال نجيب محفوظ؛ مؤكدا على حالة التواؤم والحب غير العادية بين نجيب وأفراد أسرته.
توفیق الحكيم
على أحد جدران منزل مجيد طوبيا صور عديدة بالأبيض والأسود، بينهما صورتان تجمعه بالأديب الكبير توفيق  الحكيم، إحداهما يظهر فيها الحكيم واقفا بمكتبه بجريدة الأهرام ويتوسط أربعة كتاب شباب.. ثلاث فتيات هن: ماجدة الجندى زوجة الأديب الراحل جمال الغيطانى وكريمة كمال زوجة المخرج السينمائى الكبير داود عبدالسيد، بالإضافة إلى القاصة والشاعرة منى غامس، وفتى واحد هو مجيد طوبيا، يقف مبتسما ناظرا بفخر إلى كاتبه المفضل توفيق الحكيم.
وصورة أخرى تجمعه بالحكيم مجددا فى مكتبه بالأهرام أيضا، وكان معهما المفكر زكى نجيب محمود، ينظر طوبيا إلى هذه الصور بوجه حنون يوشك على البكاء ويترحم على الأستاذ توفيق الحكيم متحدثا بحميمية عن العلاقة التى ربطته بالحكيم وإشادته برواياته وعن حرصه علي ملاقاة مجيد دائما فى مكتبه بجريدة الأهرام وعن حسن استقباله؛ وقال طوبيا أيضا: «توفيق الحكيم انكسر لحظة ما مات ابنه حينها أخذته فى حضنى وطبطبت  عليه».


مجيد إسحاق طوبيا يوسف أديب ينتمى إلى جيل الستينيات من القرن الماضى، ذلك الجيل الذى عزف على وتر السياسة بكل مشاعره، والسياسة كانت سندا أساسيا لدى بعض النقاد الذين أحالوا كتابات «طوبيا» إليها حيث رأى بعضهم أن حرصه على كتابة «التغريبة» بأجزائها الأربعة تأتى بأسلوب حكى وصفوه بأنه يعتمد فيه على التراث الشعبى العربى كان السبب فى ذلك هى النكسة التى جعلت بعض الأدباء يبحثون عن وطنهم المهلهل فى التراث ليؤكدوا وجوده وينفوا الهزيمة عنهم؛ أكدت هذه النظرة قصته «أبناء الصمت»، والتى أعدها لتصبح سيناريو وحوارا لفيلم سينمائى يحمل نفس الاسم.
فهل معنى ذلك أن «طوبيا» كان ناشطا سياسيا مثل بقية أدباء جيله وله أيديولوجيا سياسية صارمة يدافع عنها؟!؛ فلو كان شيوعيا مثل الكثير من أبناء جيله فلماذا إذن لم يتم اعتقاله مثلما اعتقل آخرون، وإن كان يمينيا مؤيدا للسلطة لماذا لم ينصب وزيرا للثقافة أو للإعلام مثلا أو مسئولا كبيرا لأى جهة تحتل الثقافة جزءًا فى تكوينها مثلما حدث مع بعض أدباء جيله أيضا؟!.
فيؤكد مجيد إنه لم يدخل معترك السياسة أبدا ولم يذكر أنه عادى أحدا يوما ما، يقول: «كنت أحب الإبداع والسفر  فقط لم يكن لى أية أيديولوجيا، كنت أعتبر النكسة مجرد غلطة لا تستحق كل هذا الضجيج وأشرت إلى  ذلك فى «أبناء الصمت» التى كتبتها رغم أنى لم أدخل الجيش بسبب تلف فى عينى اليسرى سببته الألعاب النارية والتى أتمنى أن يصدر قانون بمنعها»، ويضيف: «بحر السياسة عميق لذا تكلمت فيما يخص الأدب وتوثيق حالة الصبر والصمت على أمل يوم تتحدث فيه مصر عن نفسها وتقول للعالم أجمع: «نحن شعب لا يهزم ويونيو لم يكن خط النهاية».
ويتابع: «أشيد بدور الرئيس السيسى الذى قضى على أعنف جماعة متطرفة على مر التاريخ وهى جماعة الإخوان  المسلمين، والتى تكره مصرنا الحبيبة كرها أعمى، فالسيسى أنقذ مصر قطعا، لذلك يبدو فى نظرى حاكما  عظيما» مؤكدا: «أنا أعشق مصر بكل تفاصيلها وأثق فى أن الله سيظل حاميها؛ وأقول لكل حاقديها إن  مصر ستظل محروسة ومن لم يعجبه كلامى فأمامه البحر».


عبدالناصر ونجیب
ويتابع: «كنت أحب محمد نجيب أكثر من حبى للزعيم عبدالناصر، لسبب غير سياسى إطلاقا وهو أن محمد نجيب كانت ملامحه تشبه كثيرا ملامح والدى، وعبدالناصر زعيم شريف كان يحارب بمفرده فكريا ومن حوله  غاصوا فى نزواتهم الخاصة».
ويبدو أن «الزهايمر» مسح ذاكرة طوبيا منذ فترة تولى الرئيس السادات الحكم، وحتى اندلاع ثورة يناير على الرئيس  المخلوع حسنى مبارك، فهو لا يتذكر شيئًا عن ثورة يناير، وكنت قد ألحيت عليه فى التساؤل بشأن  معايشته لتلك الثورة فى الأساس ورد علي أكثر من مرة بعد تفكير أنه ليس لديه فكرة عن هذا رغم أنه أشار فى حديث لاحق عن أن مريم العذراء لم تنس الناس فى ثورة يناير.
مجید والسادات
لكن «مجيد» يتذكر موقفا جيدا فى تلك الفترة وهى لحظة منحه جائزة الدولة التشجيعية وتسلمه شهادتها من قبل رئيس الجمهورية، فيحكى مجيد أن السادات لم يكن يعرفه ولم يعرف من هو ذلك الطوبيا، وما الإنجاز الذى حققه  فى الأدب حتى يمنح جائزة الدولة، فكان ينوى أن يسلم عليه باستهتار، لكن بمجرد أن نادوا على اسمه وصفق له الجمهور بحرارة شديدة أمسك بيده لمدة خمس دقائق، ورحب به أشد ترحاب حيث ظن أنه أديب مهم عندما رأى تصفيق الناس الحاد زاعما أن السادات قد قال داخل نفسه حينها «فلأسلم عليه بحرارة ليظن الناس أننى قرأت له وبالتالى أعرف قدره»، حكى طوبيا ذلك الموقف وضحك وأشار على حائط منزله وأشار إلى صورته وهو يسلم على السادات والرئيس يمنحه الجائزة، وتكرر موقف منحه جائزة الدولة مرة أخرى فى العام ٢٠١٤٤ حيث حصل على الجائزة التقديرية عن مجمل أعماله ويؤكد مجيد: «إن الجوائز لا تهمه على الإطلاق وكل ما يهمه فيها هو العائد المادى».
كما يتذكر موقفا آخر يتعلق بتجمهر عشرات الآلاف من المصريين فى أواخر العام ٢٠٠٩ ترقبا لظهور السيدة العذراء حول أى من كنائس القاهرة وكان مشهد التجمهر ذلك حدثا غريبا حقا وتناولته وسائل إعلام محلية وعالمية، هذا المشهد عالق جدا فى ذاكرة مجيد طوبيا المهترئة بعض الشيء ومن كثرة ما يتردد فى ذهنه كتب رواية عنه مؤخرا بعنوان «أوراق العذراء» قال إنه كتبها وأرسلها إلى الهيئة العامة للكتاب، مؤكدا أنه بنى أحداث الرواية على عدة مشاهد عينية حيث قام بنفسه للذهاب إلى أماكن التجمهر فى الزيتون وتساءل فى روايته تلك عن سر تمسك المصريين بأن تظهر العذراء لماذا يتشوقون إلى المعجزة بهذا الشكل؟!؛ رغم أن العذراء كانت موجودة فى ثورة يناير ولم تنس الناس فى الميدان.
تغریبۀ بنى حتحوت
«تغريبة بنى حتحوت» تعد من أهم مئة رواية عربية بالإضافة إلى أنها ترجمت إلى عدة لغات كما أنها من أشهر أعمال مجيد طوبيا على الإطلاق؛ تقع الرواية فى أربعة أجزاء، وتدور أحداثها فى نهاية القرن الثامن عشر، ثم القرن التاسع عشر فى محاولة لاستنباط شكل روائى جديد مستلهما التراث المصرى الحكائى فى سرد الأحداث كما فى كتب التاريخ والسير الشعبية وألف ليلة وليلة يرحل القارئ معها فى تاريخ ما قبل وأثناء الحملة الفرنسية، وتتغرب فيها مع بنى حتحوت فى ربوع مصر المحروسة من المنيا إلى القاهرة والفيوم وأسوان والإسكندرية. وعن «التغريبة» يقول مجيد: «لعبت فى هذه الرواية دور المؤرخ لقد كنت أنتوى التأريخ بها ومن حسن حظى أنها ظهرت فى شكل رواية بها جماليات عدة أحبها النقاد والناس»؛ ولكنى عندما واجهت مجيد بحقيقة عدد من القصص التى أوردها فى الرواية مثل قصة سعد اليتيم ذلك الصبى الذى طارده الجنود الفرنسيون فى إحدى قرى بنى سويف وقطعوا ذراعه ومع ذلك صمد أمامهم فانبهر الفرنسيون بشجاعته ورسم له أحد الفنانين لوحة تشكيلية وهو مقطوع الأيدى ونقلها إلى فرنسا؛ لم يتذكر شيئا عن هذه القصة.
ولم يتذكر طوبيا شيئا أيضا عن مسقط رأسه المنيا سوى أنها بلد الدكتور طه حسين وأعرب عن فخره بشده لكونه ينتمى إلى بلد طه حسين، وبمجرد أن ذكر اسمه تذكر موقفا له قابل فيه حسين عندما كان «مجيد» طالبا فى جامعة القاهرة، فعندما رآه جرى وراءه وأوقفه فارتعب طه حسين فى بادئ الأمر لكن مجيد أعرب له عن عشقه  لأفكاره وأنه أراد فقط أن يسلم عليه فابتسم عميد الأدب العربى، ومد له يده فاستلمها مجيد وقبل رأسه؛ كما قال طوبيا إنه يزور مدينته كثيرا ولم يتذكر آخر مرة زارها وهو يعيش فى القاهرة منذ أن انتقل إليها طالبا وحتى الآن. 


الأدیب المنسی
مجيد طوبيا «الأديب المنسى» عبارة تتردد على لسان بعض المثقفين، نظرا لغيابه وعزلته وعدم تقلده أى منصب يذكر سوى فوزه بجائزة الدولة مرة عام ١٩٧٩ كجائزة تشجيعية ومرة عام ٢٠١٤ كجائزة تقديرية؛ حينما واجهته بعزلته وهل هو بعيد عن التجمعات الثقافية قال: «لم أبتعد عن التجمعات الثقافية كما يشير البعض وكان لى أصدقاء عديدون؛ لم أتذكر منهم سوى المخرج محمد راضى لأنه الوحيد الموجود على قيد الحياة منهم الذى جمعته  بينى وبينه صداقة قوية، كان جمال الغيطانى أيضا صديقا لى وهناك أدباء أعرفهم لكن علاقتى بهم  سطحية جدا مثل إبراهيم أصلان وبهاء طاهر؛ بهاء بالتحديد لا توجد بيننا أية علاقة تذكر سوى معرفة كل منا الآخر عن بعد.
فى ثنايا الحوار قد ينقطع بين لحظة وأخرى ليطمئن على سعدية هل بخير هل انتهت من أكلها وشربها أم لا.. سعدية قطته وحبيبته وونيسته فى تغريبته الأخيرة؛ سعدية آخر عشيقات مجيد طوبيا ذلك الذى ينطبق عليه وصف «المقطوع من شجرة» فهو لم يتزوج طيلة حياته ويقول ضاحكا «إن هذا يعد سترا من عند الله إننى لم أتزوج حتى الآن» أما أبرز حبيبات مجيد فكانت كاتبة إيطالية تدعى «كونشيتا» يحتفظ لها بعدة تصاوير وهدايا كانت تحملها له عندما تزوره فى مصر منها صورتان لامرأتين عاريتين واحدة سمراء وأخرى شقراء؛ كانت كونشيتا تتقن العربية وهى من ترجمت لمجيد روايته إلى اللغة الإيطالية. يقول طوبيا «إنه أحب السفر من أجل كونشيتا، فعندما كان  يحصل على أية نقود أو مكافآت كان يبددها فى تذاكر سفر إلى إيطاليا ليرى تلك الكونشيتا»؛ كونشيتا غادرت إيطاليا والدنيا إلى حياة أبدية وتركت مجيد وحيدا فى شقته بمصر الجديدة لا يحبذ السفر إلى أى مكان آخر.
إن التغريبة الأخيرة فى حياة مجيد طوبيا تجربة درامية ومثيرة للغاية كاتب مصرى عبقرى على مشارف الثمانين من عمره تناساه الجميع، ويجلس فى شقته وحيدا يدخن بشراهة ويحتسى الكحول لم يرعه أحد سوى الروائى فتحى سليمان بحكم أنه جاره فى نفس الحى السكنى، والدور الذى يلعبه فتحى فى الجزء المتأخر من حياة مجيد طوبيا لا ينكره إلا جاحد؛ فهو من أعاد سيرة طوبيا مرة أخرى وعرف الجميع أنه حى يرزق وتعاقد مع ثلاثة دور نشر هي تويا وبتانة وتبارك للاشتراك فى طباعة أعماله الكاملة، «فتحى» يخوض معارك شرسة يوميا مع مجيد ليمنعه عن مخالفة تعليمات الأطباء؛ فيخفى من أمامه السجائر بقدر المستطاع وقوارير الجعة أيضا، لكن طوبيا عنيد للغاية ويدخل فى عراك يومى مع «فتحى» الذى يطل عليه مرتين يوميا صباحا ومساء يطهى له الطعام ويشرف على ما يحتاجه من مستلزمات.
مشاهد لا تنسی


فى حياة مجيد طوبيا المتأخرة مشاهد لا تنسى.. قناة أفلام قديمة يشاهدها طيلة اليوم يرى خلالها أصدقاءه من الممثلين.. تظهر سيدة الشاشة العربية فتحنو نبرته ويقول «فاتن حمامة حبيبتى»؛ «هند رستم حبيبتى» وهكذا؛ وجاء مشهد للرئيس عبدالفتاح السيسى وهو يحتضن الأمهات فى عيد الأم فبكى بحرارة؛ وتأثر جدا بإعلان معهدمجدى يعقوب لأمراض القلب ذلك المعهد الذى قرر طوبيا من قبل أن يتبرع بثروته كاملة لحسابه؛ يتأمل لوحاته التى رسمها فهو أيضا فنان تشكيلي؛ وقد لمحتُ فى غرفته لوحة تجريدية رسمت بألوان مائية بديعة؛ كما أنه موهبة فى التصوير الفوتوغرافى بدا ذلك حينما شرح لى كواليس لصورة كانت معلقة أمامنا على الحائط التقطها لعائلة من الجمال تقود فيها الأم أبناءها إلى بركة مياه عذبة ويخفضون رقابهم ويرشفون منها الماء.. صورهم مجيد وخلق من الصورة عملا فنيا رائعا؛ يحب هذه الصورة كثيرا ويتأملها بشدة؛ كما يعتز بكنز الكتب التى تحتويه شقته فجميع الكتب الموجودة هى مصادر رواياته تتكئ معظمها على مجلدات التراث للفتوحات المكية لابن عربى ومختلف السير الشعبية والألف ليلة وليلة وكتب باليونانى والطليانى والروسى وكتب فى الفنون الشعبية ومصاحف وتفسيرات للقرآن الكريم ومجلدات للكتاب المقدس ومئات من الكتب الأخرى؛ قال لى إنه سيموت وهو يقرأ أو يكتب؛ وقال إن القراءة والكتابة هى الأشياء الوحيدة الذى لا يمكنه الاستغناء عنها.
أم کلثوم.. والمساطیل
فى حياته الأخيرة تظهر عدة حكاوى بعضها يبدو منطقيا والآخر فى علم الغيب حيث إن المعلومات التى يدلى بها كنت أسمعها لأول مرة؛ فيقول مثلا إنه لا يحب أم كلثوم حيث إنها كانت تستهدف «المساطيل» مشيرًا إلى أن  معظم مستمعيها وحاضرى حفلاتها كانوا يدخنون سجائر الحشيش قبل سماعها؛ مستشهدا بوالده وعشقه هو وأصدقاؤه لكوكب الشرق كاشفا أن هذا السبب هو الذى يجعلها تغنى فى حفلة على مدار الأربع أو خمس ساعات دون أن تكل أو يكلون هم؛ يقول مجيد أيضا إنه يحب عبدالوهاب وفيروز أكثر من أم كلثوم؛ لكنه لديه تحفظات على عبدالوهاب بسبب موقف ارتكبه فى حق ابن أخيه سعد عبدالوهاب؛ فيقول إن موسيقار الأجيال أنشأ علاقة غرامية مع فتاة كان يحبها سعد وعندما اكتشف الأخير الخيانة ترك البلد وهرب وعاش حياته أبدا فى الخليج؛ كما أكد أنه يعشق يوسف شاهين فى السينما مشيرًا إلى أنه موهوب موهبة فذة.
الهاجس الأكثر سيطرة على مجيد فى هذه الأوقات هو هاجس الموت؛ ففى كل مرة يقول «أريد أن أموت» ويكررها أكثر من مرة؛ ينتظر الموت بأى طريقة وما يعذبه هو فلسفة الانتظار الذى طال رغم محاولات العديدين بإقناعه أن الموت لا يأتى بهذه الطريقة؛ إن أحدا لا يعلم مجيئه وربما تكون معمرا يا مجيد وتعيش نصف قرن آخر لنسعد بك أو تموت فى عمر معشوقك نجيب محفوظ متجاوزا الـ ٩٠٠ عاما.
كان هذا الحديث محاولة لتوثيق ولملمة ما تبعثر من ذاكرة طوبيا آخر الباقين من العصر الذهبى فى الثقافة  المصرية؛ تركته برفقة قطته «سعدية» وشبح أحمد هاشم الشريف وسرت متأملا تلك الأشجار العجوز التى تفوح برائحة الماضى الجميل والتى تشبه كثيرا مجيد طوبيا فى تغريبته الأخيرة إلى بلاد السماء.