السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

السوق من سلطة التجار إلى سلطان الصدفة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ليست السوق مسألة جغرافية، بل ليست السوق مقولة كمية، لكنها فى الحقيقة مقولة نوعية، إن سعة السوق ترتبط فى الأساس بنطاق الإنتاج السلعى نفسه، فكلما كان هناك إنتاج سلعى وكلما أصبح هذا الإنتاج هو السائد فى المجتمع، اتسعت السوق الداخلية، ولهذا يتوقف الأمر على درجة سيادة الإنتاج السلعى فى المجتمع، وباختصار على مدى تحول جميع المنتجات إلى سلع.
صحيح أن السوق الداخلية تظهر عندما يظهر الاقتصاد السلعى إلى الوجود، يخلقها تطور ونمو الاقتصاد السلعى، ويحدد مدى تطورها تشعب وتفرع التقسيم الاجتماعى للعمل، وهى تنتشر بانتشار الإنتاج السلعى من مجال المنتجات إلى مجال قوة العمل، فمن المنظور الرأسمالى فإن السوق الداخلية تخلق بتطوير الرأسمالية التى تعمق التقسيم الاجتماعى للعمل وتحيل المنتجين المباشرين إلى رأسماليين من جانب، وعمال من جانب آخر، ومن ثم تتحول جميع المنتجات إلى سلع، ففى ظل الرأسمالية، تعنى سيادة الإنتاج السلعى سيادة نظام إنتاج القيمة وفائض القيمة، يصبح الإنتاج رأسماليًا فى جوهره، فالسلعة هى الخلية الحية للمجتمع الرأسمالى. ولقد كان ظهور وتطور الإنتاج السلعى يرجع منذ البداية لظهور وتطور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وليس يرجع للتبادل وحده، ومن ثم، فإنه فى ظل الإنتاج السلعى يصبح قانون القيمة هو المنظم التلقائى للإنتاج الاجتماعى.ويكون الإنتاج من أجل التبادل فى السوق لا من أجل الاستهلاك المباشر. تنتقل المنتجات من يد إلى يد، وعند التبادل يتنازل المنتج عن ناتجه، وهو لا يعرف ماذا سيحل بهذا الناتج، ومع اتساع السوق ونموه تنتقل السلع لا من يد إلى يد وحسب، بل أيضًا من سوق إلى سوق، ويصبح لكل سلعة سوقها: سوق للمواد الخام، وسوق للأدوات، وسوق للآلات، وسوق للمنتجات النهائية. وسوق للسلع الإنتاجية، وسوق للمواد الاستهلاكية، سوق لرأس المال، وسوق للأرض، وسوق للعمل، وبطبيعة الحال، فإنها كلها أسواق متشابكة، تدخل فى علاقات عرض وطلب لا تنتهى، من أجل إنتاج السلعة الواحدة.
فالتجار كثيرون والسلع كثيرة، وهى تنتقل من سوق إلى سوق، حتى لقد فقد المنتجون سلطانهم على الإنتاج، ولكن هذا السلطان لم ينتقل إلى التجار، بل أصبح السلطان للصدفة، وحينما تسيطر الصدفة فلابد أن يقابلها وجود ضرورة موضوعية وقانون موضوعى، وهكذا ظهرت وتحددت قوانين الإنتاج السلعى، وهى قوانين تتغير مع أشكال هذا الإنتاج السلعى. ومع تطور الإنتاج السلعى إلى أرقى صورة له، وهى الإنتاج الرأسمالى، يصبح الناتج وكأنما يسيطر على المنتج نفسه، وهكذا فما كان الناس يشرعون فى ممارسة التبادل على أوسع نطاق حتى غدوا هم أنفسهم سلعة للتبادل.
إن السلع، وهى منافع ذات قيم مبادلة، يجب أن تتحقق، يجب أن يتم تسويقها، يجب أن تتحول إلى عائد مادى، ولن يتم ذلك إلا بالقدر الذى تشكل فيه السلع الأخرى مقابلًا أو معادلًا لها. ومعنى هذا أن تصبح السلعة المعينة سوقًا للسلعة الأخرى، بمعنى خلق السوق الداخلية المتشابكة للسلع.
■ فإن وسائل الإنتاج تصبح سلعًا، أى إنها تنتج لتباع، إنها تشترى بالطبع، كما أن منتجاتها تباع.
■ ووسائل المعيشة تتحول إلى أجور، هى مفردات المبالغ التى تنتقل من أيدى أرباب الأعمال إلى العمال، وتتحول الأجور إلى مشتريات لوسائل المعيشة.
وعندئذ، فإن سيادة الإنتاج السلعى تعنى بالضرورة تصفية الأسواق المفتتة الضيقة لحساب السوق الموحدة الواسعة، التى تكون أساسًا بدورها لتطوير أكبر لفنون الإنتاج وتنظيماته، ويعنينا أن نشير هنا إلى ظاهرة أساسية هى ظاهرة أن السوق تنمو بمقدار زيادة إنتاج وسائل الإنتاج، لا بمقدار زيادة إنتاج وسائل الاستهلاك. وهذه الحقيقة هى التى جعلت وما زالت تجعل من التصنيع والصناعات الأساسية القوة المحركة لتنمية السوق الداخلية وتوسعها، فحالة الركود التى يشتكى منها التجار فى السوق المصرى بعفويتهم، ترجع علميا إلى ضيق السوق وقلة العرض من المنتجات المعدة للاستهلاك بسبب قلة الإنتاج وانخفاض الطلب الفعال على هذه المنتجات.
ولذلك يعنينا هنا أن نشير إلى حقيقة أن السوق الداخلية هى تعبير بالضرورة عن الوحدة بين العرض والطلب، وكما يتوقف نمو السوق على العرض المتزايد من الإنتاج السلعى، يتوقف أيضًا على نمو الطلب على السلع، يتوقف أيضًا على هيكل الحاجات الاجتماعية الذى يتخذ شكل الطلب الفعال، أى المزود بقوة شرائية.
وبتكوين السوق الداخلية تتهيأ الظروف لقيام السوق القومية، فمن قبل كانت السوق تنحصر فى بعض المناطق من كل بلد، لكنها بفضل الإنتاج السلعى تتكون بالتدريج على صعيد البلد كله. ولذلك كان عهد سيادة الإنتاج السلعى مقرونًا بالحركات القومية، ويتمثل أساس هذه الحركات فى حقيقة أن تفوق الإنتاج السلعى تفوقًا حاسمًا، وما يترتب عليه فى اتساع السوق الداخلية يوفر أحسن الظروف لتطويرها، ويسعى للتوحيد القومى الذى يعتبر من أهم الشروط لقيام مبادلات تجارية حرة وشاملة.
إن السوق القومية التى تعتمد على مقومات أساسية لتكوينها، ترتبط أساسًا بتوحيد الأراضى التى يتكلم سكانها لغة واحدة فى منطقة واحدة، وإزالة كل حاجز من شأنه أن يعوق تطور هذه اللغة ورسوخها فى الأدب، ذلك أن اللغة وسيلة كبرى لاتصال الناس بعضهم ببعض. كما أن وحدة اللغة وحرية التطور هما من أهم الشروط لقيام مبادلات تجارية حرة وواسعة لإقامة علاقة وثيقة بين كل رب عمل ورب عمل آخر، بين كل مستثمر ومستثمر آخر، بين كل بائع وكل مشترى فى السوق.
ولقد حبا الله -عز وجل- المنطقة العربية بكل هذه النعم والخصائص الفريدة، التى لم تتوفر لأى بقعة أخرى من بقاع الأرض، فالدول العربية تتمتع بوحدة الأراضى واتصالها ووحدة اللغة والقيم والثقافة والعادات والتقاليد إلى جانب أن هذه البقعة والموقع العبقرى يعيش عليه نحو ٣٥٠ مليونًا من البشر وسوقًا متجانسة يزداد فيها الطلب الفعال، وبالرغم من كل ذلك فلم تتمكن هذه الدول العربية من تكوين سوق قومية واحدة، وأصبحت كل دولة عربية تواجه مشاكلها الاقتصادية الحادة منفردة فى ظل النظام الاقتصادى العالمى المتوحش الذى يفرض نواهيه وأوامره على الدول الضعيفة والنامية.
ويجعل الدول النامية حبيسة لما يسمى باقتصاد السوق، بحيث تقف هذه الدول مكتوفة الأيدى لا تستطيع أن تتدخل لفرض سيادتها على السوق فى التنظيم والرقابة وحماية المستهلك، الذى افترسته ارتفاعات الأسعار المتتالية التى ليس لها أى مبرر، فعندما تقدم الدولة على اتخاذ بعض القرارات لضبط السوق ومحاربة الاحتكارات والفساد الذى يتربع على أجساد المطحونين والفقراء، نجد بعض المحتكرين وعصابات الاستيراد يرفعون فيما يسمى الكارت الأحمر فى وجه الدولة بما يعنى اقتصاد السوق. هذا الاقتصاد الذى خرج عليه كثير من الدول الرأسمالية فى العالم الغربى (ألمانيا، بريطانيا وفرنسا) وأخيرًا نجد الرئيس الأمريكى ترامب يعلن تخليه عن ما يسمى اقتصاد السوق وآلياته الصادمة التى تكبل الإدارة الأمريكية من اتخاذ أى قرارات لحماية الصناعة الأمريكية وسوق العمل الأمريكى، وأيضًا أسواق المال الأمريكية، واعتزامه فرض بعض السياسات الحمائية التى تحمى الصانع والمستورد الأمريكى، وتكسر قيد الاحتكارات، ولذلك نجده ينظم عدة لقاءات، ليست مع رجال السياسة أو الصحافة أو الكونجرس، ولكن مع رجال الأعمال وكبار أصحاب المصانع والمستوردين وشركات التأمين.
وهكذا، نجد فى النظام الرأسمالى تتدخل الدولة أحيانًا كثيرة لتحديد هامش الربح بالنسبة لبعض السلع الإستهلاكية داخل السوق لأن اقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر ليس معناه الاقتصاد المنفلت، الذى يتسم بالاحتكار والفوضى.
وتحاول الدولة أن تتقدم بمقترح تحترم من خلاله آلية اقتصاد السوق، وفى نفس الوقت تحمى المستهلك الضعيف من جشع حيتان السوق، وتحدد هامش الربح بعد السعر الذى يحدده المصنع أو المستورد وفقًا لقانون العرض والطلب وآليات اقتصاد السوق، فإن هذا التصرف ليس معناه الارتداد لما يسمى بالاقتصاد الموجه أو التسعيرة الجبرية. فالمصنع له كل الحرية فى تحديد سعر المنتج المعد للبيع، ثم تحدد الدولة بعد ذلك هامش للربح فى حدود النسب العلمية المعترف بها فى أدبيات الاقتصاد الحر، ولتكن ٢٥٪ بعد الثمن الذى يحدده المصنع الذى له كل الحرية فى تحديد سعر المنتج النهائى، وينسحب الوضع على المستورد، حيث تتم إضافة هذه النسبة بعد كل التكاليف التى يتكبدها المستورد، وكذلك بالنسبة لسوق العبور للخضر والفواكه وكل السلع الغذائية، هذا معناه ضرب مافيا الاحتكارات وحيتان السوق واختصار مراحل تداول السلعة من يد إلى يد، ووضع ضوابط للسوق الذى أصبح يتسم بالانفلات والفوضى والاستغلال.