السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تدخل الدولة في الاقتصاد حتمية تنموية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى ظل الظروف الصعبة التى تواجه الدول النامية ومصر من بينها، فلا مفر من تدخل الدولة بوصفها السلطة المسئولة عن المجتمع بأسره، ويصبح التوجه العام نحو الإصلاح الاقتصادى وفقاً للسياسات التى تناسب أوضاع الاقتصاد القومى هو القاعدة الاستراتيجية الواقعية لتحقيق التنمية.
وهنا يجب تحديد إحدى المغالطات الكثيرة التى راجت حتى الآن عن الرأسمالية، فالرأسمالية الحرة لم تكن إلا ثمرة لمرحلة من الرأسمالية التجارية يمكن اعتبارها مرحلة الانتقال إلى الرأسمالية، وهى مرحلة كانت الدولة خلالها عاملاً فعالاً فى تعبيد الطريق أمام سيادة الرأسمالية بفضل أسلوب التراكم البدائى، لقد استخدم التجار ورجال الأعمال سلطة الدولة عندئذ للإسراع بتحويل الأسلوب الإقطاعى إلى أسلوب رأسمالى، ولتقصير أمد فترة الانتقال، ففى الداخل وطوال مرحلة التطور، احتفظت الدولة بوظيفة إكراه الناس على العمل الشاق المأجور والتدخل النشط فى شروط العمل إلى جانب رجال الأعمال، وفى الخارج لم يكن باستطاعة جماعات التجار الهولنديين والإنجليز والبرتغاليين والإسبان والفرنسيين أن يحققوا ابتداء من القرن الخامس عشر سيطرتهم التامة على تجارة السلع والعبيد واستغلال شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ونهب مواردها بدون الدعم المباشر من جانب دولهم التى كانت على حد قول باران لا تتورع فى سبيل ذلك عن أى شىء ولا حتى عن الحروب الطويلة ليس فقط ضد شعوب القارات الثلاث بل وفيما بينها.
فإذا دعونا الدولة فى البلدان المتخلفة للتدخل اليوم فإننا لا ندعوها للغزو والنهب فى الخارج، وإنما ندعوها للتدخل فى الداخل من أجل إعادة بناء مجتمعاتها التى دمرتها نظم التخلف والتبعية، إننا ندعو الدولة لتغذية التنمية الاقتصادية الشاملة بما تحتاجه من تراكم بدائى ورأسمالى، وإلا فمن هو الرأسمالى الذى يمكن أن يقدم على إنشاء الصناعات الحديثة؟ إن التقدم التكنولوجى قد جعل الحد الأدنى لما يعتبر الحجم الأمثل للصناعات الديناميكية فوق طاقة السوق فى كثير من البلدان المتقدمة، ناهيك عن البلدان المتخلفة، فهذه الصناعات تنشأ احتكارية منذ البداية، وفضلاً عن ذلك فإن نظام السوق بما يعنيه من الاحتكام إلى قانون القيمة وإلى تقديس الربح كمعيار لكفاءة المشروع الخاص لا يمكن أن يوفر البيئة المواتية لنشأة الصناعات المطلوبة التى هى أساس التنمية.
وإذا كانت الرأسمالية قد قامت على المشروع المملوك ملكية خاصة، فإن هذا المشروع الخاص قد قام بدوره على أساس سلسلة من الظروف التى لا يمكن استعادتها الآن، وفى مقدمة تلك الظروف ذلك التفوق التكنولوجى الذى لم يسبق له مثيل والسيطرة على مصادر المواد الخام والطاقة فى جميع قارات العالم، والسيطرة المحكمة على أسواق السلع والمال والتكنولوجيا فى العالم، واستغلال العمل الرخيص فى البلدان المتخلفة، ولقد صاحب ذلك تبذير فى الموارد وتدمير للبيئة وانتشار للفقر وتدهور فى القيم وتزايد للبطالة وزيادة فى الشعور بالقطيعة والغربة.
لقد تمت عملية التصنيع فى الولايات المتحدة والغرب تاريخياً على حساب ضياع موارد كبيرة وإفلاسات لا حصر لها وأزمات دورية وبؤس للجماهير لا حد له، وتم ذلك كله على أساس من آلية السوق العفوية، ولو كانت هذه الآلية قادرة حتى الآن على أن تقود عملية التصنيع وتحل مشاكل التنمية لما كان هناك تخلف أصلاً. ولهذا فإنه توجد الآن ضرورة موضوعية لوجود قيادة أخرى للتنمية، قيادة تتمثل فى تطوير دور الدولة ومهامها الاقتصادية لمواجهة عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية البالغة التعقيد المطلوب اتخاذها بإلحاح على طريق التنمية، وفى مقدمتها تحديد طريق التطور الاقتصادى والاجتماعى، وتحطيم وتصفية الهيكل الاقتصادى والاجتماعى القديم، وإنشاء وتطوير القاعدة الصناعية، وإعادة تشكيل العلاقات الزراعية، وتصفية العلاقات غير المتكافئة مع السوق الرأسمالية العالمية، والتحسين السريع والمضطرد لمستوى معيشة السكان.
إن الحاجة إلى التنمية السريعة تفرض التدخل المحترف والمتوازن من جانب الدولة فى العلاقات الاقتصادية، ويتم هذا التدخل بالقوة الاقتصادية التى تكتسبها الدولة، وكذلك بالقوة غير الاقتصادية عن طريق القوة السياسية الحاسمة، ومن هنا تأتى ضرورة قيام الدولة بمشاركة وتوجيه القمم المسيطرة على الحياة الاقتصادية، وهو الحد الأدنى لما تقتضيه إقامة اقتصاد يتجه للتنمية، مما يقتضى بدوره أن يكون هناك قدر من التخطيط للاقتصاد القومى، ومن ثم تضطلع الدولة بمهام إدارة الاقتصاد، سواء كان ذلك بوصفها مالكة لقطاع محدد من القطاع الاقتصادى ولوسائل إنتاج معينة أو كان ذلك بوصفها منظمة للعلاقات الاقتصادية المختلفة داخل المجتمع، وهو الأمر الذى تبنته وما زالت الدول الغربية والولايات المتحدة، فليست حرية اقتصاد السوق تعنى رفع يد الدولة كلية عن مراقبة وحماية الاقتصاد الوطنى ووضع السياسات الاقتصادية والعلاقات الدولية، إلى جانب قيامها بالمشروعات التى يعزف القطاع الخاص ولا يرغب القيام بها بالرغم من أهمية هذه المشروعات واحتياج المجتمع إليها.
وقد يغيب عن البعض أن الولايات المتحدة لديها قطاع عام بنسبة ٢٠٪ من القطاع الاقتصادى للدولة وكذلك يوجد قطاع عام مملوك للدولة الألمانية والبريطانية والفرنسية وغيرها من الدول الرأسمالية المتزمتة، ويمكن أن نشير إلى مهام الدولة فى إدارة الاقتصاد فى النقاط التالية:
أ- الدولة بوصفها مالكة بنسبة فى القطاع الاقتصادى تؤثر تأثيراً بالغاً ومباشراً على معدلات النمو وهيكل القوى الإنتاجية عن طريق الاستثمارات والائتمان، كما أنها تصنع أهدافاً مباشرة للإنتاج تطالب أجهزتها وقطاع الدولة العام التى تمتلكه بإنجازاتها مما يضمن اتجاهاً مفيداً فى تشكيل وتنمية الهيكل الكلى للاقتصاد أى الدخل القومى، وبخاصة علاقة الاستثمار أو التراكم بالاستهلاك.
ب- الدولة بوصفها منظماً تؤثر بطريق غير مباشر على الإنتاج من خلال تنظيم أشكال ملموسة للعلاقات الاقتصادية، بما فيها العلاقات السلعية والنقدية، ومن ثم تستخدم الدولة عن سعة أساليب التكوين المخطط أو الموجه لأسعار السلع وأثمان الخدمات، والنظم والسياسات المالية والحوافز المادية للعمل، وكلها صور اقتصادية للتأثير على المشروعات تعتبر طريقاً غير مباشر لإدارة الاقتصاد القومى.
من هنا تأتى الأهمية غير العادية للميزانية العامة للدولة، فهى الأداة التنفيذية السنوية لإدارة الاقتصاد القومى بواسطة الدولة، والميزانية مثلها فى ذلك مثل كل الأدوات المالية، تؤدى وظيفتين على أكبر درجة من الأهمية: وظيفة توزيعية ووظيفة رقابية.
أما الوظيفة التوزيعية فهى تتمثل فى توزيع وإعادة توزيع واستخدام جزء مهم من الدخل القومى، من خلال السيطرة على الجزء الحاسم من الفائض الاقتصادى، وفى هذا الإطار، تسيطر الدولة على جزء أساسى من التدفقات المالية والنقدية فى الاقتصاد القومى، من خلال سياسات الاستثمار وسياسات العمل والأجور والتأمينات والأسعار، وتعتبر الميزانية هنا بمثابة الخطة المالية الأساسية فى تكوين واستخدام الموارد المالية والنقدية فى الدولة، فإنه عن طريق الميزانية العامة للدولة يتم توزيع وإعادة توزيع جزء مهم من الدخل القومى بين فروع الاقتصاد، جزء من شأنه التأثير المباشر على عملية تكرار الإنتاج وعلى كل من التراكم العام والاستهلاك الجماعى والاستهلاك النهائى، وعن طريق الميزانية يذهب جزء آخر من الدخل إلى الخزانة العامة لتمويل التراكم الجديد.
وأما الوظيفة الرقابية للميزانية العامة للدولة فإنها تعنى استخدامها للرقابة على حسن توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومى، والتوصل إلى ما يسمى بالتوازن المالى، وتبدو أهمية هذه الوظيفة فى البلدان النامية من حقيقة أن أغلب المشروعات العامة تعد على أساس التقديرات المالية، وحتى إذا ما أعدت لها تقديرات عينية أو فنية دقيقة فإنها لا تعتبر سليمة إلا إذا تحقق بالنسبة لكل سلعة من السلع التى تتناولها توازن فى العرض والطلب، ومن ثم تكتسب الميزانية العامة أهمية تفوق أهمية أى أداة مالية أخرى.
لكل ذلك فلا مفر فى تطوير دور الدولة ومهامها الاقتصادية فى ظل غابة الاحتكارات والسيطرة واستغلال الغرب.