الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أُفول الإمبراطورية الأمريكية "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يكن الخزى العسكرى واختراق الأمن القومى وتراجع دور وكالة المخابرات المركزية CIA والمباحث الفيدرالية FBI فى التنبؤ بأحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، ولا الخزى المالى والاقتصادى الذى لحق بالإمبراطورية الأمريكية، هو الذى أدى إلى انزوائها وذبولها، فقد كانت تلك هى الإرهاصات الكبرى والمقدمات التى تفضى مع مرور السنين إلى نتائج محتومة. وقد بلغت الإمبراطورية الأمريكية فى عهد باراك أوباما مبلغًا من السوء فى إدارة شئون العالم لم تصله من قبل؛ لا فى إدارة الصراعات، ولا فى إدارة التوازنات فى مختلف أقاليم العالم وبقاعه. يكفى دليلًا على ذلك الوضع فى سوريا، ومهادنة داعش، والانبطاح أمام إيران، والانسحاب من العراق وسط أوضاع أمنية مزرية، وتردى الأوضاع فى أفغانستان، وتوتر العلاقات مع الحلفاء التقليديين وخاصة فى تركيا ومنطقة الخليج والدولة المصرية، وهو ما قد يهدد المصالح الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط مستقبلًا.
كما لم يكن موت الديمقراطية، إحدى القيم الأمريكية التى تتفاخر بها الولايات المتحدة أمام العالم، هى السمة الوحيدة التى تؤشر لبداية ترنح الإمبراطورية الأمريكية أثناء الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة وفى أعقابها على نحو ما أوضحنا فى المقاليْن السابقيْن، بل كان هناك ما هو أكبر وأدل على هذا الترنح فى قادم الأيام. ولعل أبرز هذه الدلائل أن الانقسامات فى الداخل الأمريكى بعد إعلان نتائج الانتخابات، وعدم رضا بعض الولايات عن انتخاب دونالد ترامب إعلان إحدي أهم الولايات الأمريكية نيتها الانفصال عن الولايات المتحدة وهى ولاية كاليفورنيا؛ فقد قدم أنصار حركة Yes California التى تدعو إلى انفصال الولاية عن الولايات المتحدة عريضة إلى مكتب الادعاء العام بشأن إجراء الاستفتاء فى هذا الشأن. وذكرت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» Los Angeles Times، الثلاثاء ٢٢ نوفمبر أن أنصار Yes Californiaطالبوا الادعاء العام بإطلاق تسمية رسمية على طلبهم بإجراء الاستفتاء وتسجيله بشكلٍ رسمى أيضًا، معربين عن أملهم فى إجراء الاستفتاء بشأن انفصال كاليفورنيا عن الولايات المتحدة عام ٢٠١٨. وبحسب الصحيفة فإن الدعوات فى ولاية كاليفورنيا للانفصال تزايدت بشكل ملحوظ بعد فوز دونالد ترامب فى انتخابات الرئاسة.
وتجدر الإشارة إلى أن ولاية كاليفورنيا تعتبر الأكثر سكانًا فى الولايات المتحدة، حيث يبلغ عدد سكانها نحو ٣٩ مليون نسمة، وتعيش فيها أكثرية من الناطقين باللغة الإسبانية. وهى معروفة بليبراليتها على مستوى العادات والتقاليد. وتتمتع الولاية بوزن اقتصادى كبير، ولها ٥٣ نائبًا فى مجلس النواب، وتحظى كذلك بنفوذ كبير على المستوى الفيدرالى.
وكانت وسائل الإعلام أفادت فى وقت سابق بنية حركة «Yes California» إطلاق عمل بعثاتها فى عدد من دول العالم بما فيها روسيا. وبحسب الحركة فإن بعثتها فى روسيا من شأنها أن تسهم فى إطلاع المواطنين الروس على تاريخ كاليفورنيا وثقافتها، إضافة إلى تطوير الحركة من أجل الانفصال، ما سيتيح فرصة لتحقيق أهدافها فى أقرب وقت ممكن.
وبغض النظر عن مدى جدية الفكرة أو إمكانية تنفيذها فى وقتٍ قريب، إلا أن مجرد طرحها بهذا الشكل يمثل خطرًا داهمًا على مستقبل الولايات المتحدة كدولة وطنية، وليس فقط كإمبراطورية متداعية.. ولم يكن انتخاب ترامب مدعمًا للدعوات الانفصالية فى ولاية كاليفورنيا، بل إنه أدى إلى إيقاظ النعرات العنصرية والدينية والعرقية والقومية من مرقدها فى دولة كانت تفاخر العالم بتنوعها فى الديانات والمذاهب والأعراق، وأن قوتها تكمن فى تنوعها وقدرات ومهارات سكانها مهما كانوا مختلفين. وقد وجه نعوم تشومسكى انتقادات حادة للغاية للسياسة الأمريكية فى السنوات الأخيرة، والتى انعكست نتائجها على التطورات المحيطة بانتخابات الرئاسة الأمريكية، والتى تجلت كأحسن ما يكون التجلى فى صعود نجم المرشح الجمهورى دونالد ترامب.
فقد وصف تشومسكى ترامب بأنه ظاهرة فريدة لم تتكرر مطلقًا فى أى من الأمم الصناعية الغربية المتحضرة. وقال موضحًا «فلنأخذ على سبيل المثال المنافسات التمهيدية لنيل ترشيح الحزب فى السنوات الأخيرة، رأينا فيها مرشحين شعبويين أكثر خطورة من ترامب، مما دفع قواعد الحزب إلى التدخل لتصفيتها، على غرار ما حدث مع ميشيل باكمان وريك سانتورم وهيرمان كين، ولكن يبدو أن قيادات الجمهوريين لم تتمكن هذه المرة من عمل شيء».
وقال تشومسكى إن «هؤلاء الذين يؤيدون ترامب ليسوا من الفقراء؛ بل أغلبهم من الطبقة العاملة البيضاء، الذين عانوا التهميش خلال حقبة النيوليبرالية، ولنكن أكثر دقة؛ بداية من عصر رونالد ريجان». وأضاف تشومسكى أن الديمقراطيين تخلوا عن هذه الجموع فى السبعينيات، على الرغم من مواصلة ادعائهم عكس ذلك. ومنذ مدة طويلة لم يعد ممكنًا الحديث عن «طبقة عمالية» فى الولايات المتحدة؛ بل يجب الحديث عن طبقة وسطى عند الإشارة إلى الطبقة العمالية.. إن دونالد ترامب حصيلة مجتمعٍ متداعٍ وماضٍ بقوة نحو الانهيار وتهاوى المنظومة السياسية، ويجب أن نعترف بأن الوضع فى أوروبا أسوأ، وهو ما دعا المحافظين فى بريطانيا لأن يصوتوا لصالح انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى، كما أنه من المتوقع صعود اليمين المتطرف فى فرنسا، وهو ما قد يؤدى إلى دفع فرنسا دفعًا للانفصال عن الاتحاد الأوروبى حال فوز هذا اليمين فى الانتخابات الفرنسية الوشيكة.. إن وصول دونالد ترامب لن يؤدى إلى توحيد العالم، وإثراء قيم العولمة، بل سيؤدى إلى مزيد من التيارات العنصرية والقومية والانفصال والتفتت والتشظى بعيدًا عن الكيانات الإقليمية والدولية والانكفاء على الداخل ومشكلاته، وكل هذه أمور لا تؤدى إلى مزيد من التمكين للإمبراطوريات، بل تؤدى فى الغالب إلى انهيارها السريع.. وتلك قصة أخرى نتناولها فى المقال القادم.