الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حتمية وضع إستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يركز خبراء وأساتذة الاقتصاد على التعقيد البالغ لظاهرة التخلف الاقتصادى، ومن ثم يشيرون إلى التعقيد البالغ المماثل لعمليات التنمية الاقتصادية. ومن أجل توضيح الطبيعة البالغة التعقيد لعملية التنمية الاقتصادية، يعنينا أن نذكر منذ البداية أن أى عملية للتنمية الاقتصادية إنما تشير بالضرورة إلى ما تنطوى عليه من جانبين: عام وخاص، أما الجانب العام فهو حتمية جريان عملية التنمية التى هى جوهر النمو التاريخى على التصنيع تحت حافز التراكم الرأسمالى وبالتالى التركيز على العمل والإنتاج، ومن ثم ضرورة أن يتحول الإنتاج السلعى الصغير إلى إنتاج سلعى تتحقق له السيادة، وأخيرًا حتمية تكوين سوق داخلية تجعل لجميع المنتجات أسواقًا وتكون هى سوقًا موحدة لها. ولضمان فاعلية هذه السوق لا بد أن يكون للدولة النامية مدخل قوى فى عملية إدارة وضبط ورقابة هذه السوق. وهذا الدور السيادى للدولة لا يتعارض مطلقًا مع ارتباط الدول النامية ومن بينها مصر باقتصاد السوق. فجميع دول العالم الرأسمالى تقوم بهذا الدور كألمانيا وبريطانيا، حيث تبنت ألمانيا عقب الأزمة الاقتصادية الحادة التى فجرتها الولايات المتحدة عام ٢٠٠٨ ما أسمته اقتصاد السوق الاجتماعية. أما الجانب الخاص بالتنمية الاقتصادية، فإن هذه التنمية تنطوى على صعوبة معينة، وذلك بتأثير التشويه البالغ الذى جرى فيما مضى للنمو الاقتصادى، ومن ثم لم تعد هناك وصفة رأسمالية ولا وصفة اشتراكية صالحة لإجراء هذه التنمية الاقتصادية، فالبلدان النامية ليست هى الصف الأول فى مدرسة الرأسمالية التى تتعرض الآن للنقد والمراجعة والهجوم بل والانهيار فى العالم. نتيجة ما قدمته للبشرية من ظلم واستغلال. ثم إن الدول النامية فى نفس الوقت لا تبدأ من الصفر، بل هى قد نمت نموًا مشوهًا دخلتها الرأسمالية قسرًا لكنها لم تصبح رأسمالية بعد. كذلك فإن البلدان النامية ليست راغبة أو مؤهلة الآن للدخول فى الاشتراكية بمعناها السيئ والخاطئ الذى يرتبط نفسيًا بالشيوعية. ومن ثم يجب البحث عن مسار خاص لتنميتها.
إن المطلوب باختصار أن تقوم مصر بالعمليات الموضوعية التى تمثل جوهر التنمية لكن فى ظروف تاريخية معاصرة. المطلوب بالدقة إنجاز جوهر النمو فى إطار اقتصاد السوق مع تحرير التقدم الاقتصادى الشامل من فعل المبادئ والقوانين الصارمة لأسلوب الإنتاج الرأسمالى وإخضاعه لمهام أكثر وعيًا وترشيدًا. ولذلك فإن التنمية الاقتصادية المعاصرة لا بد أن تنطوى بصورة أو بأخرى على مراعاة البعد الاجتماعى للعامل والتقسيم الاجتماعى للعمل حتى تتم سيادة الإنتاج السلعى وتتكون السوق القومية. هذه هى العملية الضرورية أو الجوهرية أو الموضوعية التى يجب أن تجرى فى فترة زمنية مختصرة، أى أن تجرى بصورة مكثفة بحيث تتم تصفية جوهر التخلف والتبعية من قيد الرأسمالية التقليدية المستغلة فى جيل واحد مثلًا وذلك بالإفادة من أسلوب وفنون الإنتاج الحديثة وإمكانيات التعاون الدولى.
وبغير إدراك هذه الحقائق لا يمكن أن تنجح تنمية تحقق طموحات الجماهير وتلبى احتياجاتها. لقد جرت فى البلدان النامية تنميات عديدة ومتنوعة، وإنما لم يدرك أغلبها حتمية العمليات الموضوعية للتنمية فأراد أن يستغنى عنها أو يقفز عليها، كما لم يدرك كثير منها طبيعة العصر وإمكانياته وصراعاته ومشاكله وهى لم تعد تسمح بالنمو الرأسمالى التقليدى. ولذلك لم تنجح أغلب التجارب. ولقد نجحت مصر فى أن تدرك طبيعة العصر وإمكانياته وأيضًا قيوده ومحاولة النظام الاقتصادى الدولى بكل الوسائل باستمرار السيطرة وفرض سياسته على مصر ولكن لم تفلح كل هذه المحاولات. فمصر تتحرك فى وسط هذه الأجواء الدولية المضطربة بميزان حساس حتى تنجح فى تحقيق التنمية الاقتصادية دون أن تثير مشاكل مع النظام الدولى.
فليست التنمية بالعملية البسيطة ولا الجزئية، لكنها عملية معقدة بقدر ما تجرى فى اقتصاد يعانى من مشاكل كبيرة، إنها عملية شاملة، لا تتم بغير أن تجرى تغييرات هيكلية عميقة فى الاقتصاد القومى تسمح بإعادة تنظيمه تنظيمًا متوازنًا. إنها عملية تستغرق بعض الوقت، يجرى منها التعجيل ببناء اقتصاد متوازن النمو قادر على إشباع الحاجات المتزايدة للسكان ومن هنا حتمية وضع استراتيجية للتنمية الاقتصادية. 
فمن الطبيعى ألا تتحقق التنمية الاقتصادية، وذلك طبيعتها بصورة تلقائية، فقد تأكد لنا أن التلقائية فى النمو إنما تعنى استمرار تشويه العملية الاقتصادية وتجدد الأوضاع التى تؤدى إليها. ولذلك فلا مفر من تدخل الدولة فى مجرى هذه العمليات الاقتصادية تحقيقًا للنمو المتوازن المعجل. ويتم مثل هذا التدخل من قبل الدولة التى باستطاعتها وحدها أن تضع استراتيجية للتنمية الاقتصادية دون أن تهمل توجه الدولة والنظام الدولى بالنسبة لاقتصاد السوق، وأن تهتم فى نفس الوقت بدور القطاع الخاص الذى يتحمل تنفيذ نحو ٧٥٪ من خطة التنمية. هذه الاستراتيجية تحولها الدولة إلى سياسات، وتتحول هذه السياسات إلى برامج وخطط. إن تدخل الدولة هنا أمر لا مفر منه لوقف الاتجاه التلقائى والتخبط فى التنفيذ لتتجدد أوضاع التخلف.
ولا شك فى أن وضع مثل هذه الاستراتيجية عملية معقدة أيضًا، فبعد تحديد الأهداف العامة وهى تتعلق بعمليات توفير قدر من تراكم رأس المال وتطوير أساليب العمل وسيادة الإنتاج السلعى وتكوين السوق القومية، يجب تحويلها إلى سياسات، أى إلى أهداف نوعية يمكن تحقيقها فى المستقبل بالموارد المتاحة والمحتملة والكامنة التى يجب تحويلها إلى موارد فعلية، فالأرض المصرية مثلًا مليئة بالكنوز والبحار مليئة بالخيرات «حقول الغاز وغيرها»، والسماء المصرية والشمس فى كبدها يمكن الاستفادة منها فى توليد الطاقة. وهذا ما تفعله مصر وتحاول تعظيم الاستفادة من هذه الموارد. هنا لا يتطلب الأمر فقط تحليل الاتجاهات التى تتخذها التنمية الاقتصادية، بل حسب اتجاهات كل من التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية الشاملة، وما يحدث بينهما من تفاعل وما قد يقع من تناقض. على سبيل المثال، هناك قطاعات داخل الاقتصاد النامى لا تعطى الاستثمارات فيها عائدًا سريعًا، مثل التعليم والصحة والنقل وذلك على الرغم من ضرورة مثل هذه الاستثمارات التى لا تسترد إلا بعد أجل طويل ويحجب عن الاستثمار فيها القطاع الخاص. ولذلك، لا يمكن أن تلتزم استراتيجية التنمية الاقتصادية بحرفية متطلبات الربح العاجل.
وعلى سبيل المثال أيضًا، فكثرة المشاكل قد تدفع خوفًا منها إلى تركها لآليات السوق العفوية لتحكمها، أو إلى الإقدام على حلها بقرارات إدارية متعجلة أو إلى قرارات سياسية واقتصادية متفرقة. ولذلك، فإن النظرة الاستراتيجية الشاملة أمر لا مفر منه لتحقيق التنمية. وعلى سبيل المثال أخيرًا، فجميع الحلول المتطورة تتطلب تعبئة الموارد القومية. ولن يتسنى ذلك بدون تدخل الدولة. 
وللحديث بقية.