الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الذين جرفتهم السيول إلى المجهول

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت الصورُ التى تأتى تترى متتابعة من مدينة «رأس غارب» بمحافظة البحر الأحمر تُدمى القلوب وتُدْمِعُ العيون، وتذهب بالعقول وتحبس الأنفاس وتزيد من الغضب المكبوت فى نفوس الناس التى ضاقت من زيادة الأسعار والغلاء غير المسبوق لتعاجلها الطبيعة بكارثة إنسانية بكل المقاييس. كان أهالينا فى «رأس غارب» وسوهاج وأسيوط والغردقة وأسوان ومدن وقرى ونجوع محافظات الصعيد يرنون بأبصارهم إلينا جميعًا.. لا أستثنى منا أحدًا.. وكُلنا رسبنا فى الاختبار.. اختبار الطبيعة القاسى.. واختبار الناس لمصداقيتنا فى التعامل الراقى معهم، بعد أن قاموا بثورتين كبيرتين كانوا يبغون من ورائهما صلاح الأحوال واستعادة كرامتهم المفقودة فى بلادهم فى العصور الغابرة.
كان الناسُ ببساطة ينتظرون التعاملَ مع كارثة إنسانية كالسيول بإنسانية تُشعرهم بأن هناك من يعنيه أمر الناس، هناك من يشعرُ بآلامهم، هناك من يضعُ نفسَه فى مكانِهم فى مرمى السيول والأوحال وتهدم البنايات وفقدانِ كلِ شيء فى لحظات، هناك من يبادرُهم بوجبة يأكلونها أو ببديلٍ يسكنون فيه حتى يتم تأهيل مساكنهم الغارقة، هناك من يُعوضُ المُضَارين من السيول عن فقدانِ من يعولونهم أو بضائعهم التى لم يَعُدْ لها وجود، هناك من يفتحُ أمامَهم الطريق.. طريقَ الحياة وطريقَ الأمل فى حاضرهم ومستقبلهم، هناك من يهرولُ مُسْرِعًا فى يومِ الكارثةِ نفسه وليس بعدَه بأربعةِ أيام كاملة لكى يقفَ إلى جوارِهم.. يُربت على أكتافِهم، ويأخذ بأيديهم.
الذى حدث لأهالينا فى «رأس غارب» ومحافظاتِ الصعيد التليد كان كارثةً إنسانية بكلِ المقاييس، ولكنها لم تكن كارثة السيولِ على أية حال، بل كارثة إنسانية تعرضت لها إنسانيتُنَا وآدميتُنَا فى الإحساسِ بالآخرين، لقد ماتت الإنسانية وشُيعت إلى مَثواها الأخير، ودُفنت إلى الأبد، والمصيبةُ الأكبر أن مقبرةَ إنسانيتِنَا قد جرفتها السيول، وذهبت الإنسانيةُ إلى ذلك المجهول البعيد الذى لا نعرفه، لا نعرفه مكانًا ولا زمانًا ولا سياقًا ولا تاريخًا، لقد جرفت السيولُ مقبرةَ إنسانيتِنَا، ولن نستطيع زيارة هذه المقبرة الملعونة التى لم تَلْفظْ إنسانيتُنَا البغيضة عديمةُ الشعورِ والحِسِ.. المتبلدةُ إلى أقصى درجاتِ السيكوباتية بالتلذذ بآلام الآخرين أو البلادة بعدم الشعور الإنسانى بهذه الآلام. لن نستطيع زيارة هذه المقبرة الملعونة لكى نتذكرَ أنه فى هذا المكان دُفنت إنسانيتُنَا إلى الأبد. وأبت الطبيعةُ أن تتركَ هذه المقبرة وشأنها، فجرفتها السيول مع كلِ الأشياء والبشر الذين جرفتهم معها حتى تحرمَنا من لحظاتِ الذِكرى عندَ الوقوفِ على شاهديْ هذه المقبرة لنترحم على هذه الإنسانية التى غرسنا فيها خناجرَنا حتى أدمينَاها وتركنَاها صريعة الوحشية والبربرية. 
لم أكن مقتنعًا حتى النهاية بأننا أصبحنا فى شبه دولة، ولكننى الآن اقتنعتُ تمامًا بأن كلَ شيء وكلَ شخص وكلَ كيان أمامى وخلفى ومن حولى يدخلُ فى نطاق «الأشباه».. أشباه البشر وأشباه المسئولين وأشباه منظماتِ المجتمع المدنى وأشباه الوزراء وأشباه الأحزابِ السياسية وأشباه الحكوماتِ وأشباه الرجال. من الواضح أن «شبه» الدولة قد حولَ كلَ ما تحويه الدولة إلى «أشباه» أشياءٍ وكِيَانَاتٍ وأشخاص.. تمامًا مثلما يغزو فيروس جهاز الحاسوب، ويحولُ كلَ ملفاتِك المهمة إلى «أشباهِ» ملفات، ولكنها لا تفتحُ ولا تؤدى بك إلى شيءٍ على الإطلاق، فتلعن هذا الفيروس الذى حولَ كلَ ملفاتِك إلى «أشباهِ» ملفات. وإذا كانت هناك برمجيات لحمايةِ الحاسوب من الفيروساتِ ومعالجةِ الملفات التى أتلفها، فهل لدينا مثلَ هذه النوعية من البرمجيات لمعالجةِ البشرِ والأشياءِ والكِيَانَاتِ والمسئولين من هذا التردى الذى أوصلَهُم إلى مرحلةِ «الأشباه»، وهل يمكن لهذه البرمجيات أن تَرَمِمَ أو تستعيدَ إنسانيَتُهُم التى تداعت أو «زرجنت» فى التعاملِ مع كارثةِ السيول.
وإذا كنت مقتنعًا تمامًا بأن ثورةَ ٢٥ يناير لم تكن «فوتوشوب»، وأن ثورةَ ٣٠ يونيو لم تكن «فوتوشوب» كما زَعَمَ الإخوان، إلا أننى رأيتُ شعبًا حقيقيًا أصيلًا صامدًا صابرًا متحملًا لكلِ أزماتِنَا الاقتصادية تغتالُه شخصيات وكِيَانَات ومنظمات «فوتوشوب»، لا تعرفُ سوى التأنقُ والملابسُ الثمينة والكرافتات الأنيقة والروائح الفَرَنسيَة الساحرة، لا تعيشُ معاناةَ الشعبِ وتقشفه. وفى زمنِ «الفوتوشوب» قد تعتقدُ الشخصياتُ «الفوتوشوب» أن تحذيرَ هيئةِ الأرصاد هو من قبيلِ التحذيراتِ «الفوتوشوبية»، المحضة لدرجةِ أن رئيسَ مجلسِ النواب قال «إن الأرصادَ تُخَاطِبُ وزاراتٍ أخرى وحكومةً أخرى»؛ فهل يقصدُ رئيسُ المجلس أننا إزاءَ وزراء «فوتوشوب» وحكومة «فوتوشوب»، وهو التعليقُ الذى دوت قاعةُ المجلسِ بالتصفيقِ عندَ سماعِه.
لقد شكل مجلسُ النوابِ لجنة لتقصى حقائق كارثة السيول، وذهب أحدُ أعضاءِ المجلسِ المحترمين أنه يجب محاكمةُ المسئولين عن هذه الكارثة بتهمةِ الخِيَانِةِ العُظمى. وأخشى ما أخشاهُ أن تمضى الأمورَ بعدَ فترة، ويذهبُ كلٌ منا فى طريق دونَ إجراءٍ رادعٍ لاستئصالِ كلِ من حولَهُ الفيروس إلى «أشباه» ومحاسبته حِسَابًا عسيرًا.
لا يُعْقَلُ أن يكونَ الكِيَانَ الحقيقى الوحيد فى هذه الدولة الذى يستطيعُ أن يَصْلِبَ طُولَك ويحمى ظَهْرَك ويُظِلَكَ بِغَمَامِه هو القواتُ المسلحةُ المصرية التى تعاملت بحرفيةٍ ومهنيةٍ وقبل ذلك كله بإنسانية مع كارثة السيول، وهو ما يليقُ بأعرقِ جيشٍ فى العالم.
آنَ الأوانُ أن نتخلصَ من «الأشباه» إذا كنا نريدُ أن نشقَ طريقًا إلى المستقبل، وأن تجدَ هذه الأمةُ مكانَها الذى يليقُ بها تحت الشمس.. حمى الله مِصْرَ.. حَمَى اللهُ شَعْبَ مِصْرَ.. حَمَى اللهُ جَيْشَ مِصْرَ.