الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإمبراطورية الأمريكية والإرهاب الأسود "5"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حين يستحوذ الفائز على كل شيء، يتضمن ذلك مزاعم كسب القلوب والعقول، فإن الامر يستدعى ردًا عنيفًا. ومن الواضح أن التأثير الكاسح للثقافة الجماهيرية الأمريكية عقب نهاية الحرب الباردة، ناهيك عن أفكار الديمقراطية والحرية الفردية المتضمنة فى أفلام هوليوود وبرامج التليفزيون وحتى فى سوق الفن، قد تتسبب فى رد عنيف لمجرد تنوع الهويات الذى انطلق مع تجميد النظام الثنائى القطبية.
ويظل جاك لانج، وزير الثقافة الفرنسى فى عهد الرئيس فرانسوا ميتران، الرمز الأوروبى للمقاومة الثقافية ضد أمريكا. وكانت آراؤه مثل بيان احتجاج ضد هوليوود فى زمن كانت هناك لا تزال صناعة السينما مهمة فى فرنسا، ولكنها مع هذا تعكس الفكرة المحمومة بأنه لا أحد يرغب فى أن يخضع للهيمنة. وقد قال فى أول اجتماع لمنتدى العالم الثقافى الذى عقد فى البندقية عام ١٩٩١ «خلف كلمة عالمية البراقة، هناك دائمًا أشكال من الهيمنة». 
القضية أعمق بكثير من مجرد برامج تليفزيونية تافهة، إنها تمتد إلى قلب الصدام داخل الغرب وأيضا بين الغرب والإسلام كثقافة دينية. ويدور الصراع حول ما إذا كان يجب معاملة كل القيم بالمساواة باعتبارها مسألة اختيار، كما تفعل حين تنتقل من قناة إلى أخرى، أو اختيار الصف الذى تقف فيه لمشاهدة فيلم فى مجمع دور عرض. وقد كانت ولا تزال حجة هوليوود فى رفض النقد الأخلاقى بأن الاختيار حق من حقوق المجتمع الحر، أى أن كل ما على الآباء فعله هو إغلاق الجهاز، أو تجنب دار العرض إذا لم يحبوا ما يشاهدونه أو ما يشاهده أطفالهم. 
ولكن، فى الواقع، فى قلب صراع قيم ترفيه ما بعد الحداثة، مع القيم الدينية التقليدية اليهودية المسيحية أو الإسلامية، تكمن أيديولوجية «مهما يكن»، حيث «كل شيء صالح للسوق». ومع هذا فإن أشهر عالم اجتماع ومفكر ليبرالى علمانى فى أوروبا، وهو يورغن هبر ماس، يرى الآن أنه طالما يعجز مجتمع ما بعد الحداثة عن توليد قيمه الخاصة، فإنه يستطيع فقط أن يعيش على المنابع الدينية، بالنسبة له، فإن القيم الغربية: الحرية والضمير وحقوق الإنسان مستمدة من التراث اليهودى المسيحى. 
إن مجرد الوعى بأن الصدام داخل الغرب وبين الغرب والآخرين هو، إلى حد كبير، صراع حول التعبير الثقافى عن الحرية، خطوة كبيرة إلى الأمام. أما الوعظ كما فعل جورج بوش تكرارًا خلال عهدة الكارثى بأن «الحرية» هى الحل لكل مصائب العالم، فهو خطاب كسيح وخطر ويماثل ما تنادى به الأصولية الإسلامية من أن «الإسلام هو الحل» بدون التمييز بين الإيمان برب واحد، وفرض الشريعة على طراز طالبان. 
إن الفهم الأعمق للقوى خلف الصدام داخل الغرب نفسه، يقدم رؤية قيمة أيضًا لعنف رد الفعل بين الإسلاميين المحافظين ثقافيًا، على أساليب الغرب، الإرهاب هو الحافة النازفة من ذلك الصدام. 
إن الصدام فى العالم الإسلامى اليوم هو بين أولئك الذين يريدون الفوز المادى وأولئك الذين يسعون للفوز الروحى. الساعون إلى الفوز المادى يريدون أن يواكبوا المسيرة العالمية، ولكن المتشددين يقولون: «كلا.. ينبغى ألا تسعوا وراء المال والحياة المرفهة، بل ينبغى طلب الحياة البسيطة كما كان المسلمون الأوائل يعيشونها». 
ربما أكثر التحليلات دقة للتحديات التى تجابه الإسلام فى عصر العولمة هو ما قدمه هاريس سيلاجيك، رئيس وزراء البوسنة من ١٩٩٢ إلى ١٩٩٥، وكان سيلاجيك قد أنهى تعليمة الدينى فى ليبيا، وعمل والده إماما فى أكبر مساجد سراييفو، وفى رأيه أن ثورات التعليم والاتصالات والسفر قد عرضت المسلمين للرموز المادية البراقة للحداثة، فإن مثل هذا الواقع يظل بعيد المنال عن الجميع ما عدا واحدًا أو اثنين بالمائة من السكان. وهكذا هناك إحباط وغضب. ومن أجل هذه الفجوة بين الأحلام والواقع يميل الناس إلى التمسك بما يثقون به! هويتهم الثقافية ودياناتهم. ودين الإسلام خاصة، يمنح الراحة، لأنه شامل، فهو يقدم إجابات لكل أحوال الحياة ومن ضمنها إجابة عن الفراغ الروحى للغرب. 
يبزغ الآن نظام عالمى متعدد الأقطاب ثقافيًا وجيوسياسيًا وهو على وشك أن يطل برأسه. إن رد الفعل الذى أثارته العضلات الأحادية لإدارة بوش هو الذى دفع بالنظام الوليد خارج رحم ما بعد الحرب الباردة. بهذا المعنى، فإن تراجع القوة الناعمة الأمريكية كان هو القابلة التى ساعدت على ولادة تأكيد الذات الثقافى الجديد حول العالم.