السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تفكك "الولايات الأمريكية".. صراع الثقافات والأعراق والأقوام

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الكثير من الأمريكيين قلقون على مستقبل بلدهم، والولايات المتحدة التى كانت تفخر بكونها (بوتقة الصهر) وكان الناس يفدون إليها من مختلف البلدان ومن مختلف الخلفيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ولكن ما إن يحطوا رحالهم فيها حتى ينخرط الجميع على اختلافهم فى (بوتقة الصهر) الأمريكية ليتحولوا كما لو بسحر ساحر إلى مواطنى الحياة الجديدة.
واليوم على أى حال، لم يعد (المصهر) يعمل، ويقول جيمس رادوفسكى وهو باحث فى جامعة كاليفورنيا، إن المصهر قد راح ليحل محله (سلاطة البار) وسلاطة البار هى مزيج من طعام مختلف ومتنوع بارد وساخن تعرضه مختلف المطاعم فى الولايات المتحدة، وبوسع الزبون أن يختار وينتقى ما يحب ويشاء، وأصحاب المطاعم لا يمزجون المكونات بل إن كل صنف يحتفظ بمذاقه ونكهته، وهو الأمر الذى نجده أيضا فى سلاطة البار الاجتماعية التى يتصف بها المجتمع الأمريكى، فإن صيغة السود صارت منبوذة والتوصيف المفضل لدى السود الآن هو الأفارقة الأمريكان، تأكيدا للأصول التاريخية والعرقية للسود فى الأرض الأمريكية، والذين يشكلون نحو ١٥٪ من إجمالى السكان.
لقد ولدت التسمية الجديدة أصداءها المناظرة فى تركيب المجتمع الأمريكى، مثل العرب الأمريكان، والأيرلنديين الأمريكان، والإسبان الأمريكان، والأمريكان الأصليين، وأصحاب الأرض الحقيقيين «الهنود الحمر» الذين تعرضوا للإبادة على يد الغزاة الأوروبيين ليحلوا محلهم فى هذه البقعة السوداء من الكرة الأرضية، إن الأثر التراكمى لهذه التسميات هو خلق الانطباع بتفكك المجتمع الأمريكى وعدم وجود هوية أمريكية واحدة، وأصبحت الولايات المتحدة نوعا من برج بابل تعيش فيه أعراق وأقوام مختلفة معا دون أن تندمج ببعض.
وهناك تقدير جديد يبين أن حوالى ثلث إجمالى الأمريكيين لا يعرفون إلا القليل من اللغة الإنجليزية أو لا يعرفونها البتة، وفى أرجاء من كاليفورنيا وفلوريدا استعيض عن الإنجليزية باللغة الإسبانية كلغة أساسية، إن الجاليات الصغيرة تتحد متماسكة بقوة وعبارة الهوية التى كانت أحد محدداتها اللغة والتى شاعت فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى بدأت تتلاشى، واليوم يستطيع المرء أن ينجز دورة دراسية كاملة تبدأ من رياض الأطفال وتنتهى بالجامعة دون حاجة إلى اللغة الإنجليزية، وهناك تقديرات بأن الولايات المتحدة قد تصبح أمة تطغى فيها اللغة الإسبانية فى منتصف هذا القرن، لأن العديد من الأعمال الآن ذات طابع ثنائى اللغة، والأهم من ذلك حقيقة أن الإدارات الحكومية بدأت هى الأخرى باستخدام طائفة واسعة من اللغات الأجنبية وتحديدا الإسبانية وفى بعض مدن الداخل الأمريكية لا يستخدمون اللغة الإنجليزية، بل إن المهاجرين من ذوى الأصول الأوروبية لم يعودوا يرغبون فى القفز إلى (مصهر) اللغة الإنجليزية.
إن التصورات الرومانسية المثالية حول التناغم والانسجام والحلم الأمريكى الجميل بالنسبة لوحدة الأمة الأمريكية والتمتع والتجانس والتوحد بين مكوناتها قد ضعفت وتكاد الهوية الأمريكية تتلاشى، كما أن ما كان يسود بين البشر عن جودة الحياة فى أمريكا وحالة الأمن والاستقرار والحرية وحقوق الإنسان التى سادت الأدب الأمريكى لفترة طويلة من الزمن خلال حقبة (بوتقة الصهر) قد أخلت مكانها لتصورات جديدة حافلة بالتفكك والشك والكراهية وغياب الحرية والعدل وحقوق الإنسان، ففى الشهور القليلة الماضية انخرطت البلاد فى أعمال الشغب والتمرد وتظاهر السود ضد الشرطة الأمريكية التى تستخدم القوة المفرطة فى التعامل مع المواطنين العزل ودار جدل ونقاش حول المضامين الفعلية لواحدة من أغانى (الراب) المعنوية عن قيام الشرطة بقتل السود، إن المجتمع الأمريكى بدأ ينزلق فى حمأة نزعة عشائرية بدائية، ذلك أن الترويج والإعلان عن الأصول الإثنية المميزة يعنى ببساطة أننا نحول الباقى إلى كبش فداء.
فالمجتمع الأمريكى اليوم عبارة عن أناس شديدى التعصب والغطرسة والعنصرية، وحين قال جيفرسون أبو الحلم الأمريكى والمبتكر الأصلى لحقوق الإنسان وحرمة الفرد، إن الناس متساوون جميعا فإنه لم يكن يقصد ذلك لأن دين هذه البلاد يقول إن كل إنسان لنفسه فقط.
وقد امتعض الكثيرون مما عرفوه مؤخرا، أن أبا حقوق الإنسان كان هو نفسه مالكا للرقيق وأنه استورد الرقيق من إفريقيا ليؤجرهم كقوة عمل رخيصة ويتاجر بهم، لقد ضاع الحلم الأمريكى المزيف أن الولايات المتحدة هى جنة الله فى الأرض وأنها واحة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأفاق المواطن الأمريكى على هذه الحقيقة المرة وأصبح كثير من الناس يتوق إلى توازن بين حقوق الإنسان وحريات الفرد من جهة والتضامن مع أقران المرء من البشر من جهة أخرى.
ولقد سعى الكثير من الأمريكيين إلى العثور على إمكانية جديدة للم شمل المجتمع الأمريكى الذى بدأ يتفكك وينفرط عقده، وظن أنه وجد ضالته فى الدين أو ما يدعى أنه دين ولكنه فشل، فهناك فى شارع واحد من شوارع سان فرانسيسكو لا أقل من ٤٥ كنيسة ومعبدا تمثل جميعا مذاهب ومعتقدات دينية بنفس العدد، وتتراوح هذه المعتقدات من المسيحية الكاثوليكية التقليدية إلى البوذية مرورا بالبهائية وعبدة النور والكواكب وعبدة الشيطان، وهناك فى السوبر ماركت الحافل بالمعتقدات ملل ونحل لم نسمع بها من قبل قط، ويظهر فى الولايات المتحدة كل عام نحو ٧٥ دينا مزيفا جديدا وذلك حسب أرقام المسوحات التى تتم فى هذا الصدد، الأمر الذى جعل المجتمع الأمريكى يستبعد الدين كأحد عناصر التوحد والخروج من الصراع المادى فى الحياة الأمريكية والبحث عن الخلاص من الصراع النفسى والضياع.
وأصبح الدين والدين المزيف يشكلان (بيزنس) يدر أرباحا كبرى، وهناك تقدير يقول إن رأس المال السنوى الدوار لمحطات التليفزيون التابعة للكنائس يزيد على ثمانية مليارات دولار، ويتكاثر عدد المتطلعين إلى خوض التجربة الدينية كطريقة للخروج من مشاكلهم الحياتية الفعلية، ويحاول آخرون البحث عن الخلاص عن طريق المخدرات والكحوليات والشذوذ الجنسى.
وهكذا فإن هذا الصراع المحتدم بين مختلف الثقافات والأعراف والأجناس والديانات داخل المجتمع الأمريكى يدفعنا إلى التأكيد أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أمة فى خطر وتقف اليوم على حافة الهاوية، نفس المخاطر والتهديدات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الصعبة للغاية التى أحاطت بالاتحاد السوفيتى قبل سقوطه وهزيمة الشيوعية، فلا تصدقوا الدعاية الأمريكية الكاذبة بأن أمريكا هى القوة العظمى فى العالم ولا يقدر عليها أحد وأنها الجنة التى لا يستطيع أحد أن يهزمها، ويقول عز من قائل: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (٣٩) فَعَسَىٰ رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا (٤٢) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا) صدق الله العظيم، «سورة الكهف». 
ويأتى فى الكتاب المقدس (إن المستعلى قدام الناس، هو رجس قدام الله) (لوقا ١٦:١٥).