الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

عنبر ازدراء الأديان في سجن طرة

سيناريو تخيلى يكشف عمليات التورط فى حبس الإبداع على يد مجتمع سلفى الهوى

اسلام البحيري و فاطمة
اسلام البحيري و فاطمة ناعوت و أحمد ناجى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أحمد ناجى لإسلام بحيرى: «هى دى آخرتها يا إسلام».. فيرد: «الناس بقت بتعشق الوصاية على الأفكار وقصقصة أجنحتها واللي بيفهموا بيبقى مصيرهم زينا»
الفصل الأول "المحاكمة"
فى يوم من أيام الشتاء القارس، وقفت مجموعة من تلاميذ الدكتور سيد القمنى فى بهو المحكمة التى تنظر الدعوى المقدمة ضده بتهمة ازدراء الأديان، وقفوا فى صمت وترقب ويأس، لم يعد لديهم الحماس الكافى كما كانوا فى محاكمة إسلام بحيرى أو فاطمة ناعوت، ولكنهم جاءوا فقط لأنه الدكتور سيد القمنى الذى تربى على كتبه وفكره الآلاف، وتعلموا كيف يستعملون العقل ويرفضون النقل ويحترمون الإنسانية، جاءوا ليلتفوا حوله أثناء محاكمته، وإن كانوا يعلمون نتيجة الحكم مسبقا، فإن شيئا لن يتغير فى ظل هذا المناخ السلفى الوهابى الذى نفث دخانه الملوث فى الأجواء وعاث فسادا فى الدولة وتشريعاتها.
محكمة.. هكذا دوى صوت حاجب المحكمة قاسيًا قويًا ليبعثر معه كل هذه الأفكار التى تناقلت بين الحاضرين.
القاضى: حكمت المحكمة بتأييد حكم الحبس الصادر ضد المدعى عليه سيد القمنى بتهمة ازدراء الأديان لمدة عام وغرامة ١٠ آلاف جنيه.
تعالت الأصوات فى القاعة وهاج الحاضرون من مؤيدى الدكتور سيد وشرعوا فى الهتاف ضد قانون ازدراء الأديان، بينما ارتسمت ابتسامة خبيثة على شفاه المدعين، والتى لم تخفها لحاهم الطويلة وحواجبهم المقتضبة دائما، بل شرع مجموعة من أنصارهم بالتكبير والهتاف «يحيا العدل».
وسط هذه الفوضى هرول القضاة إلى لملمة أوراقهم والإسراع بالخروج من الباب المخصص لهم قبل حدوث مزيد من القلق، بينما التف رجال الشرطة حول الدكتور سيد القمنى فى قفصه، وشرعوا يحاصرونه تمهيدًا لاقتياده إلى محبسه بسجن طرة.
وفيما أبدى الدكتور سيد شجاعة منقطعة النظير فى مواجهة حكم حبسه بابتسامة ساخرة، وعبارة قاتلة لأعدائه قال فيها «استعنا على الشقا بالعقل»، إلا أن سنوات عمره السبعين وصحته التى أفناها فى البحث والكتابة لم تشفعا له لا عند القانون ولا عند الدولة، ولا حتى أمام شجاعته، فخارت قوته التى لم تضاه قوة قلمه، وشرع يتحسس جيوبه ليخرج منها حبوب الضغط وأدوية القلب والسكر، وطفق يتناول الحبة تلو الأخرى بيد مرتعشة، وبعد أن ناوله أمين الشرطة كوبًا من الماء طلب منه قائد الحرس فى هدوء، مقتضب أن يساعدهم فى الانتقال إلى السجن «بدون شوشرة».
الفصل الثاني "ليمان طرة"
أمين الشرطة للضابط: صباح الخير يا باشا.
الضابط: إيه اللى عندك على الصبح.. يعنى مش قادر تستنى لما أخلص فطارى وأشرب الشاي.
أمين الشرطة: معلش يا باشا أصل جات لنا أوامر أننا نعمل عنبر مخصوص للجماعة دول بتوع ازدراء الأديان، أصلهم بعيد عنك كتروا قوى وبقوا مستقويين وما بيهمهمش حد، وكل يومين يجى لنا مسجون ولما نسأل عن تهمته، اللى يقول لك كاتب واللى يقول لك شاعر واللى يقول لك باحث وآخرهم واحد كده اسمه سيد القمنى بيقولوا عليه مفكر، إلا هو يعنى إيه مفكر دى يا باشا؟
الضابط فى عصبية: روح نفذ الأوامر وبلاش تعرف أحسن يعنى إيه مفكر، أصلك لو عرفت هتفكر وكده مش هتنفذ الأوامر.
أمين الشرطة: لا وعلى إيه يا باشا، خلينى مش فاهم أحسن، أصل شيخ الكتاب زمان كان بيقول لنا العقل مهلكة والتفكير الزيادة بيفتح عمل الشيطان.
الفصل الثالث "إسلام وناجي في الزنزانة"
كان إسلام بحيرى جالسًا فى محبسه بسجن طرة، منهمكًا فى كتابة خطاب لقاضيه الذى سينظر دعوى حذف برامجه من على موقع «يوتيوب»، وبينما كان غارقًا فى صياغة دفاعه عن نفسه، سمع من نافذة باب زنزانته صوت العسكرى ينادى عليه: حضر حاجتك يا متهم عشان هتتنقل عنبر جديد!
إسلام بنظرة دهشة: عنبر؟ عنبر إزاي؟ هو أنا قاتل ولا مرتشى، أنا سجين رأى..!
العسكرى بلهجة شماتة: لا ما تقلقش هنحطك مع ناس كُمل، ما يتخيروش عنك أبدا، هما كمان طالعين فيها زيك كده وبيقولوا إنهم سجناء رأى.
وحدث نفسه قائلا: ربنا يستر من لمتكم على بعض يا عالم يا مجنونة، مش كفاية بتبوظوا عقول الناس وتشككوهم فى كل حاجة وبتزعزعوا إيمانهم، كمان هتتلموا على بعض عشان الجنان يبقى الطاق طاقين.
لم يجد إسلام بدًا من الانصياع للأوامر ولملمة متعلقاته فى كرتونة المياه التى أحضرها له ذووه، وخرج من الزنزانة والشمس ضاربة فى عقله وبصره، ولكنها كانت تحدثه أن الأمل ما زال موجودا وأن الحرية باتت قريبة.
من الجانب الآخر اصطحب عسكرى آخر المتهم أحمد ناجى على نفس الوجهة، ولكن ناجى كان يواجه نظرات أكثر ازدراء وحقدا، إذ كان العساكر يتغامزون بينهم حول فصل روايته الخادش للحياء، على الرغم من أنهم كانوا يتخطفونها من بعضهم فى وقت الراحة ويحرصون على تكرار قراءة كل كلمة فيها.
ظل بحيرى وناجى سائرين كل فى طريقه صوب وجهة واحدة ومحددة، وما إن وصلا إلى المكان المحدد حتى رفعا رأسيهما فى ذهول من اللافتة المعلقة فوق مبنى جديد ملحق بالسجن، إنها لافتة واضحة كالشمس، يبدو أنها تنم عن عنبر جديد يستعد لاستقبال أشخاص كثيرين، عنبر خاص بسجناء الرأى ومن يواجهون تهمة خدش الحياء والإضرار بالذوق العام وعقوبة ازدراء الأديان.
الفصل الرابع "لقاء المتهمين"
دخل ناجى ومن خلفه إسلام بحيرى للعنبر الجديد بسجن طرة، كان يسكنه مجموعة من المدونين والشعراء والأدباء، وما إن وضع إسلام ظهره على الحائط وأومأ برأسه إلى الأمام ليغط فى تفكير عميق، حتى جلس بجواره ناجى وسأله فى حيرة: هو إيه اللى إحنا فيه ده يا إسلام؟ معقول خلاص كده؟ هنفضل فى السجن عشان استخدمنا عقلنا وخيالنا؟
رفع إسلام عينيه إلى وجه ناجى، وتأمل قليلا فى كلامه ثم أردف قائلا: واضح إن ده الواقع اللى لازم نسلم بيه يا أحمد، الناس خلاص ما بقتش عاوزة تصدق أنهم كان مضحوك عليهم باسم الدين والشرع، الناس بقت بتعشق الوصاية على الأفكار وقصقصة جناحاتها، محدش بقى عاوز يفهم، واللى بيفهموا بيبقى مصيرهم زينا لو فهموا زيادة عن اللزوم أو حاولوا يفهموا الناس إنهم كانوا مغيبين ومضحوك عليهم.
وبعد لحظة صمت سادت الأجواء، فتح أحد العساكر باب العنبر ودخل وفى قبضته سجين جديد، كبير فى السن وتبدو عليه أعراض المرض، ولكن عينيه تلمعان ببريق التحدى ونشوة المنتصر، إنه الدكتور سيد القمنى مرتديًا بدلة السجن الزرقاء، كان فكره وكلماته تظهر فوقها كنقش سحرى لا يتوارى ولا ينضب رغم عتمة السجن وبرودة حوائط العنبر، استقبله جميع سجناء العنبر بحفاوة شديدة، وهنأوه بدخوله التاريخ ونقش اسمه بين عظماء التنوير بعد الحكم بحبسه، وجلسوا ملتفين حوله يستمعون لأبحاثه وقراءاته العميقة فى كتب الفقه والتراث، ويتعلمون منه كيف يواجهون الفكر بالفكر والتعصب بالتنوير والجهل بالعقل، وكانوا أيضا يتناوبون فى تقديم الرعاية الصحية له كونه رجلًا مسنًا فى السبعين من عمره لم ترحمه شيخوخته من براثن المتطرفين وزبانيتهم.
الفصل الخامس "تحت القبة"
تعالت الأصوات الغاضبة فى البرلمان صبيحة اليوم التالى بعد انتشار خبر حبس الدكتور سيد القمنى، وأبدى الكثير من النواب استياءهم الشديد للملاحقة المتكررة للمفكرين والأدباء دون رادع، فيما أظهر نواب آخرون متظاهرون بالانتماء لجذور محافظة وورعة شماتة وغِلًا يعلمون جيدا أنها سبوبة لا بأس بها للسيطرة على الأمور ومجاراة موضة الدروشة السائدة، وبين هؤلاء وهؤلاء دخل رئيس البرلمان وتبوأ مقعده فى المجلس، ونادى فى الميكروفون: سكوت من فضلكم يا حضرات النواب، النهاردة هنّاقش المقترح بإلغاء قانون ازدراء الأديان أو تعديله.
قال نائب: يا ريس القانون ده سيئ السمعة وبيضر بسمعة مصر فى الخارج ومخالف للدستور، ولازم يتلغى لأنه ضد حرية الرأى والعقيدة اللى كفلها الدستور.
قاطعه نائب آخر وقال : ياريس ده كلام ما يرضيش ربنا، يعنى نسيبهم يشتموا الأئمة ويتطاولوا على الأنبياء والذات الإلهية ونسكت لهم، لازم يتحبسوا طبعًا.
ولكن نائبة ردت عليه قائلة: فيه فرق يا أستاذ بين النقد والتفكير والاستنتاج والخيال وبين السب والقذف والتطاول، لازم نلغى القانون ده عشان ما نخدش العاطل بالباطل، وكل من هب ودب يتصيد الزلات والهفوات والشطحات للمفكرين، اللى هى المفروض لحظات الإبداع الحقيقى..
قاطعهما نائب اشتهر بتطاوله على السيدات فى البرلمان: والنبى يا أستاذة معلش يعنى بلاش تدافعى عن ناس بتحارب الله ورسوله وأولياءه الصالحين، لو كنتِ مسلمة إزاى تقبلى ده، أما لو كنتِ نصرانية فترضى أدافع عن واحد بيغلط فى دينك؟
ردت عليه النائبة فى حنق شديد: بلاش أسلوب الضغط الدينى ده معايا لأنى عارفة أن الإيمان لا هو بالكلام ولا بالمظاهر، إنما بالعقل، عشان ربنا عرفوه بالعقل.
وبين مشادات كلامية من فريق، ودفاع مستميت عن القضية من فريق، وسلبية وعدم اكتراث من فريق ثالث، ضاق رئيس المجلس بالفوضى الكلامية تلك وقرر إنهاء الجلسة دون الوصول إلى حل جذرى.
الفصل الأخير "الثورة الفكرية"
مرت شهور والشباب حائرون، أى فريق يصدقون، بدأ كل شاب يجلس على جهاز حاسوبه ويبحث بنفسه عن الحقيقة، وجدوا ضالتهم فى كثير من المواقع البحثية وبدأوا فى تحميل الكتب وقراءة الأبحاث ومقارنة الدراسات، تواصلوا على مواقع التواصل الاجتماعى مع أشخاص آخرين سبقوهم فى ميدان المعرفة والبحث، الخلاصة أنهم بدأوا يفكرون، وحينما يفكر المرء لا يهدأ قبل أن يكتشف الحقيقة.
هكذا بدأت الثورة الفكرية فى اجتياح العقول قبل الميادين، كثير من الأشخاص تغيروا تمامًا وغيروا وجهة نظرهم للحياة بأكملها، واستمر عددهم فى الزيادة حتى أصبحوا مجموعات كبيرة وفرقًا متعددة، وانتشروا فى الوظائف والشركات والمصانع والمظاهر العامة للحياة حتى وصلوا إلى مجلس الشعب وفازوا بأغلبيته، واختاروا رئيسه من بينهم، وبدأوا فى مناقشة جميع القوانين الرجعية بما فيها قانون ازدراء الأديان، وبعد حروب شرسة مع الظلاميين انتصر التنوير وصوت الأعضاء بغالبية ساحقة على إلغاء قانون ازدراء الأديان وجميع القوانين المقيدة للحريات.
وعندما علم الرئيس بذلك أسر فى نفسه غبطة وراحة، إذ كان يفاضل دومًا بين عاطفته الدينية وبين رغبته الداخلية فى حدوث ثورة فكرية، ولكن يبدو أن التطور فى أفكار الشعوب ينعكس إيجابًا على الرئيس ويطور رؤيته، فذهب للاحتفال معهم بالخطوة فى طريق استعادة مكانة مصر الإقليمية وريادتها، وذهب بخياله بعيدًا وشرد فى أحلامه من أجل أن يرى مصر فى وضع أفضل، ولكنه أفاق من حلمه الجميل على تليفون من شيخ الأزهر، لا بد أنه يريد أن يعرب عن استيائه من إلغاء هذا القانون لما سيتسبب فيه من سحب البساط من تحت أقدام مؤسسته، ولكن الرئيس بعاطفة المصرى البسيط لم يرد على اتصاله وتابع الاحتفال مع شبابه بدخول مصر لعالم التعبير الحر والفكر اللامحدود والبحث المطلق.
أخيرًا: هذا هو مجرد سيناريو تخيلى لمستقبل أفضل مع ضحايا القوانين المقيدة للفكر والإبداع ومنها قانون ازدراء الأديان، والذى كان آخر ضحاياه الدكتور سيد القمنى، وكل الشخصيات الواردة فيه حقيقية وموجودة ولكن حديثها وسلوكها لا يعدو مجرد أمنيات وأحلام لمواطنة مصرية ضاقت ذرعًا بتقييد الحرية والفكر والمعتقد فى وطنها، وتحلم بثورة فكرية حقيقية تصحح المسار وتخدم التنوير.
ضابط السجن لأمين الشرطة: «لو فهمت يعنى إيه مفكر مش هتنفذ الأوامر».. فيرد: «عندك حق يا باشا.. أصل شيخ الكُتّاب زمان كان بيقول لنا العقل مهلكة والتفكير الزيادة بيفتح عمل الشيطان».