الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لماذا يريد المواطن المسيحي بناء كنيسة؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تأسست المسيحية فى مصر منذ منتصف القرن الأول الميلادى، حينما جاء القديس مارمرقس الرسول إلى مدينة الإسكندرية قادما من مسقط رأسه ليبيا الجارة الغربية لبلادنا، وبعدما تتلمذ على يد السيد المسيح فى أورشليم بفلسطين.
وعلى أرض مدينة الإسكندرية استشهد عام ٦٨ ميلادية، بعد أن ارتوت الأرض بدمائه المقدسة، وصار مؤسسا للكنيسة المصرية التى عرفت عبر الزمن باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية - كرسى الإسكندرية. 
وانتشرت المسيحية فى كل ربوع مصر، ولم ينته القرن الأول إلا وقد صارت مصر مسيحية فى كل أرجائها من شمال الوادى حتى جنوبه، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب مرورا بالواحات والصحارى والبرارى وكل بقاع مصر، حسب التعبير القديم.
وتحول كثير من معابد الوثنيين إلى مواضع المسيحية، كما صار كثير من المعابد والمقابر والمزارع بمثابة كنائس لاجتماع المسيحيين، خاصة فى أزمنة الاضطهاد التى استمرت عدة قرون، وبعدها بدأ بناء الكنائس لحاجة المؤمنين، وبالطبع لم تكن هناك أزمة قوانين أو تشريعات لهذا الأمر.
واستمر الحال بعد دخول الإسلام مصر فى القرن السابع الميلادى.. وكان يحدث بين الحين والحين تضييق على المسيحيين بسبب قسوة بعض الحكام. وفى أحيان أخرى عمت البلاد السماحة والمودة والعلاقات الطيبة فكان الحال أفضل.. وتشهد الآثار المسيحية والكنائس القديمة والمنتشرة فى أماكن كثيرة فى مصر - خاصة تلك التى زارتها العائلة المقدسة- على انتشار الكنائس فى المدن والقرى والصحارى والأديرة وغيرها.
واستمر الحال هكذا إلى أن بليت البلاد بالإمبراطورية العثمانية بكل ما حملته من عنف واضطهاد وتعصب، وصدر فيها ما يسمى بـ«الخط الهمايونى» عام ١٨٥٦، وهو بمثابة قانون يضع بناء الكنائس فى سلطة المسئول الأول فى البلاد، سواء الخديو أو الملك أو الرئيس، وبذلك يصير إنشاء الكنيسة يخضع لهذه السلطة فقط، فى استثناء غير مبرر عن إنشاء أى مبنى آخر على أرض الدولة.
ورغم توالى الحكام وتنوعهم حتى قيام الملكية فى مصر بقى هذا القانون إلى أن جاء عام ١٩٣٤، وأضاف إليه وكيل وزارة الداخلية وقتها واسمه العزبى باشا عشرة شروط تعجيزية تجعل من بناء الكنيسة أمرا عسيرا جدا يستغرق سنوات وسنوات، ويحتاج إجراءات معقدة جدا، واستمر الحال حتى بعد قيام الثورة وقيام الجمهورية فى يوليو ١٩٥٢م «منذ ٦٤ سنة» وظهرت المشكلات، واستغل ضعاف النفوس ومتعصبو الفكر هذا القانون وهذه الشروط، لتعطيل بناء الكنيسة فى أماكن كثيرة، وربما تشهد بعض المدن هذا الظلم حتى الآن، رغم وجود مصريين أقباط فيها بأعداد كبيرة، ووقعت حوادث فى أماكن متفرقة سميت بـ«الفتنة الطائفية»، وسببت صداعا وألما وجراحا فى نفوس المواطنين الأقباط، وإحساسهم بأنهم ليسوا على نفس مستوى المواطنة مع إخوتهم فى الوطن رغم تاريخهم الطويل.
وفى عام ١٩٧٢م ومع بداية فترة رئاسة الراحل أنور السادات وأيضا مع بداية فترة البابا شنوده وقعت أحداث مفزعة فى منطقة الخانكة بضواحى القاهرة، وكانت البلاد تستعد لحرب أكتوبر ١٩٧٣، وتلك الأحداث تؤثر على تماسك الجبهة الداخلية التى هى عماد وجود الوطن، مما جعل الرئيس السادات يشكل لجنة لتقصى الحقائق برئاسة الدكتور جمال العطيفى وكيل مجلس الشعب آنذاك، وقد وضعت هذه اللجنة تقريرا لمحاولة معالجة هذا الموضوع الشائك عرف باسم «تقرير لجنة العطيفى»، وقد تضمن هذا التقرير شرحا وافيا بأن بناء الكنائس يجد تعسفا وتضييقا بسبب الشروط العشرة التى أصدرها موظف حكومى دون سند شرعى، فضلا عن الفرمان العنصرى أو القانون العثمانى الذى مضى عليه وقتها أكثر من ١١٦ سنة ١٨٥٦ - ١٩٧٢، ووضع ذلك التقرير علاجات شافية لما يسمى «الفتنة الطائفية» فى أكثر من ثلاثين بلدا، وللأسف بقيت بنود هذا التقرير حبيسة الأدراج حتى الآن.
ومع التزايد السكانى الكبير صار بناء كنيسة أمرا عسيرا للغاية، يجد كل تعنت مع أكثر من مسئول بلا سبب إلا تمييزا وتعسفا، وأدى ذلك إلى حدوث أوجاع فى جسد الوطن، ولا يمر عام إلا ونسمع عن هذه الأحداث وأن هناك من يعطى هذه الفرصة لأعداء الوطن، وأصحاب النفوس الضعيفة لمزيد من الوجع والألم والحسرة على مصر وطن المحبة والسماحة والعيش المشترك فى سلام.
ورغم أن العلاج كان واضحا فى تقرير لجنة العطيفى إلا أنه لم يستخدم قرابة الأربعين عاما.
ومع انتشار الأزمات فى توفير أماكن العبادة للمسيحيين المصريين، ورغم صدور بعض القرارات التى تبدو فى ظاهرها أنها تسهيلات، ولكن بقيت التعقيدات الإجرائية التى تستغرق السنين الطويلة وبلا حلول جادة للمشكلة حتى الآن، وكأن التجمع والصلاة والعبادة للمسيحيين صار مجرما، ولا يستطيع المسيحى المصرى مقابلة ربه للعبادة إلا بتصريح وقرار.. وعليه الانتظار حتى يصدر.
ومع أحداث الأعوام القليلة الماضية فى حياة الوطن والثورات فيها وإعداد الدساتير، ظهر الحديث عن ضرورة إصدار قانون لتنظيم بناء الكنائس، بما يكفل حرية ممارسة المصريين المسيحيين لشعائرهم الدينية، ووضعت مادة رقم «٥٢٢» فى الدستور التى تلزم مجلس النواب بإصدار هذا التشريع فى أول دور انعقاد.
وشكلت الكنائس المصرية لجنة واحدة لوضع ملامح مسودة لهذا القانون، وقدم إلى وزارة العدالة الانتقالية، تمهيدا لعرضه على مجلس النواب، وإقراره فى حالة صلاحيته وكفاءته للقضاء على المشكلات المتراكمة منذ حوالى ٢٦٠ سنة وقت صدور «الخط الهمايونى».
وتعددت المسودات والمناقشات والاقتراحات التى نأمل أن تسفر عن صدور قانون حقيقى بلا تعقيدات أو ألغام، أو كما يقولون «تورتة بها زجاج» أى بنود جميلة شكلا، ومعطلة ومبهمة موضوعا.
إن الكنيسة مؤسسة روحية مشغولة بخلاص الإنسان من الخطيئة، كما أنها مؤسسة اجتماعية تخدم مجتمعها بما يناسبه، ولذا نتطلع إلى قانون واضح جدا فى كل بنوده، يبدأ صفحة جديدة فى تنظيم هذا الأمر، ويغلق تماما كل ما سبق عبر عشرات السنوات. قانون ليس فيه أى تمييز بين المواطنين، ويكون بعيدا عن الجهات الإدارية التى تفرض هيمنة غير مقبولة، وبعيدا عن أى حساسيات أو فرضيات ليست على أرض الواقع.
إن التاريخ الوطنى للكنيسة المصرية يشهد لها ولدورها الفعال عبر عشرين قرنا من الزمان أنها مؤسسة وطنية حتى النخاع مهمومة بسلامة الوطن وصيانته وحفظ تماسكه ووحدته الداخلية، ودور الأقباط المصريين وكنيستهم مشهود له فى الداخل والخارج، وعلى هذا الأساس نصلى وننتظر قانونا منصفا عادلا، خصوصا ونحن نحيا فى عصر جديد، فى علاقات طيبة بين جميع مؤسسات الدولة، لبناء مصرنا العزيزة والمرموقة بين كل الأوطان.
«البوابة» تعيد نشر مقال البابا تواضروس عن «بناء دور العبادة» 
نقلاً عن مجلة «الكرازة»