الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

الجيش في مصر حالة خاصة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في عام 1981 أجريت حوارًا في الكويت مع نائب رئيس الوزراء التركي تورجوت أوزال، الذي أصبح رئيسًا فيما بعد، وقد تعجبت للخضوع “,”العثماني“,” الذي أظهره السفير التركي في الكويت آنذاك في حضرة أوزال، هذا لم أتعجب عندما وجدت أوزال يصبح رئيسًا ويبدأ المسيرة نحو العثمانية الجديدة، لكنني أعتبر أن العثمانية الجديدة بدأت بالانقلاب الذي أجراه مطلع الثمانينيات الجنرال كنعان إيفرين، وجمّد به أنشطة الأحزاب السياسية خاصة حزبي سليمان ديميريل اليميني وبولنت أجاويد اليساري، ومنع الرجلين اللذين كانا يمثلان روح الحياة السياسية في تركيا من الاشتغال بالسياسة وضيّق مجالات التعبير الحر بمساندة وتخطيط من المخابرات الأمريكية. هذا التجريف للحياة السياسية هو الذي مهد للعثمانية الجديدة ولأخونة تركيا. وقد لعب الجيش التركي العلماني، حارس الكمالية، دورًا مهمًّا بقصر نظر بالغ، في تحقيق ذلك.
الوضع في مصر مختلف. والجيش في مصر مختلف، وإصرار مصر على رفض الدخول في أحلاف عسكرية رسخ ثقافة الاستقلال الوطني لدى الجيش المصري مع جمال عبدالناصر، لكنها ثقافة سابقة على عهده، فقد تعجب الأمريكيون عندما رفض النحاس باشا مشاركة قوات مصرية في حرب كوريا دفاعًا عن “,”الديمقراطية“,” ضد الشيوعية، وسر العجب أن الأمريكيين أساءوا فهم موقف النحاس، إلى جانب الحلفاء في 4 فبراير 1942 كما أساءت فهمه الدهماء ولم يدركوا أن مصلحة مصر وليست مصلحة أي قوة عالمية هي التي تحرك النحاس وعبدالناصر وأمثالهما. لكن تركيا التي احتمت ببريطانيا من غدر روسيا من ثلاثينيات القرن التاسع عشر واصلت التصاقها بالغرب ثم بإسرائيل طوال الحرب الباردة وبالنهاية فجيشها جيش أطلسي. وعندما طلبت واشنطن تجميد الحياة السياسية تمهيدًا لظهور العثمانية الجديدة فعل الجيش ذلك من غير تفكير وكان أكبر الخاسرين.
والجيش المصري متدين، وهو الجيش الذي أقام جمهورية يوليو ذات التوجه العربي الإسلامي منذ الخمسينيات، بعد أن خلع أسرة مالكة متأوربة وصفّى الطبقات الأجنبية المحيطة بها، ولا أقول إن موقف يوليو من الأجانب كان سليمًا كله لكن البعد العربي والإسلامي فيه لا ينكر. وأي مزايدة على موقف يوليو من العروبة والإسلام ليست ممكنة إلا في اتجاه الجلابية والزبيبة وزواج القصَّر وتوظيف الأموال وإعطاء العلماء سلطة يتربحون منها ويكسبون الشهرة والنفوذ لإفساد الدين والدنيا وجمود الوهابية القديمة التي تحاول السعودية بحذر أن تقترب من الخلاص منها.
لابد أن نفهم طبيعة دور الجيش المصري في الحياة العامة في ضوء هاتين الحقيقتين وفي ضوء حقائق أخرى منها أنه لم يكن أبدًا لا جيش السلطة ولا جيش الانقلاب على الشرعية. وعندما وقع حريق القاهرة، أيضًا قبل ظهور عبدالناصر، كان المراقبون الأجانب يتطلعون إلى الجيش المصري واثقين أنه لن يقف ضد الشعب ولو دعاه الملك إلى ذلك.
وعندما تحرك الجيش في يوليو للاستيلاء على السلطة كان يسد فراغًا، فقد كان الملك الذي تنصرت أمه وأخته وفاحت روائح نزقه وخيبته قد فقد كل رصيد، وكان البريطانيون المسيطرون على مصر يترنحون تحت ديون الحرب العالمية، والوفد شاخت قيادته وأنهكته ديماجوجية الإخوان ومصر الفتاة والدعاية الشيوعية: القوى الثلاث التي تحكم البلاد تترنح، والجيش يتدخل للإنقاذ ولفتح الطريق أمام طبقة متوسطة تكالب بدورها.
وفي 25 يناير 2011 أقنع العسكريون مبارك بالتنحي، وأداروا البلاد بآليات الانتقال وليس بآليات تثبيت سلطتهم، فلم يكن الجيش يحكم منذ 1952 ولكن كان يحكم مصري جندي يقود إدارة مدنية. ومصر يقودها جندي منذ أسر جيشنا ملك فرنسا في 1254، وقبل جمال عبدالناصر مباشرة كان فاروق قد درس في ساند هيرست العسكرية ولم يكمل تعليمه، لكنه ظل يسعى حتى أصبح ضابطًا في الجيش البريطاني برتبة فريق، وقبله كان أبوه ضابطًا في الجيش الإيطالي، وقبلهما كان حسين كامل ضابطًا، وقبله عباس الثاني درس في الكلية الحربية في فيينا.
لكن الضابط الذي حكم في أي عهد من العهود لم يستخدم الجيش لقمع شعبه، فجيشنا للدفاع وليس لأعمال الشرطة. وعندما يقرن الإخوانيون بين التوجهات الديكتاتورية لعبدالناصر وبين الجيش فهم يخلطون بين طبيعة حكم استجاب لظروفه بطريقة اكتشفنا كلنا خطأها بعد هزيمة، 1967 وبين الخلفية العسكرية للحاكم، وهذا غير صحيح، فخلفية من سبقوه كانت عسكرية وكل واحد منهم كانت له سياساته. الفارق الوحيد أنه ضابط مصري جاء بعد قرون طويلة من حكم المحاربين الأتراك.
وإذا ظن الإخوان أنهم يريدون أسلمة الجيش بأخونته فالجيش المصري لم يكن ينتظر أتباع المرشد ليعرف دينه، وإذا تصوروا أن تجربة العدالة والتنمية مع العسكر التركي مشابهة لتجربة يتطلعون إليها مع الجيش المصري فهم واهمون، لأن لمصر خصوصيتها، وجيشها في قلب هذه الخصوصية.