الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمد الباز يكتب: عن وجوه الطيب السبعة (1) عندما قال شيخ الأزهر: كل قرارات حياتي لم تحدث حسب رغبتي.. بل كنت مرغمًا عليها

فضيلة الإمام الأكبر
فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

- لم أقبّل أولادى.. لأن أبى لم يقبّلنى مرة واحدة في حياتى أخاف من الأطفال.. ولا أستطيع أن أحمل طفلًا صغيرًا حلمت أن أصبح طيارًا.. لكن والدى دفع بى رغمًا عنى إلى "أصول الدين".. تزوجت ابنة عمى.. وجيلى لم يكن يعرف شيئًا اسمه الحب.. ربّيت ولدىّ محمود وزينب على الاحترام.. ولم أحملهما أبدًا.. فهل أحمل حفيدتىّ بسمة وزينب

لماذا نتحدث الآن؟

يقول المنطق المهنى إننا لا يجب أن نتحدث عن أحدهم ما لم تكن هناك مناسبة تخصه، ولذلك فهناك أكثر من مناسبة وأكثر من سبب للحديث عن فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، واعترف لكم أن الحديث هنا لن يكون احتفاء بالرجل الذي تحار في تصنيفه، وإصدار حكم محدد بشأنه، لكنه أشبه بقراءة دقيقة لما يمثله ويحتله ويشغله في حياتنا العامة، خصوصًا أن الأزهر الذي يجلس على قمته لا يزال يمثل شاغلا وهاجسا في حياتنا، في ظروف مراوغة، نعانى فيها إرهابا، نتهم الأزهر بأنه سبب من أسبابه.

هنا ستجد 7 وجوه لرجل واحد، وجوه لا تكشف تناقضه، فحاشا لله أن يكون الرجل متناقضا، لكنها وجوه تضع أيدينا على التكوين النفسى والسياسي والثقافى والاجتماعى للرجل الذي يقف مدافعا عن الأزهر الشريف، لا يقبل فيه كلمة واحدة، حتى لو كانت كلمة حق.


وهنا ثلاثة أسباب تجعلنا نقترب منه.

الوجه الأول: 70 عامًا من حياة الشيخ

في 6 يناير 1946 ولد الدكتور أحمد الطيب بقرية المراشدة في دشنا محافظة قنا، أتم 70 عاما من عمره العامر، لم يهتم فيما أعلم بيوم مولده، فلم يقم احتفالا، ولم يدع أصدقاءه ليشاركوه ذكرى مولده، لكن نبه إليه مستشاره المستشار محمد عبدالسلام، الذي يعمل معه منذ 6 سنوات، وفيما أعلم هو سبب كثير من المشاكل التي تعرض لها الإمام خلال السنوات الماضية، فرغم صغر سنه فإن الشيخ تقريبا يعتمد عليه في كل شىء، ويوكله لإنجاز كل شىء.

على صفحته في شبكة التواصل الاجتماعى "فيس بوك"، كتب عبدالسلام مهنئا شيخه بقوله: "ميلاد سعيد يا أطيب الناس، تشرفت بصحبته وخدمته منذ ستة أعوام، رأيت فيها الصدق والعدل والإخلاص والإنسانية والعزة والوطنية والزهد والتواضع، تحمل المسئولية في أصعب مرحلة مرت بها مصر في تاريخها الحديث، صبر وجاهد وحقق الكثير من الإنجازات"

لا يمكن أن ننكر على عبدالسلام ما قاله على شيخه، لكننا سنتحرك من أرضية مختلفة، فإذا كانت السبعون عاما فرصة للثناء على الرجل الكبير بالنسبة إلى مستشاره، فهى بالنسبة إلينا فرصة لفهم الرجل، ووضع تاريخه أمامه، وتسجيل إنجازه العلمى والفقهى وتوثيق ما يؤخذ عليه.

الوجه الثاني: تكريم دولي للامام

نال الدكتور الطيب كثيرا من التكريمات الدولية، لكنه هذه الأيام يتم تكريمه من قبل مهرجان القرين الثقافى بالكويت، وهو المهرجان الذي يستمر من 18 يناير إلى 6 فبراير 2016، اختاروه هناك شخصية العام، تقديرا واعتزازا بجهوده في النهوض بالثقافة الإسلامية ومواجهة الأخطار الفكرية والثقافية التي تهدد المسلمين، ولست أدرى هل وقع اختيار إدارة مهرجان القرين على الدكتور أحمد الطيب لشخصه أم لمنصبه؟

الفارق كبير جدا بين الإثنين، فالمنصب يرتب دورا للشيخ، يقوم به مهما كان اسمه، ولا ينسى أحد أن شيخ الأزهر يعامل معاملة رؤساء الدول أينما حل أو رحل، ولذلك فالنظر إليه هناك يمكن أن يكون تأسيسا على مقتضيات المنصب، لأن مواجهة الطيب للأخطار التي تواجه المسلمين فيها كلام وتحتاج إلى إعادة نظر، وهو ما سيأتى الكلام عنه في حينه.

الوجه الثالث: دفاع شرس عن المشيخة

خلال الأيام الماضية خرج الدكتور أحمد الطيب عن صمته المعتاد، فخلال حديثه الأسبوعى على "الفضائية المصرية" شن هجوما كبيرا على من يهاجمون الأزهر الشريف، قال الطيب: "هدم الأزهر هدم للوطن، باعتباره القوة الناعمة لمصر والعالم العربى والعالم الإسلامى، ومن أراد أن يعرف قيمة ومكانة الأزهر فليعرفها في خارج مصر في العالم الإسلامى الذي لا يرضى بهذا الهجوم الذي كنا نود ألا يأتى من قبل مصرى"

دعك من هذا الاتهام الباطل الذي ساقه شيخ الأزهر في وجه منتقدى المشيخة، فمن يفعلون ذلك يرغبون في إصلاح الأزهر وليس هدمه، لكن يبدو أن الشيخ حافظ وليس فاهما، ولذلك فهو يردد كلاما إنشائيا عن المؤسسة التي يرأسها، ويستجيب إلى من يتوهمون أن هناك حربا على الأزهر. وإذا أردتم أن تتأكدوا من ذلك، فليس عليكم إلا أن تراجعوا البيان الذي صدر عن هيئة كبار العلماء بالأزهر، والذي وضعوا له عنوانا هو "بيان للناس"، في محاولة للاستعانة بجموع الناس على من ينتقدون الأزهر، وهو في معظمه انتقاء حق لا باطل فيه.

بيان الهيئة لم يهتم بالدفاع الحقيقى عن الأزهر بقدر ما هاجم المنتقدين، فهو يقول إن هناك حربا شرسة على الإسلام وتراثه الفكرى والحضارى -لاحظ أنهم يخلطون بين الأزهر والإسلام وهذه آفتهم التي لن يتخلصوا منها أبدا- من تحالف يتآلف من تيارات فكرية علمانية وماركسية وفضائيات وصحف ومجلات اتخذت من الهجوم على الأزهر الشريف نقطة انطلاقها، لا لشىء إلا لأن هذا المعهد العريق قد اتخذ من حراسة الشريعة وعلومها والعربية وآدابها وهما جماع هوية الأمة رسالته المقدسة التي رابط علماؤها على ثغورها منذ ما يزيد على ألف عام.

دعك من المنهج المعوج الذي يقف وراء البيان، ويشكل ذهنية من كتبوه، فليس معقولا أن يهاجم أحد الأزهر الشريف، لأنه يدافع عن الإسلام، بل الهجوم يأتى، لأن الأزهر يقصر في الدفاع عن الإسلام الصحيح، ولكن توقف فقط أمام أن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب يتبنى هذا الطرح، يروج له، وهو ما يجعلنا ندخل معه في نقاش طويل، ليس في هذه القضية وحدها، ولكن في كل قضاياه.


والآن نتحدث..

إذا أردت أن تعرف لماذا يتصرف إنسان ما على وجه معين، فلا تبحث عن دوافعه فقط، ولكن تأمل كثيرًا في تكوينه النفسى، ارجع به إلى مرحلة طفولته، إلى التربية التي تربى على أساسها، يمكننا وقتها أن نعرف حقيقته، أو على الأقل ندرك أسباب بعض ما يفعله.

التاريخ الجاف الذي يحمله الدكتور أحمد الطيب على كتفيه، لا يمكن أن يفسر لنا الكثير مما نجده عليه الآن، لقد عرفناه بشكل علنى في العام 2002، عندما خرج من عمله كأستاذ للعقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر إلى دار الإفتاء مفتيًا عامًا للديار المصرية، وهو المنصب الذي استمر فيه ما يقرب من عام ونصف، فقد دخله في مارس 2002 وخرج منه في سبتمبر 2003، ولأن المفتى في الغالب يخرج إلى كرسى شيخ الأزهر، فإن الطيب لم يتمكن من ذلك لأن الدكتور محمد سيد طنطاوى كان لا يزال شيخًا للأزهر، ولذلك أصبح الطيب رئيسًا لجامعة الأزهر، وهو المنصب الذي ظل فيه حتى أصبح شيخًا للأزهر في مارس ٢٠١٠، عندما مات الدكتور طنطاوى.

هذه مراحل تمثل محطات كثيرة في حياة الشيخ، سنتوقف أمامها حتمًا، لأن وراءها ما وراءها من أسرار وحكايات وتشابكات، تمكننا من فهم دوره في الحياة الدينية والسياسية المصرية، لكننى سأذهب بكم إلى هناك، من العام 1946 عندما ولد في أقصى صعيد مصر، من هناك يمكن أن تكون لدينا بداية جديدة.

لن أتحدث أنا، ولكنى سأستند إلى ما قاله الشيخ بنفسه، وأتوقف قليلا أمام حوار أجراه الدكتور الطيب في العام 2003، لم يتحدث فيه عن منصبه الجديد، ولكن تحدث عن طفولته وشبابه، كنت وقتها أشرف على ملف الخيمة الرمضانية في جريدة صوت الأمة، وكان يكتب معنا الكاتب والمحاور الراحل محمود فوزى، دخل علىّ وهو يحمل حوارًا قال إنه مختلف مع الدكتور أحمد الطيب، الذي كان يشغل وقتها منصب رئيس جامعة الأزهر، بعد أقل من عام ونصف قضاهما في دار الإفتاء مفتيا للديار المصرية، ولم نعرف عنه شيئًا طوال الشهور التي قضاها في دار الإفتاء، فكان يلتزم الصمت، يقوم بمقتضيات وظيفته فقط، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتحدث لوسائل الإعلام، ولا يترك أحدًا يتلصص عليه.

كان خروج الدكتور أحمد الطيب من دار الإفتاء غريبًا، تكهن البعض، وبدأت الأسباب المفترضة تظهر على أوراق الصحف، لكن أحدًا لم يصل إلى السبب الحقيقى للخروح السريع والهادئ من المنصب، وإن لم يكن غريبًا بعد ذلك أن نعرف أنه هو الذي طلب إعفاءه من مهام منصبه، واختار رئاسة جامعة الأزهر، التي تولاها في اليوم التالى مباشرة لخروجه من دار الإفتاء خلفًا للدكتور أحمد عمر هاشم، ليخلفه هو في دار الإفتاء الدكتور على جمعة.

لم يهتم محمود فوزى في حواره مع الدكتور الطيب- الذي لم يكن أحد يعرف وقتها أن الأقدار تدخره لمنصب شيخ الأزهر خلفًا للدكتور محمد سيد طنطاوى- بأسباب خروجه من دار الإفتاء، ولا بآرائه وأفكاره، ولكن اهتم بحياته الخاصة والعائلية، وبعد أن قرأت الحوار أدركت أننى أمام ما يشبه البورتريه النفسى الصادق لواحد من كبار فقهائنا، ويبدو أن الشيخ الطيب استراح لمحمود فوزى الذي كان قادرًا على اقتحام أعتى الشخصيات وأكثرها قدرة على إحاطة نفسها بسياج من السرية - ففتح له خزائن أسراره مرة أخرى.

لم يلتفت أحد لهذا الحوار وقتها، رغم أهميته وخطورته، فلم نتعود في مصر أن تفصح شخصية عامة عن أسرارها العائلية بكل هذه البساطة، لكن يبدو أن الصدق الذي يحمله الدكتور الطيب بين جنبيه هو ما جعله بسيطًا في حديثه، رغم أن ما قاله لم يكن بسيطًا بالمرة، بل إن أساتذة التحليل النفسى يمكن أن يتوقفوا أمامه كثيرًا، فقد كان صريحًا وجارحًا وراغبًا في تعرية نفسه أمام الجميع.

لا يهمنى هنا نص الحوار، ولا طريقة إدارة محمود فوزى له، ولكن يهمنى ما قاله الرجل مفجرًا المفاجآت في وجه الجميع، وهذا بعض مما قاله وسمح به الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب أيام كان رئيسًا لجامعة الأزهر.


زواج بدون حب.. وأولاد وأحفاد بلا قبلات

يقول الطيب: تزوجت من ابنة عمى على طريقة الزواج في جيلى، فجيلى لم يكن يعرف الحب، وكل منا تزوج بطريقة معينة، فكان مثلا الشاب يرى ابنة عمه ويهواها ويتزوجها، وقد تزوجت بهذه الطريقة وهو زواج والحمد لله أعتبره موفقًا، وساعدنى على التقدم في حياتى العلمية.

وأذكر أن والدى ربانى تربية قاسية ليس فيها حنان، وقد ربيت أولادى تربية فيها شىء من هذا، فلم يحدث أن قبّلت ابنى، لقد ربيت محمود وزينب على احترام الأب والأم، ولكنهما يجلسان معى ويناقشان أمورهما، ولم أحتج يوما أن أعاملهما بالضرب أو العنف مطلقًا.

إننى لم أقبِّل أولادى لأننى لم أقبَّل، وما أذكر أن أبى قبلنى أو أننى أكلت مرة واحدة مع والدى في حياتى، ولم أجلس في مستواه مرة في حياتى، ولكن جيلى كله كان على هذا النمط، وأنا ربيت هكذا، أنا لم آكل مع أولادى على طبلية ولو لمرة واحدة، لأنى لم أجلس إلى جوار والدى ولو مرة واحدة في حياتى.

إننى لا أجرؤ على أن أحمل طفلًا وأقبله، بل إن الأطفال الصغار أخاف منهم، ونفسيتى تخاف منهم بعض الشىء، فقد تعودت بسمة ونادية حفيدتاى على الجلوس بجوارى، وإذا كنت لم أحمل بنتى فهل معقول أن أحمل حفيدتى، وهذا نمط كان موجودًا في أسرتنا ولم أنفرد به، بل كان موجودًا في جيلى وحتى الآن ربما، وربما كان الخلاف مع جيلى أن الأب كان يأكل مع أولاده على طبلية واحدة، لكن والدى ولظروف صحية وخاصة لم يحدث هذا منه، لأنه كان رجلًا مهيبًا، حتى إن أخواتى البنات عندما كن يقابلنه يغطين وجوههن، وحين كن يسلمن عليه كان يسأل من هذه؟..ومن هذه؟، وكان السبب في ذلك وضعه الدينى الصوفى وهيبته وخلوته الدائمة، واحترام الناس له في الخارج جعل الاحترام له في الداخل أيضًا.

لم أقرر شيئًا في حياتى.. بل عشت مرغمًا

يقول الطيب: أول محطة في حياتى حين حاولت دخول المدرسة الابتدائية واشتريت الطربوش والمريلة، ولكن فجأة قال لى والدى: لا تذهب إلى المدرسة واذهب إلى الكتاب. وكان هذا أول منعطف خطير في حياتى، ثم حفظت القرآن الكريم، ودخلت مع أبناء جيلى الأزهر الشريف في سن مبكرة، وحصلت على الابتدائية الأزهرية من معهد إسنا، ثم انتقلت إلى مدينة قنا في المرحلة الثانوية، وكان نظام التقسيم إلى الأدبى والعلمى جديدًا، فرغبت في دخول القسم العلمى لكى أكون طيارًا، فقد بنى الإنجليز مطارًا على مقربة من قريتنا «القرنة» في البر الغربى للأقصر، ويكاد يكون هو المطار الوحيد بعد مطار القاهرة، فلم يكن هناك بعد مطار أسوان أو مطار أسيوط، وكانت الطائرات قبل نزولها تهبط بأجنحتها على بيوتنا، فتكون الطائرة بكل تفاصيلها الدقيقة واضحة أمامى أكاد ألامسها بأجنحتها الكبيرة، مشهد مبهر استولى على كل خيالى المبكر، ولكن والدى رحمه الله وقف لى بالمرصاد، وتبخرت كل هذه الطموحات.

حصلت على مجموع في الثانوية العامة يتيح لى الالتحاق بكلية اللغات والترجمة وكلية التجارة، ولكن والدى لم يقبل ذلك ودفع بى إلى كلية أصول الدين، وهكذا تلاحظ أن كل مسارات حياتى لم يكن لى يد فيها، بل كنت مدفوعًا إليها، ولكن كنت إذا ما دخلت مسارًا مهمًا كان لابد أن أكون من الطلاب المتقدمين، من منطلق أن هذه قسمة الله سبحانه وتعالى.

الدكتوراه في فيلسوف يهودى أسلم

كان موضوع رسالة الدكتوراه التي حصل عليها الدكتور أحمد الطيب، من جامعة السوربون في باريس، هو "الجانب النقدى في فلسفة أبى البركات البغدادى"، وكان أبوالبركات فيلسوفًا يهوديًا لكنه أسلم، ومن تصاريف القدر أن هناك أوجه تشابه كثيرة بين الدكتور أحمد الطيب والدكتور محمد سيد طنطاوى سلفه على كرسى المشيخة، فالطيب حصل على الدكتوراه في فيلسوف يهودى أسلم، وطنطاوى حصل على الدكتوراه في بنى إسرائيل في القرآن الكريم، وطنطاوى كان مفتيًا قبل أن يصل إلى كرسى المشيخة، وكذلك الدكتور الطيب الذي كان مفتيًا، وإن كان الفارق بينهما أن الطيب عبر إلى مشيخة الأزهر من رئاسته لجامعة الأزهر وليس من كرسى دار الإفتاء مباشرة.

ومن بين ما يذكره الدكتور الطيب أنه كان سببًا في إسلام أسرة عندما كان يدرس في السوربون، كان يعيش في الحى اللاتينى في باريس، يقول: كنت أثناء العبور من أمام غرفهم لا يتطرق نطرى إلى حجرات النوم المفتوحة على مصراعيها، وكنت أمر عليها في طريقى إلى حجرتى، ولم يحدث مرة واحدة أن جرحتهم بنظرة واحدة على مدى عشرة أشهر أقمتها معهم، فانبهرت الأسرة كلها واعتنقت الإسلام، وقالوا لى: إننا لم نرك ولو مرة واحدة تدخل بفتاة إلى حجرتك، رغم أنه كان مسموحًا بهذا، ونراك تبعد عن السهرات حتى في الكريسماس، ونراك تقرأ في القرآن في الصباح الباكر ولا تشرب الخمر ولا تجلس على مائدة فيها خمور، وفى أدب شديد دون أن تنهانا عن شىء من ذلك، وهو ما كوّن لدينا عاطفة جيدة نحو الإسلام، وانتهى الأمر بأن أعلنت هذه الأسرة إسلامها.


هذه بعض المشاهد التي يمكن أن تعتبرها عابرة في حياة الدكتور أحمد الطيب، لكنها في الحقيقة تضع أيدينا على بعض المفاتيح التي تمكننا من قراءة شخصيته.

أستطيع الآن أن أتفهم حالة التجهم الدائمة التي يبدو عليها الشيخ، فهو لا يكاد يظهر مبتسمًا أبدًا، وأعتقد أن تربية مثل التي تلقاها على يد والده، لا يمكن أن تسمح له بأن يكون مبتهجًا على الإطلاق، بل إنه لا يتعامل مع الحياة ببساطة، لديه عقدة متراكمة من أيام طفولته الأولى.

يقولون إن مقياس طيبة الرجل الشخصية تعكسها علاقته بالأطفال، فكيف نتعامل معه وهو يقول إنه يخاف من الأطفال ولم يقبل أولاده أبدًا، لأن والده لم يقبله في حياته، لا أستطيع أن أقول إن الرجل قاسٍ في تعامله مع الآخرين، فيبدو أنه عطوفا، لكن قسوته تبدو في تعامله مع من يعتبرهم خصومه، ومن يعتقد أنهم يهاجمونه ويهاجمون مؤسسته، بل يمكن أن نقرأه في شكل تعامله مع من يخرجون عليه من رجاله، ويمكن أن تراجع فقط شدته في التعامل مع الدكتور مختار جمعة وزير الأوقاف الذي كان يعتبره ابنًا له، ثم عندما خالفه وأخذ لنفسه خطًا واضحًا في مواجهة الإخوان، غضب منه وعليه، وكواليس هذا الصراع معروفة ومنشورة، لكن الشيخ ينكرها دائمًا.

أزمة يعيشها شيخ الأزهر لا يستطيع أن يفارقها، لأنها لم تفارقه من الأساس، وهى أنه يعيش مرغمًا طوال الوقت، لم يختر شيئًا أبدًا لنفسه، غيّر والده مساره، أراد أن يكون طيارًا، فجعل منه شيخًا معممًا، ولأنه جاد في حياته فقد تفوق، وقرر أن يكون في المقدمة، ولذلك فهو ليس سعيدًا على الإطلاق بما حققه في حياته، فلم يكن سعيدًا بعد أن أصبح أستاذًا في جامعة الأزهر، ولا بعد أن أصبح مفتيًا، ولذلك تخفف من المنصب وأعبائه سريعًا، راحلًا مرة أخرى إلى مقعده كأستاذ جامعى، وأعتقد أنه لم يفرح عندما أصبح شيخًا للأزهر، لكنه ما كان له أن يرفض المنصب الكبير، فلا يستطيع أحد أن يقول لا للمقام الكبير.

ضع أمامك كل تصرفات شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب على هذا المقياس، مقياس من يتحرك في الحياة مضطرًا، إنه يدافع عن المؤسسة دفاع المضطر، يتمزق بين ما يعتقد أنه صحيح وما يجب أن يقوله لأنه شيخ المؤسسة الرسمى.

عندما كان يعيش مع الأسرة الفرنسية أثناء دراسته للدكتوراه، كان يتصرف بحريته وقناعته، لم ينههم عن شىء يعرف أنه حرام، كان يتعامل برقى وأدب شديد، وهو ما جعلهم يدخلون الإسلام عن قناعة، لكنه الآن لا يستطيع أن يصمت عن شىء، بل يقتحم مخالفيه ويتهمهم أحيانًا، وهى أحيان كثيرة بالمناسبة، بما ليس فيهم، وهذه هي أزمة الرجل الذي يحل على منصب لا يريده ولا يرغبه، لكنه يجد نفسه مضطرًا لأن يشغله.