الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"غول العدوى" ينهش الأطباء في المستشفيات

تحقيق خاص على هامش وفاة داليا محرز

الدكتور أحمد عماد
الدكتور أحمد عماد الدين، وزير الصحة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
١١% نسبة انتشار فيروس «سى» بينهم.. ووخز الإبر ودم المرضى أبرز الأسباب وحدات الغسيل الكلوى «موطن الإصابة».. و«الأطباء»: الضحايا بالآلاف ٥ حالات وفاة «غير معلن» عنها بين الأطباء قبل «ضحية الإسماعيلية».. و«الصحة» غائبة

على سلالم مبنى مجلس الدولة، اصطف عشرات الأطباء فى وقفة صامتة، بينما كانت عيونهم وآذانهم تتجه نحو أحد القضاة، على أمل أن ينصفهم، ويلزم الحكومة بزيادة مخصصات «بدل العدوى»، الذى يتقاضاه كل طبيب، ولا يزيد على 19 جنيهًا، وما إن أصدر القاضى حكمه بزيادة البدل إلى ألف جنيه، حتى انطلقت الزغاريد، وارتفع هتاف «يحيا العدل»، لكن ما إن هدأت سكرة الفرحة، بدأ الجميع يتساءل عما إذا كان هذا المبلغ كافيًا للحفاظ على حياة الأطباء والمرضى وأطقم التمريض فى المستشفيات؟!. لم تكن وفاة طبيبة الإسماعيلية، الدكتورة داليا محرز، التى اعترفت وزارة الصحة بأنها ناتجة عن الإصابة بالتهاب سحائي، الذى انتقل لها من مخالطة المرضى، هى الأولى التى تهز الأوساط الطبية، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، فالأمر لا يتعلق بصرف بدل نقدى للعدوى، وإنما بتطبيق إجراءات حازمة لمكافحة العدوى فى المستشفيات والمنشآت الطبية، لأن أموال الدنيا كلها لا تساوى أن يفقد طبيب حياته، وهو يؤدى رسالته فى إنقاذ حياة المرضى.
ورغم غياب الإحصائيات الرسمية الدقيقة عن الأطباء المصابين بالعدوى، وهو مشهد تكرر مرات عديدة خلال العامين الماضيين، إلا أن نقابة الأطباء أعلنت عن فقدان ٦ أعضاء حياتهم، نتيجة الإصابة بالعدوى من أماكن عملهم، فضلًا عن انتشار فيروس «سى» بينهم بنسبة وصلت إلى ١١٪، ويزداد الأمر خطورة مع أطقم التمريض، التى تعانى أكثر من أى فئة أخرى من خطر العدوى، فى ظل عدم وجود تأمين صحى على أفرادها، مع كونهم الأكثر اختلاطًا بالمرضى.
وبحسب إحصائيات وزارة الصحة، تختلف معدلات الإصابة بالمرض على أثر التعرض بوخز الإبر باختلاف الفيروسات، وتقدر معدلات الإصابة بعد التعرض لدم شخص مُصاب بفيروس التهاب كبدى من نوع B إثر الوخز بالإبر من ٦ إلى ٣٠٪، بينما تبلغ معدلات الإصابة بالالتهاب الكبدى الفيروسى C إلى ٧٪، ويبلغ متوسط انتقال فيروس الإيدز نحو ٣٪، وتختلف معدلات الإصابة تبعًا لدرجة إصابة الشخص المريض بالفيروس.
لم تكن حالة الدكتورة داليا محرز سوى القشة التى قصمت ظهر البعير، خاصة بعد محاولات بعض المسئولين فى الوزارة إنكار أن الوفاة ناتجة عن العدوى، كما جاء فى أحد بيانات المتحدث باسم الوزارة، التى قال فيها إن الطبيبة توفيت فى حادث سيارة، قبل أن يضطر إلى الاعتراف بالكارثة، على خلفية حالة الغضب التى ثارت فى جميع النقابات الفرعية للأطباء، ووصلت إلى حد التظاهر للمطالبة بتطبيق آليات مكافحة العدوى، وزيادة قيمة بدل العدوى المخصص لهم.
ويقول زوج الطبيبة المتوفاة، المهندس هشام سعيد، إن زوجته أصيبت بإعياء شديد، فنقلها إلى مستشفى الإسماعيلية التخصصى الجامعي، إلا أنها ظلت تعانى حتى توفيت، وكانت المفاجأة عندما رفضت وزارة الصحة الاعتراف بأن الوفاة ناتجة عن الإصابة بعدوى الالتهاب السحائى فى مقر عملها، حيث أثبتت التحاليل الطبية لها، أن كرات الدم البيضاء بلغت ١١٨٠، والبروتين أكثر من ٥٠٠، ما يثبت الإصابة بالالتهاب السحائي، وفقًا لتصريحات عضو نقابة الأطباء، الدكتور خالد سمير.
وسبقت حالة محرز ٥ حالات أخرى، اختلفت ظروفها، لكن نتيجتها كانت واحدة، وهى الوفاة نتيجة عدوى فى أحد المستشفيات أو المراكز الطبية، من بينها حالة الدكتور أسامة راشد، ٣٨ عاما، الطبيب فى مستشفى المنصورة، وهو أب لـ٣ أبناء، يوسف فى المرحلة الابتدائية، ومريم فى الحضانة، ومحمد الذى يكد يكمل عامه الأول، عندما توفى والده فى ٢ فبراير ٢٠١٤، متأثرا بالإصابة بعدوى فى الجهاز التنفسى.
وبحسب تصريحات لمدير مكتب الإعلام فى نقابة الأطباء، هانى مهنى، فإن أسامة راشد توفى بعد إصابته بعدوى الجهاز التنفسى انتقلت إليه من أحد المرضى، ورغم ذلك لا تريد وزارة الصحة الاعتراف حتى الآن، بأن السبب الحقيقى للوفاة هو الإصابة بالعدوى، ما تكرر فى حالة الدكتورة دعاء محمد إسماعيل، الطبيبة فى الوحدة الصحية بكفر مجاهد فى مركز السنبلاوين بالدقهلية، والتى توفيت فى ١٠ يناير ٢٠١٤، بعد إصابتها بعدوى فى الجهاز التنفسي، ثم فارقت الحياة، تاركة رضيعًا لم يتجاوز الـ٩ أشهر.
كانت الطبيبة قد أصيبت بضيق فى التنفس، تناولت على أثره محلولا طبيا لتوسيع الشعب الهوائية، لكنه لم يخفف من آلامها، وفى اليوم التالي، سجلت حالتها ارتفاعاً فى ضغط الدم وصل إلى ١٨٠/١٢٠، وصاحبه زرقة فى الجسم، واشتباه فى جلطات، وتم تحويل الطبيبة وقتها إلى مستشفى السنبلاوين العام، ليسجل تدهورا فى كل مؤشراتها الحيوية، وانخفض ضغط الدم إلى ٩٠/٦٠، وانخفض تشبع الدم بالأكسجين إلى ٧٩٪ فقط، وفشلت جهود المستشفى فى إنقاذ حياتها.
أما الدكتور أحمد عبد اللطيف، الطبيب فى مركز العلاج والعناية المركزة التابع لمستشفى خاص بنقابة المعلمين فى بنها، فظل لفترة طويلة على جهاز التنفس الصناعي، بعد إصابته بعدوى فى الجهاز التنفسي، انتقلت إليه من مريضة فى العناية المركزة، حيث أُصيب بعدوى بكتيريا «ستاف أورياس»، أثناء تركيب أنبوب فى القصبة الهوائية لها، بتاريخ ٢٣ ديسمبر ٢٠١٣.
وباءت كل محاولات إنقاذ عبد اللطيف بالفشل، حيث لجأت نقابة الأطباء فى المنصورة إلى نقله للقاهرة، على أمل إنقاذه، إلا أنه فارق الحياة، فيما آثرت وزارة الصحة الكتمان، مكتفية بإغلاق المركز العلاجي، بدعوى مخالفته لإجراءات التراخيص، بينما تم صرف مكافأة استثنائية لأسرة الطبيب، من صندوق رعاية الأطباء.
ولم يختلف الوضع كثيرا بالنسبة للدكتور ياسر البربري، ٣٢ عاما، الطبيب فى مستشفى القناطر الخيرية العام، الذى توفى متأثرا بانتقال العدوى له نتيجة مخالطته للمرضى، حيث أصيب بالتهاب رئوي، وبحسب بيان لائتلاف أطباء القليوبية، فإن وزارة الصحة رفضت الاعتراف بإصابة الطبيب بالعدوى، ما سبق حدث أيضا مع الدكتور محمد سعد، الذى أُصيب بعدوى بعد إصابته بفيروس فى الدم، حيث كان يعمل فى قسم الجراحة.
من جهته، يقول مدير مكتب الإعلام فى نقابة الأطباء، الدكتور هانى مهنى، إن النقابة لا تمتلك إحصاء بعدد أعضائها الذين أصيبوا بالعدوى منذ عام ٢٠١٣، لكنه أشار إلى أن «النقابة تقدر عددهم بالآلاف، موضحا أن «نسبة إصابة الأطباء فى مصر بالعدوى تتراوح بين ١٢ و١٣٪ من إجمالى عدد المُشتغلين فى المهنة، وعادة يكتشف الأطباء إصابتهم بالعدوى صدفة، فيما امتنع كثير منهم عن إعلان إصابته، خوفا من صدور قرار بمنعه من مزاولة العمل، فضلا عن شعوره بالحرج لكونه طبيبا، ومن المفترض أن يكون الأكثر علمًا بطرق الوقاية من العدوى، ووفقًا لإحصائيات النقابة، فان إجمالى عدد المقيدين فيها ٢٤٨ ألف طبيب، المُشتغلون منهم ٦٠ ألفًا فقط، بينما الكثير منهم مصاب بالعجز والمرض أو سافر خارج البلاد».
ويؤكد رئيس المركز المصرى للحق فى الدواء، محمود فؤاد، عدم وجود إحصائيات رسمية توضح حجم انتشار العدوى فى المنشآت الصحية المصرية، سواء المستشفيات أو المعامل، مشيرا إلى أن «الكثير من الأطباء والمرضى تنتقل لهم العدوى نتيجة عدم وجود برامج لمكافحتها، فمعدلات الإصابة بفيروس «سى» سنويا تصل إلى ١١٪، ومعظم الحالات ينتقل لها الفيروس عن طريق العدوى، بسبب استخدام أدوات طبية غير معقمة، خاصة فى وحدات الغسيل الكلوي، التى توجد فيها فلاتر غير معقمة».
ويوضح فؤاد أن عدد المصابين بأمراض الكلى يصل إلى ٢.٦ مليون مريض، يتردد على مراكز الغسيل الكلوى منهم حوالى ١١٤ ألفا و٢٧٨ حالة يوميًا، ما يجعل معدلات الإصابة تتضخم، بسبب الالتزام بتطبيق الاشتراطات الصحية الخاصة بمكافحة العدوى، ما يعرفها بقوله إنها «دخول الجراثيم والميكروبات إلى أنسجة الجسم، وتكاثرها، وحدوث تفاعل بينها وبين الجسم العائل القابل للعدوى، أو هى عملية تحدث بين أحد الميكروبات وبين مستقبل العدوى، ما قد يؤثر على الأنسجة مباشرة عن طريق عمليات تشمل إفراز السموم، أو بشكل غير مباشر نتيجة لرد فعل مناعى».
ويعرف برامج مكافحة العدوى بأنها مجموعة من الإجراءات، تعتمد على التشخيص الوبائى للمرض، بهدف منع تطور وانتشار الأمراض المعدية فى نطاق المنشأة الصحية، ووقف انتقال الجراثيم بين الناس، فيما حدد الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالعدوى، بأنهم جميع العاملين فى المجال الصحي، بالإضافة إلى المرضى والزائرين، فضلًا عن جامعى النفايات الطبية، وعمال النظافة، والأطباء، والممرضات.
وبدأ برنامج مكافحة العدوى فى مصر عام ٢٠٠٦، بحسب فؤاد، الذى أوضح أن الدولة بدأت فى اتخاذ خطوات كبيرة فور انطلاق البرنامج، إلا أنه توقف فجأة فى عام ٢٠١١، ولم يعد الدعم المالى المخصص له كافيًا، لأن مخصصات وزارة الصحة لا تمثل سوى ٥٪ فقط من الموازنة العامة، ما يتناقض مع اتفاقية أبوجا التى وقعتها مصر فى نيجيريا عام ٢٠٠٧، وأقرت فيها بألا تقل مخصصات وزارة الصحة عن ٧٪ من الموازنة العامة للدولة فى عام ٢٠١٠، على أن تصل إلى ١٥٪ فى عام ٢٠١٥، إلا أن كل تلك الآمال تبخرت، فى ظل عدم وجود برنامج أو رؤية للوزارة، وتولى ٦ وزراء للمنصب خلال ٥ سنوات، بما لم يتح للوزارة إكمال برنامج أو وضع خطة.
ويحذر الأمين العام لنقابة الأطباء، الدكتور إيهاب الطاهر، من أن أطقم التمريض هى الأكثر عرضة للإصابة بالعدوى، نظرا لارتباطها المباشر بالمرضى، وعدم وجود برامج تدريب لمكافحة العدوى بالنسبة لهم، ما يسهم فى انتشارها، فوفقًا لإحصائية صادرة عن وزارة الصحة، يبلغ عدد العاملين فى هيئة التمريض ٢١٠ آلاف و٨٥٧ ممرضًا وممرضة، معظمهم من خريجى مدارس التمريض، نظام الـ ٣ سنوات.
وفى دراسة أمريكية عن انتشار العدوى بين أطقم التمريض، وهى من أطول الدراسات التى أجُريت على صحة الممرضات، فإن معدل إصابة أطقم التمريض بالعدوى، بلغت ٢٣٨ ألف حالة على مستوى العالم، ويقول الطاهر، إن «رواتب أطقم التمريض ضعيفة جدًا، كما أن بدل العدوى المُخصص لهم صفر»، مؤكدا ضرورة توفير برامج لمكافحة العدوى، وتوفير المستلزمات اللازمة لتنفيذ تلك البرامج فى المنشآت الصحية المصرية، فيما شكا من عدم وجود إحصائيات توضح حجم انتشار العدوى داخل المستشفيات، مع عدم وجود رغبة لدى وزارة الصحة فى الإفصاح عنها.
ومن جانبه، أوضح أستاذ الفيروسات الكبدية، الدكتور محمد عز العرب، أن «هناك خللا فى منظومة الرقابة ومكافحة العدوى فى مصر بشكل عام، فالمرضى والأطباء أصبحوا مصدرا للعدوى، ويتبادل الطرفان العدوى، من خلال الأدوات ومستلزمات العلاج»، مضيفا أن «أقسام الجراحة هى الأعلى فى نقل العدوى بين المرضى والأطقم الطبية».
ووفقا لإحصائيات «الصحة» بلغ عدد من أجروا جراحات عامة فى المستشفيات والمراكز الطبية التابعة لها، ٣ ملايين و٦٠١ ألف مريض، بينما أجرى جراحات فى أقسام العظام نحو ٣ ملايين و٤٤٣ ألف حالة، أما عدد الذين أجروا جراحة مخ وأعصاب، فبلغ ٢١ ألفا و٣٦٩ حالة، وبحسب عز العرب، فإن «هذا العدد لا يتوافق مع ما تمتلكه مصر من إمكانيات، ما يسهم فى نقل ونشر العدوى بشكل كبير».
وحذر عز العرب من خطورة عدوى أمراض الجهاز التنفسي، وقسمها إلى نوعين، الأولى أمراض تصيب الرئة، وهى أمراض المسالك التنفسية، مثل الربو، وانتفاخ الرئة، والأنسجة الرئوية، والساركويد، أما النوع الثاني، فهى أمراض الالتهاب الرئوي، التى تصيب الحويصلات الهوائية، مثل الدرن، فبحسب إحصائيات وزارة الصحة، وصل عدد مرضى الجهاز التنفسي، إلى ٥١ ألفا و٤٧٠ حالة سنويًا، فى حين وصل إجمالى عدد مرضى الدرن ١١٧ ألفا و٧٣٨ ألف مريض سنويًا، وهى من أشهر الأمراض الصدرية، التى تنتقل عن طريق العدوى.
وشدد أستاذ الفيروسات الكبدية على وجوب تطهير غرف العناية المركزة، وتطبيق برامج مكافحة العدوى داخلها، لأن معدلات انتقال العدوى بها ضخمة، خاصة أن إجمالى عدد المرضى فى غرف العناية المركزية بالمستشفيات وصل إلى ٧٤ ألفا و٢٥٠ مريضًا سنويًا، فيما حذر من الاستمرار فى عدم تنفيذ برامج مكافحة العدوى والجودة فى المستشفيات، وعدم وجود برامج لتدريب العاملين فى المنشآت الصحية على التعامل مع أدوات مكافحة العدوى، مع ضرورة توفير نظارات واقية لأطباء الجراحة وأطقم التمريض، لمنع وصول الميكروبات المتطايرة إليهم داخل غرف العمليات.