الأربعاء 29 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

إنه حقا "رمضان المصري"!

 الشيخ محمد رفعت
الشيخ محمد رفعت
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فيما يصل شهر رمضان الفضيل لساعاته الأخيرة، فإن تأمل الذكريات الرمضانية يفضي لإدراك معنى "رمضان المصري" حيث الفرحة والبهجة والانتصار للحياة بروح المؤمن والمتطلع دوما لرحمة الله.
لشهر رمضان تأثيره الكبير على طفولة وتشكيل الكثير منا والحقيقة أن الذكريات الرمضانية جزء أصيل من الثقافة المصرية.. رمضان المصري لدى أجيال وأجيال يعني الشيخ محمد رفعت بقراءته القرآنية التي تنعش أوتار القلوب وتواشيح النقشبندي والفشني وفوازير آمال فهمي وصلاح جاهين وألف ليلة وليلة لطاهر أبو فاشا.
وقد يتجلى أكثر وأكثر معنى "رمضان المصري" وروائح البهجة مع تأمل عنوان كتاب لأحد الآباء الثقافيين المصريين والعرب وهو جلال الدين السيوطي صاحب "اللطائف في الكنافة والقطائف" وهو كتاب عن الحلويات الرمضانية التي يعشقها المصريون بقدر ما يشكل إشارة لمدى ثراء الذاكرة الثقافية الرمضانية المصرية.
وجلال الدين السيوطي الذي ينتسب لمدينة أسيوط ولد عام 1445، وقضى عام 1505، وهو صاحب مؤلفات هامة في الفقه والتفسير والتاريخ وقام برحلات ثقافية عديدة في مشرق الأمة ومغربها حتى بات من أبرز المثقفين وله مقام يحمل اسمه في أسيوط.
ولن يكون من الغريب أن تتحول ذكريات رمضان إلى أنشودة حب لمصر والمصريين كما هو الحال في كتابة أديب سوداني الأصل عاش تكوينه في مصر ويقيم منذ سنوات في النمسا كأكاديمي ومثقف بارز وهو طارق الطيب الذي كتب في مجلة "العربي" الثقافية الكويتية عن "رمضان في فيينا"، فإذا به في الواقع يكتب عن "رمضان في القاهرة"!.
وإذا بطارق الطيب يقول: "من أكثر الأحاسيس التي تذكرني بمعنى كلمة وطن الإحساس الوجداني الطبيعي التراكمي لشهر رمضان في القاهرة وسط الأهل والأصدقاء قبل أكثر من ربع قرن وعلى مدى ربع قرن".
ولئن كان طارق الطيب قد رسم لوحة قلمية بديعة لرمضان في القاهرة فقد تناول في الواقع خصائص "رمضان المصري" مستعيدا صوت المسحراتي الباقي في وجدانه حتى الآن والفوانيس الملونة التي حملها وهو طفل صغير وزينة رمضان في الحارات التي كانت تربط شرفات الناس بالألوان والبهجة ليخلص إلى أن "أجواء رمضان في مصر كانت أجواء ثرية ولها مذاق لا يباري".
"رمضان المصري" يعني "الفانوس أبو شمعة المصنوع من الصفيح" والقص الجميل وأروع السير سواء في المدن أو أعماق القرى البعيدة في الصعيد والدلتا حيث كان الغناء يتصاعد في الأيام الخوالي: "إفطر يا صايم على الكعك العايم"، أي الكعك "العائم في السمن"!.
وكعك العيد الذي يخبز في رمضان عادة مصرية خالصة ترجع لعصر الدولة الطولونية والفاطميين الذين خصصوا لصناعته وتوزيعه إدارة رسمية في دولتهم بمصر حملت اسم "دار الفطرة"، كما تقول كتب التاريخ، وكما يشهد متحف الفن الإسلامي بالقاهرة الذي يحوي قوالب للكعك نقشت عليها عبارات دالة مثل: "كل واشكر مولاك"، و"كل هنيئا واشكر".
ثم أن هذا الشهر الفضيل يستدعي دوما بكل الفخر يوم العبور المصري في العاشر من رمضان 1973 وملامح الحياة في مصر التي عبرت الهزيمة لتحرر أرضها المحتلة في سيناء وتواصل الانتصار لقيم الحق والخير والجمال.
و"النكهة الرمضانية" مصرية غالبا حتى لكثير من غير المصريين و"رمضان المصري"، يعادل حي الحسين الذي لا يكاد يكتمل الشهر الفضيل بالنسبة لكثير من المصريين والعرب والأجانب دون قضاء ليلة في رحاب وعبق هذا الحي القاهري ما بين المسجد الحسيني والجامع الأزهر وخان الخليلي.
فمازال حي الحسين علامة رمضانية مصرية بامتياز بحلقات الإنشاد الديني والمقاهي ومشغولات الحرفيين المهرة، فيما أمسى شارع المعز لدين الله تحفة للناظرين وبهجة للساهرين بين جنباته التي تعود للعصر الفاطمي والبيوت والأسبلة والوكالات التجارية العتيقة.
لرمضان المصري خصوصية وأي خصوصية! إنها الخصوصية المصرية المعبرة عن عبقرية الهوية والطقوس الاحتفالية للمصريين وهم في الحقيقة يحتفلون بالحياة بقدر ما يؤمنون بحتمية الموت والبعث ويوم الحساب.
والفارق كبير.. كبير بين هذه النظرة الإيمانية المصرية للوجود والحياة والموت وبين منظور الإرهاب الذي يريد البعض فرضه على مصر والمصريين.
ورغم توحش الإرهاب العميل وضرباته الغادرة التي أدمت القلوب المؤمنة في مشرق الأمة ومغربها، فإن ثقافة الوسطية المصرية التي تتجلى في شهر رمضان الفضيل تبقى في طليعة قوى المقاومة لهذا الإرهاب الذي يكشر عن أنيابه.
هذه الثقافة بأبعادها الإيمانية وذائقتها الجمالية تتبدى في الإبداع المصري في فنون التلاوة القرآنية والتفاف المصريين للإنصات لأصوات جميلة في عالم التلاوة، وفي مقدمة هذه الأصوات الخالدة محمد رفعت وعبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل.
وها هو طارق الطيب يقول في طرحه في مجلة "العربي": "الأصوات المرتبطة بشهر رمضان لا تنسى؛ صوت الشيخ محمد رفعت وصوت النقشبندي ونصر الدين طوبار وعبد المطلب"، ويتساءل: "فهل للجيل الجديد أصواته الرمضانية التي يحتفظ بها وهل ستكون له حاسة صوتية أخرى تستند إليها ذاكرته حين يسير به الزمان في الزمان أو حين ينقله المكان إلى مكان؟!".
وواقع الحال أن "رمضان المصري" أو هذه الظاهرة المصرية الأصيلة تكشف عن حقيقة الروح المصرية العاشقة للجمال كمنحة ربانية وهبها الخالق للبشر وتطلع المصريين دوما للسماء طالبين عون ورحمة الواحد الأحد واحتفالهم في الوقت ذاته بالحياة والسعي لمنحها معان تتسق مع المواريث الحضارية المتراكمة على ضفاف النيل.
ولئن حق القول بأن هناك أيادي خفية تعبث في الخفاء وقوى خارجية تشجع الاقتتال بين المسلمين والصراعات المذهبية والطائفية، فإن هذا الإيمان المصري يشكل أكبر وأعظم قوة مقاومة لأعداء الأمة بقدر ما يقدم الإجابة على أسئلة الوقت.
فلنتأمل الرحلة الإيمانية للمصري عبر الزمان وهذه الأنماط من التدين المتسامح للمصري الذي لا يملك سوى إيمانه بالله في عمق أعماقه لأنه وارث تاريخ مديد من التجارب الإيمانية الفردية والجماعية، وتأمل معي هذا الإيمان المصري المنتصر للحياة والذي لا يعرف التجهم رغم المحن.
ولأن المصري مؤمن بالفطرة فهو يرفض اليأس ولا يتخلى أبدا عن يقينه في رحمة الله التي وسعت كل شيء.. إنه المصري الذي يحمل البهجة وعشق الجمال لأن الله جميل يحب الجمال كما يردد المصريون دوما.
كل ذلك يدركه أعداء مصر والمصريين ومن ثم فهم يحاولون ضرب روح مصر بجلب أنماط مغايرة من تعبيرات وسلوك مضاد للإيمان المصري.. إنه "التدين المغشوش الذي يحاول إقامة خصومة وقطيعة بين المواريث الإيمانية للمصريين وتراثهم الثقافي وسلوكهم".
تدين مصطنع يصادم جوهر الدين ومقاصده ويدعو للموت ويعادي الحياة والبسمة والبهجة البريئة والروح المصرية الساخرة التي تهد جبال المصاعب وتتجاوز أخاديد الهموم.
إنها روح مصر المؤمنة والطيبة التي منحت مذاقا خاصا حتى لشهر رمضان الذي يجمع القاصي والداني على أن مذاقه المبهج لا يتجلى في بلد مثل مصر.. حتى التلاوة المصرية للذكر الحكيم لها طابعها الجمالي البالغ العذوبة ومن هنا كان الرئيس الراحل أنور السادات محقا عندما استنكر محاولات بعض الغلاة لفرض أصوات مقرئين من بلدان أخرى على المصريين.
وبالمناسبة؛ فالرئيس أنور السادات كان في الواقع صاحب "الخلطة السحرية" لدعاء أو أغنية دينية شهيرة اقترنت بشهر رمضان وهى أغنية "مولاي"، فهو الذي اقترح فكرة التعاون بين الموسيقار الراحل بليغ حمدي والمنشد العظيم سيد النقشبندي.
وكانت "مولاي" واحدة من أربعة موشحات أو أدعية دينية شارك فيها الثلاثي بليغ حمدي كملحن وسيد النقشبندي كمنشد وعبد الفتاح مصطفى كشاعر وحملت الموشحات الثلاثة الأخرى عناوين "أقول أمتى.. ويارب.. ولا إله إلا الله".. لكن أنشودة "مولاي" هي التي استأثرت بالقدر الأكبر من الإعجاب وظلت تزداد سحرا بمرور الزمن وتفيض العيون دمعا كلما انساب صوت الشيخ سيد النقشبندي بكلمات عبد الفتاح مصطفى التي لحنها بليغ حمدي.
ووصف هذا التعاون بين الملحن والمنشد والشاعر بأنه "خلطة سحرية" كان يقف خلفها الرئيس الراحل أنور السادات.. ولم لا؟! ألم يكن رئيسا لشعب يعشق كل ما هو جميل ويمنح قيمة مضافة لكل شيء؟!.
من الذي يمتلك فطرة نقية وذائقة سليمة ولا يعشق أصوات مقرئين مصريين مثل محمد رفعت ومصطفى إسماعيل والشعشاعي والحصري وعبد الباسط والمنشاوي والبنا.. أصوات كأنها ألحان من السماء لأهل الأرض وخيوط من وجد وبهجة تحمل رسالة السماء للأرض وصفحة خالدة في قصة "رمضان المصري".
إنها قصة شعب مؤمن ومنتصر للحياة.. تحية للمصريين وهم يتحركون بنور الإيمان وثقافتهم الوسطية الأصيلة لحماية أحلام المستقبل والتصدي للشطط والانحراف وكشف هؤلاء الذين يسعون في الأرض فسادا وخسرانا للدنيا والدين.. تحية لهم في ختام الشهر الفضيل وهم ينتصرون للحياة ويدافعون عن الدين العظيم ويكتبون صفحة جديدة في قصة "رمضان المصري".. قصة ما أروعها من قصة.