الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في ذكرى ميلاد المجتهد الأعظم هل نفتح باب الاجتهاد لتجديد الخطاب الدينى؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


الإسلام عقيدة قوية ولا يستقيم أن يتحقق الإيمان الحقيقى به دون اقتناع عقلى ولا مجال لهذا الاقتناع بمعزل عن معرفة ما يقوله الآخرون ومثل هذه المعرفة تتطلب إتاحة الفرصة لحق المخالفين في إبداء آرائهم والتعبير عن وجهات نظرهم وهذا ما نص عليه القرآن في أكثر من موضع وهو عين ما مارسه النبى في دولة المدينة مع المخالفين في الرأى
إن الإيمان لا يلغى دور العقل، وشمول الإسلام لا يعنى أن النصوص تعالج كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة، فذلك فضلا عن استحالته غير مقبول في ظل ما تركه الإسلام للعقل من حرية الحركة وواجب الاجتهاد
طالب الرئيس عبد الفتاح السيسى علماء الأزهر والأوقاف بالسعى نحو تجديد الخطاب الدينى، باعتباره ركيزة التقدم الإنسانى للمجتمع، وهو ما يقودنا لقضية من أهم القضايا التي تعرض لها نبى الرحمة، محمد بن عبد الله، صلوات ربى وسلامه عليه، وهى قضية الاجتهاد في الإسلام، تيسيرا وتسهيلا لمصالح المسلمين ومعاشهم.
والاجتهاد الذي أمرت به نصوص القرآن الكريم والسنة المشرفة، معناه في اللغة بذل الجهد العقلى والفكرى في التعرف على الحكم الشرعى، لما يعرض للفقيه أو المفتى أو القاضى من مسائل.
وأصل الاجتهاد مقرر في الشريعة بفعل النبى، صلى الله عليه وسلم، وبأمره أصحابه بالاجتهاد في حضرته، وبإقراره اجتهاد من اجتهد منهم في غيبته، ووقائع ذلك مذكورة بالتفصيل في كتب أصول الفقه، وفى كتب تاريخ التشريع، وفى كتب عديدة خصصها مؤلفوها لموضوع الاجتهاد دون سواه.
ولكن مصيبتنا الحقيقية بدأت في النصف الثانى من القرن الرابع الهجرى، عندما نشأ القول بمنع الاجتهاد، وأطلق على تلك المسألة مصطلح: «قفل باب الاجتهاد»، وقيل بعد ذلك بوجوب التقليد مطلقا دون تحديد من الذي يجب تقليده من العلماء.. ثم تطور الأمر إلى القول بوجوب تقليد واحد من الأئمة الأربعة.
ورغم أن مسألة القول بقفل باب الاجتهاد لم يرد فيها نص من الكتاب أو السنة، فقد لجأ إليها القائلون بها من العلماء لأسباب من أهمها:
- تدوين المذاهب وتكامل نصوص مؤسسيها وأتباعهم.
- الضعف السياسي الذي أصاب هيكل الدولة الإسلامية فتفتت إلى دويلات متنافسة.
- تولية القضاء لأتباع المذاهب، فشاع تقليدها طمعا في الولايات الدنيوية.
- أهم من ذلك كله أن العلماء وجدوا من لم يتأهلوا للاجتهاد يدعون أنهم مجتهدون ويفتون الناس بآرائهم، فأرادوا سد الطريق أمام هؤلاء المدعين فقالوا بقفل باب الاجتهاد، بل قالوا بأن هذا محل «إجماع».
فلم يكن الذين قالوا بمنع الاجتهاد من أعداء الأمة أو أعداء الدين، كما قد يفهم البعض، لكنهم كانوا فقهاء أرادوا تحقيق هدف نبيل، فأخطأوا الطريق إليه، أرادوا منع أولئك المدعين من تضليل العباد باجتهادهم المزعوم، وأخطأوا بادعاء ما ليس لهم أن يدعوه.
(سليم العوا: الفقه الإسلامى في طريق التجديد، ص ٢٥)
ولذلك، فإن الصحيح الذي يذهب إليه الفقه العصرى، بلسان إعلامه وأقلامهم، أن الاجتهاد باق ما بقى الإسلام نفسه، لا يملك أحد منع من استكمل التأهل له من ممارسته.
ومن أعجب الآفات التي تعانى منها مجتمعاتنا العربية اليوم آفة طلب كل ذى رأى أن يكون له الحق والحرية في إبداء رأيه وإعلانه والدعوة إليه، ثم حجره هو نفسه على الآخرين أن يتمتعوا بمثل هذا الحق، وأن يمارسوا مثل تلك الحرية.
والإيمان بالحق في الاجتهاد يقضى على هذه الآفة، ويحاصرها، ويمنع انتشارها، ويقلل من مضارها الكثيرة، وأخطرها نشوء أجيال من المتعصبين الذين لا يرون إلا رأيهم، ولا يسلمون إلا بحقوق أنفسهم، وهؤلاء هم وقود الغلو (ما يسميه الناس تطرفا) الذي يقضى في نهاية مطافه على الأخضر واليابس من حياتنا الفكرية والثقافية، (المرجع السابق، ص ٢٩).
فهل يعقل أن يظل المسلمون أسرى ما قاله علماء أجلاء في القرون السابقة في وصف نظم الحكم التي كانت سائدة لديهم، وهى كلها نظم فردية محورها هو الحاكم الذي تدين له بالطاعة، وتستمد منه القدوة، سائر السلطات والهيئات والأفراد؟
وهل يعقل أن يظل المسلمون يحتكمون ويرجعون في علاقاتهم بغير المسلمين من مواطنيهم إلى أفكار وآراء صيغت لتناسب حال الحرب التي كانت سائدة في وقت ما، بعد أن مضت على الحياة المتآخية بين الفريقين قرون؟
إن النصوص الصريحة واجبة الاتباع، ولكن هدف الاجتهاد هو تطبيق هذه النصوص في الزمن الذي يقع الاجتهاد فيه. (نفسه، ص ١٤٢)
إن في الإسلام سماحة ويسرا، تنطق بهما آيات الكتاب الكريم، وتجسدهما سيرة النبى العظيم، وتقوم عليهما شرائعه وشعائره وآدابه، إن الإيمان لا يلغى دور العقل، وشمول الإسلام لا يعنى أن النصوص تعالج كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة، فذلك فضلا عن استحالته غير مقبول في ظل ما تركه الإسلام للعقل من حرية الحركة وواجب الاجتهاد.. وخلود الإسلام لا يعنى «جمود شريعته»، وإنما يعنى قدرتها على التجدد والإبداع لمجاراة حركة الحياة وتغير أشكالها، وأصالة المسلمين لا تعنى عزلتهم عن الناس وانغلاقهم على أنفسهم، وإنما تعنى الاتصال بالناس والعيش معهم.
إن الشريعة غير الفقه، كما أن الدين غير التدين.. فالشريعة هي مجموع أحكام الله تعالى الثابتة عنه وعن نبيه، صلى الله عليه وسلم، التي تنظم أفعال الناس.. ومصدرها كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم. أما الفقه فهو عمل الرجال في الشريعة، استخلاصا لأحكامها، وتفسيرا لنصوصها، وقياسا على تلك النصوص فيما لم يرد فيه نص، وطلبا للمصلحة فيما يعرض من أمور السياسة، وإذا كانت الشريعة حاكمة كما يقال، فإن الفقه محكوم بكل ما يحكم عمل الرجال وسلوكهم في الجماعة.
والطاعة الواجبة على المسلم إنما هي طاعة الشريعة، وليست طاعة الفقه ورجاله. (د. أحمد كمال أبو المجد: حوار لا مواجهة، ص ٨٩).
إن مجال الاجتهاد في التشريع مجال واسع وكبير، لأن ما لم تتناوله النصوص كثير بالقياس إلى ما تناولته، وليس ذلك كما يتوهم البعض قدحا في الشريعة ولا هو نيل من قول الله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ)، بل هو آية الحكمة ودليل الكمال في شرع الذي خلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه، والذي يعلم -وله المثل الأعلى- أن العالم يتطور، وأن أشكال الحياة تتغير، وأن مشكلات الناس تتبدى في قوالب جديدة، لأنه سبحانه كما أودع ناموس الحركة في الكون والمجتمع، أودع نعمة العقل في الرءوس ليلاقى شرعة الحركة بمثلها، وليستجيب للتطور في الحياة بتطوير في الأحكام، وهو وحده الكفيل بحماية الشريعة وتحقيق مقاصدها الدينية.
الواقعة الاجتماعية هي السند المادى لكل نشاط تشريعى فقهي، ومعنى هذا أن جزءا كبيرا من الاجتهاد يجب أن يتجه إلى رصد الظواهر الاجتماعية وفهمها وتحليلها وتصور الحلول التشريعية المختلفة التي تتعامل معها، وتحليل النتائج العملية التي تترتب على كل اختيار فقهى مطروح، ذلك أن التشريع ليس نظرا فلسفيا ولا رياضة عقلية، وإنما هو رعاية لمصالح الناس بسلطان الحكم، ولذلك قال الإمام الشاطبى: إن «التكاليف الشرعية ترجع كلها إلى تحقيق مقاصدها في الخلق».
وحين يمارس الاجتهاد، وتعرض على المشرع والفقيه ورجل السياسة حلول متعددة تقبلها الشريعة الإسلامية وتتسع لها، فإن الاختيار حينئذ لا بد أن يحكمه فهم الواقع الاجتماعى وتحليل حركته، لذلك وجب أن يستقر في ذهن دعاة الإسلام والمنادين بتطبيق الشريعة أن الجهد الفقهى الخالص لا بد أن يتممه عمل اجتماعى واسع، حتى تأتى ثمرته رحمة حقيقية للناس، ومخرجا لهم من الضيق، ورفعا للحرج. (نفسه ص ٩١)
ولكن لماذا يحجم علماء الإسلام عن الاجتهاد في العصر الحديث؟
يرجع علماء المسلمين السبب إلى أمرين، الأول عجز بعض علماء المسلمين عن الاجتهاد، والثانى تردد البعض الآخر عن ممارسته.
والتردد في ممارسة الاجتهاد مرده أن الاجتهاد لا بد أن يفضى إلى اختلاف العلماء، وذلك أن صاحب الرأى إن وافق برأيه فريقا فقد خالف فريقا، وأن أرضى طائفة فقد اسخط أخرى، وبعض الذين يسخطون في أمور الدين لا يقولون كما أدب الإسلام أهله، اجتهد صاحبنا فأخطأ فهو مأجور أو معذور، وإنما يسارعون إجهازا على الرأى يعارضونه، فيتهمون صاحبه بالإثم والخطيئة والعدوان فيقولون: «ضل، ومرق من الدين، وكاد للإسلام والمسلمين...».
والخطر الحقيقى في هذا المنهج أو «اللامنهج» الغريب على روح الإسلام وآدابه ومبادئه أن آثاره السيئة تصيب الجماعة كلها، فإنه إذا خاف أصحاب الرأى حبسوا رأيهم، وإذا أشفق العلماء على أنفسهم كتموا علمهم، وإذا افتقد الناس الرأى والعمل لم يبق لهم إلا الهوى الذي تتفرق به السبل وتختلط الأمور، أو التقليد الذي يجمد به الفكر، ويعم الحرج، وتتوقف عند قوالبه الصماء حركة الحياة.(نفسه ص ٩٧)
من أجل ذلك كان تصحيح منهج البحث والاتفاق على قواعد «الخلاف» بين العلماء والمجتهدين «مسألة أولىة» كما يقول المعاصرون لا بد من حسمها حتى يقبل أولو العلم على ممارسة الاجتهاد.
بعد مئات السنين من إغلاق باب الاجتهاد، وبعد أن تحول الدين إلى منطقة مغلقة يسعى بعضهم إلى الحيلولة دون المفكرين والدخول إلى ساحتها وطرح رؤى مغايرة للسائد المهيمن، يبدو ضروريا أن تتغير المعادلة، وأن يعاد النظر في كثير من القضايا والإشكالات التي ترفع فوقها رايات زائفة، تحذر من خطورة الاقتراب والتفكير في طرح البدائل من منطلق اجتهادى مستنير.
الدين لا ينفصل عن الحياة، ولا ينبغى له أن يبتعد عن كل جديد يطرأ عليها، والدنيا التي نعيشها تقترن بكل ما هو جاد وخطير، وليس بالشكليات والسفاسف والمعالجات الهشة المتهافتة، إن الدين ضرورة اجتماعية، ولا بد من التمييز الصارم الواضح بين مكانه ومكانته، وبين كل الأنشطة الإنسانية الأخرى، الفصل حتمى بين العقيدة الدينية وما يرتبط بها، وبين الاجتهادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية، ذلك أنها اجتهادات تستدعى الخلاف، وتعتمد على البحث والتجربة، وتخضع للصواب والخطأ.
الإيمان وليد التسليم والعاطفة، وهو في حاجة أيضا إلى مناخ من الحرية التي ترتقى بذلك الإيمان العاطفى وتسلحه بالمنطق والعقل، لن يضير الدين مخالفة غير المؤمنين، وليس من مبرر للإرغام على الإيمان قهرا وإجبارا، فالقرآن الكريم يعلنها صريحة مدوية: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» «الكهف:٢٩»
الإسلام عقيدة قوية، ولا يستقيم أن يتحقق الإيمان الحقيقى به دون اقتناع عقلى، ولا مجال لهذا الاقتناع بمعزل عن معرفة ما يقوله الآخرون، ومثل هذه المعرفة تتطلب إتاحة الفرصة لحق المخالفين في إبداء آرائهم والتعبير عن وجهات نظرهم، وهذا ما نص عليه القرآن في أكثر من موضع، وهو عين ما مارسه النبى، صلى الله عليه وسلم، في دولة المدينة مع المخالفين في الرأي.
وخلاصة الأمر، فإن الاجتهاد فريضة غائبة، لا بد من العمل على إعادتها إلى المكانة التي تجعل التصالح بين الدين والدنيا واقعا بديلا، ومن العقل هاديا ومرشدا لما فيه خير الإنسان ومحصلته، وإذا كان بعض «المجتهدين» قد أغلقوا قبل قرون باب الاجتهاد، لأسباب قد تكون وجيهة ومبررة في إطار مرحلتها التاريخية، فإن المطلب الذي يلح عليه العلماء «المجتهدون» في العصر الحديث، وكذا الحكام والساسة، هو إعادة فتح باب الاجتهاد، والسعى إلى التسلح بالنظرة العصرية العقلانية في مواجهة ما يجد على الواقع من قضايا ومتغيرات، فهل نحن فاعلون قبل فوات الأوان؟!