البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

من فوق رف في المكتبة


كأنى ألتقى بصديق قديم، كان شعورى وأنا أسحب من فوق رف فى مكتبتى رواية "مدام بوفارى" للكاتب الفرنسى "جوستاف فلوبير" المنشورة عام 1857. وقد أثارت وقتها ضجة أو ما يشبه الزلزال فى الأوساط المحافظة فى المجتمع الفرنسى فى ذاك الوقت. لم يهدأ المحافظون إلا بجرجرة "فلوبير" والناشر ومسئول المطبعة إلى ساحة القضاء. يحملون فوق أكتافهم ارتكاب جريمة "الإساءة إلى الأخلاق العامة وإلى الدين"
وبداية من السطور الأولى لمرافعة اتهام المحامى العام أو "محامى الإمبراطورية" – وقت أن كانت فرنسا إمبراطورية – وصف ما ارتكبه المتهمون بالجريمة قائلاً: "الصعوبة ليست فى اتهامنا، بل إنها على الأصح وبالأحرى فى طول الكتاب المعروض عليكم للحكم فيه، فهو قصة كاملة. وعندما يعرض عليكم مقال فى صحيفة يرى الإنسان فوراً أين تبتدئ الجريمة وأين تنتهى" .
حملت الرواية بحذر من أن تخدش أصابعى أوراقها القديمة، وتحسست برفق الغلاف كأنى أصافحه وكأني أستعيد لقائى بالحدث الذى مثلته الرواية ليس بالنسبة لى فحسب ولكن بالنسبة لأجيال من القراء فى العالم. نشرت الرواية فى سلسلة روايات الهلال فى جزءين متتالين فى ابريل ومايو عام 1977 .
ترجم الرواية للعربية الرائد والمؤسس لمدرسة النقد الأدبى فى الوطن العربى الدكتور محمد مندور، وكانت رئيس مجلس إدارة مؤسسة دار الهلال فى ذلك الوقت الأستاذة "أمينة السعيد" أول وأخر امرأة تتولى منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة صحفية قومية. الرائدة العظيمة التى دافعت حتى النفس الأخير عن حقوق النساء، وتصدت للهجمة الوهابية التى اختزلت شرف المرأة فى قطعة قماش فوق رأسها.
كان اللقاء حميمًا ودافئًا ولا يخلو من الشجن. أيام قضيتها فى صحبة الرواية استعدت خلالها ذكريات القراءة الأولى للرواية، واستعدت طعم وهج الحلم الذى لم يكن يقبل إلا أن يتحقق حلم مبنى على واقع مؤسس على الحق فى الحرية والعدل. اياً كان الثمن أو الأثمان التى ستدفع من أجل تحقيقه .
قضيت أياماً حميمة ورائقة مع رواية مثلت حدثاً مهماً فى تاريخ الأدب وفى مسيرة الصراع بين حرية الإبداع ومحاولات قتل حرية المبدع تحت دعاوى وذرائع لا علاقة لها لا بالإبداع ولا بالعقل. رواية عمرها أكثر من قرن ونصف القرن، كانت أحد ركائز الاعتراف بحرية المبدع ومهدت الطريق الشاق لأجيال من المبدعين جاءوا فى زمن كان هناك من يصف كتابات فيلسوف الحرية والاستنارة فولتير بــ "أباطيل فولتير".
هل هذا هو سبب الشجن الذى عشته فى صحبة الرواية؟ هل كانت الأيام التى استغرقتها فى القراءة تذكرنى أن المبدعين فى بلادنا مازالوا رهن الاتهام بجريمة الإبداع التى تسئ للدين والمجتمع؟ هل حالة الشجن سببها دفاع محامى الامبراطورية بصفته حارس وقيم على الأخلاق و هو صورة طبق الأصل من عرائض الإتهام لمبدعينا ؟ أم إنها أى حالة الشجن كانت وجعاً أصابنى كما أصاب محامى " المتهمين " وهو دفاع طبق الأصل من دفوع محامينا عن حرية الإبداع وحق المبدعين فى هذه الحرية ؟ ربما يكون حكم المحكمة ببراءة المتهمين منذ قرن ونصف سبباً أضافي للشجن.
كم هو رائع فى ظل ما نعيشه أن نعود بين الفترة والأخرى لرف فى المكتبة وضعنا فوقه كتباً اعتقدنا أننا لن نعود إليها.