البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

في ذكرى ناجي العلي.. حنظلة رمز النضال

رسومات ناجي العلي
رسومات ناجي العلي

لم يكن ناجي العلي يعرف سنة لميلاده، لكنه هُجِّر عام 1948 مثله مثل آلاف الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم ومدنهم ليعيشوا بمخيمات اللاجئين، عاش ناجي العلي طفولته بمخيم عين الحلوة بجنوب لبنان حتى اعتقلته قوات جيش الاحتلال صغيرًا لنشاطاته المعادية لهم، فزيّن جدران السجن برسومه التي عادت الاحتلال وفضحت تخاذل الأنظمة العربية.
لم يكترث ناجي العلي سوى بالرسم، ترك الطرق الممهدة بالمصالح واختار طريق فلسطين الوعر، وهو يرسم ملامحها البريئة في كل رسوماته ويطل عليها بهامته المرفوعة، وهو يدرك أن كبرياء المبدع يبدأ من اللحظة التي يرفض فيها أن يكون لعبة في يد السياسيين، لذا ظل مخفيا وجه طفله "حنظلة" عن جماهير الوطن العربي في رسوماته، وكلما ارتفع الشغف لرؤية وجه طفله كان يردد: الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة إنها بمسافة الثورة.
كان عدد مجلة "الحرية" العدد 88 في 25 سبتمبر 1961 يحمل أول كاريكاتيرات "العلي" المنشورة، ويرجع الفضل في ذلك إلى الأديب الفلسطيني غسان الكنفاني، وكان الكاريكاتير عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوّح.
ابتدع ناجي العلي في رسوماته شخصيات وهمية أشهرها "حنظلة" ذلك الفتى الصغير الذي أدار وجهه في رسومات "العلي" بعد عام 1973، وكان أول ظهور لحنظلة في عدد مجلة السياسة الكويتية عام 1969، ولقي حنظلة شهرة واسعة حتى إن الكثير من الناس باتوا يعرفون شكل حنظلة أكثر من تاريخ ناجي العلي نفسه.
ظل" حنظلة " يمشى وهو حزين دون أن يفقد الأمل، وكان يدرك أن الحزن هو حالة صحية شديدة النبل كقناعات روح "ناجى العلى " الذي كان دائما ما يردد: إن الحزن ظاهرة مريحة لوجداني.. والإنسان الذي لا يفهم الحزن تكون عاطفته محدودة جدّا ويعانى نقصا وجدانيا وإنسانيا، وحالة الحزن ظاهرة إنسانية نبيلة، بلى، هي أنبل من الفرح، فالإنسان يستطيع افتعال الفرح، أما الحزن فلا، ومن مساحة الحزن التي ميزت شخصيته تنقل "العلى" بين القضية الفلسطينية مثل الفراشة، لم يغير ألوان ريشته إلا لخدمتها كره التلون والمهادنة، وعندما كانوا يحذرونه من الخط الأحمر كان يرد بغضب: أنا أعرف خطّا واحدا، إنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام بإسرائيل".
كان مخيم "عين الحلوة" الذي رافق طفولته مع عائلته التي تم تهجيرها بعد حرب 1948 هي الموطن الذي افترشت أمامه صورة فلسطين الحقيقية، العائلات التي ظلت تعاني، كانت تزكم مخيلة الرسام المرهف وخاصة المرأة الفلسطينية التي أقام لها عددا كبيرا من السيناريوهات الكاريكاتورية التي كانت تتمسك بالبقاء على الأرض، مقابل الرجل الذي كان خائفا ويريد الرحيل من أجل أن يطعم أطفاله، ولذا ظلت الصورة الحقيقية لمعاناة الفلسطيني راسخة مثل الأيقونة؛ لأنه كان يؤمن جيدا أن الكاريكاتير ينشر الحياة دائما على الحبال وفي الهواء الطلق، وفي الشوارع العامة، بل كان يشدد في كثير من مقولاته:" فن الكاريكاتير يقبض على الحياة أينما وجدت لينقلها إلى أسطح الدنيا حيث لا مجال لترميم فجواتها ولا لستر عوراتها".
وعندما سئل "العلي" عن حنظلة كان رده: "ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين، وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء، وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع".
مثّل ناجي العلي فلسطين في شخصية أخرى سماها بـ"فاطمة"، كانت فاطمة في رسومات "العلي" امرأة لا تهادن المُحتل كما أن رؤيتها للقضية كانت شديدة الوضوح، فمثلًا في أحد الكاريكاتيرات كانت فاطمة تحمل مقصّا وتقوم بتخييط ملابس لأولادها، في حين تقول لزوجها: شفت يافطة مكتوب عليها "عاشت الطبقة العاملة" بأول الشارع، روح جيبها بدي أخيط أواعي للولاد".
عادى ناجي العلي المحتل بشكل قاطع ودعم المقاومة بشتى صورها في رسماته، كما انتقد القيادة الفلسطينية في مرات عديدة وبالأخص الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وانتقد أيضًا اتفاقية "كامب ديفيد" في الكثير من رسماته.
عناد وجسارة ناجى العلى في مواجهة الاحتلال ميزت رحلته التي لم تعرف الاستقرار يوما، فطفولته توزعت براءتها ما بين الهجرة من فلسطين ومخيم "عين الحلوة"  لتستقر في الزنزانة حين ألقت القوات الفلسطينية القبض عليه لنشاطه السياسي، وحينما خرج واصل نضاله لتقبض عليه القوات اللبنانية ليعود إلى جدران الزنزانة من جديد وهو يحفر على حوائطها صور" المعاناة".
40  ألف رسمة كاريكاتورية للفنان أنصفت القضية بعيدا عن توازنات السياسيين القذرة، فلم تتحمل "إسرائيل" أن تقف بمشاهدة هامة منتصبة مع الريح فأوزعت لقاتل مأجور أن ينهى المهمة ليسكت صوت " حنظلة " الذي لم يكف عن كراهية الحمامة، وقبل موته سألوه: لماذا كنت قاسيا مع الحمامة في رسوماتك؟ فكان يقول: لقد كنت قاسيًا على الحمامة لأنها ترمز للسلام.. والمعروف لدى كل القوى ماذا تعنيه الحمامة، إني أراها غراب البين الحائم فوق رءوسنا، فالعالم أحب السلام وغصن الزيتون، لكن هذا العالم تجاهل حقنا في فلسطين، لقد كان ضمير العالم ميتًا، والسلام الذي يطالبوننا به هو على حسابنا، لذا وصلت بي القناعة إلى عدم شعوري ببراءة الحمامة".
ظل ناجي العلي رمزا للقضية الفلسطينية حتى تم اغتياله في 22 يوليو عام 1987 بعدما أطلق شاب النار عليه، ليصاب أسفل عينه اليمنى ويظل في غيبوبة حتى التاسع والعشرين من أغسطس من نفس العام لتكتب كلمة النهاية في حياة مناضل لم يملك سلاحًا سوى ريشته الحادة اللاذعة، ليدفن في لندن على الرغم من وصيته أن يدفن بجوار والده في مخيم عين الحلوة.