البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

عبد الرحيم علي يكتب: رسالة إلى الرفيق «لطفى»

صداقتي له أحد أهم مصادر الفرح والسعادة.. أخي وابن أيامي

اتفقنا من 40 عامًا ألا يجاملُ أحدُنا الآخر ونظل أوفياء 

كنا في شبابنا نحلم بالحرية والاشتراكية والحب وشارك معي عندما أنشأت أول مركز للدراسات عام 1998

يستطيع أن يكتب مقالًا نقديًّا خلال 10 دقائق.. ودقيق جدًا في مواعيده

 

تملكتني حيرةٌ شديدة وأنا أحاول أن أكتب رسالة إلى مصطفى بيومي.. وكأنني أمسكُ القلمَ للمرة الأولى في حياتي.. بدا لي الأمر وكأنني لا أعرفه.. لكن سرعان ما تبدد ذلك الإحساس عندما تزاحمت الذكريات أمام عينيّ؛ كل واحدة منها لها قصة تستحق أن تُروى.. قلت لنفسي: على مهل.. تهجَّأ ذكرياتِك على مهلٍ كحروف الجر والرفع والنصب والجزم وانطق بها في جملة واحدة.

هذه هي مدينة المنيا الجميلة وتلك دار «شعاع».. يجلس مصطفى خلفَ منضدةٍ خشبيةٍ عتيقة ويمسك النسخة الأولى من ديواني الأول والأخير «العواصف».. كان ذلك في منتصف عام ١٩٨٧.. لم تكن تلك بالطبع هي المرة الأولى التي أراه فيها؛ كنا قد تعرفنا على بعضنا البعض منذ عامين تقريبا في العام ١٩٨٥ في قصر ثقافة المنيا.. قرأت مقدمة الديوان وشكرته ورد عليّ بجملته المعهودة: أنا لم أكتب إلا ما اقتنعت به.. أنت تستحق ما كتبته عنك، لم أجاملك.

واتفقنا منذ ما يقرب من أربعين عامًا، ألا يجاملُ أحدنا الآخر ولكن نظل أوفياء لما نكتب ونعتقد..

لم يكن مصطفى بيومي صديقي بالمعنى التقليدي للصداقة.. إنما كان، ولم يزل، واحدًا من عائلتي.. أخي وابن أيامي.

كنا مجموعة من الأصدقاء لا تتعدى أصابع اليدين ندينُ للأدب العربي والشعر والرواية بالكثير في تكوين شخصيتنا وندين للفكر الماركسي بأكثر من ذلك في جعلنا نمتلك مفاتيح طيعة لفهم ظواهر الحياة.. وكان مصطفى أكثرنا انضباطًا وكلاسيكية، يعرف ما يفعل ويفعل ما يعرف، عندما تزوره في منزله لا بد أن تدهشك مكتبته العامرة بكتب الفلسفة والتاريخ والأدب هنا أرسطوطاليس وأفلاطون وماركس وإنجلز ونيتشه وسارتر بجانب تشيخوف وديستيوفسكي وكازنتزاكس.. هنا نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيي حقي.. سلامة موسى وطه حسين وعلي عبد الرازق ولويس عوض.. بجانب عبد العظيم رمضان وطارق البشري وصلاح عيسي.. هنا الجبرتي وعبد الرحمن الرافعي.. هنا حجازي وأمل وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين.. هنا مصر التي أحبها مصطفى بجنون ولم يزل.

والتي من أجلِها قررنا يومًا ما من عام ١٩٨٧ أن نشكل خلية شيوعية سرية.. كان الاجتماع الأول في منزل مصطفى واختار هو أن يكون مسئول التثقيف واختار لنفسه الاسم الحركي «لطفي» ورشحني هو وعادل وسليمان لكي أكون المسئول السياسي للخلية، أي المسئول الأول فيها، ربما لكي أتحمل المسئولية وحدي بحكم تهوري المعتاد عندما تحدث الواقعة.

واخترت لنفسي الاسم الحركي «خالد».

كنا في ريعان شبابنا نحلم بالحرية والاشتراكية والحب..  لكن أكثر شيء كنا مؤمنين به هو الحب وهو ما بقى بعدما تبخرت أحلام الحرية والاشتراكية.

لا أبالغ إذا قلت إن صداقتي لمصطفي بيومي كانت ولم تزل أحد أهم مصادر الفرح والسعادة بالنسبة لي.. تأثرتُ به كثيرًا خاصةً في عادات القراءة واستخدام الكشكول ووضع الملخصات واستخدامها فيما بعد في الكتابة.. كان مصطفى ولم يزل كاتبًا محترفًا وقارئًا محترفًا وكنت، وما زلت، أهوى الكتابة وأعشق القراءة، لا أكتب إلا عندما تتكسر رأسي بالفكرة وتلح عليّ وتضغط حتى تكاد تفجرني من الداخل.. لكن مصطفى كان على العكس تمامًا يكتب كما يأكل أو يتنفس أو يمشي.. يستطيع أن يكتب مقالًا نقديًا في عشر دقائق كما يستطيع أن يقول لك متى ينتهي من الرواية التي يكتبها دون أن يتأخر عن هذا الموعد ساعةً واحدة.. أذكر في إحدى المرات وفي ساعة مزاح، قرر هو وعادل الضوي أن يكتبا شعرًا عموديًا يضارع الشعر العربي القديم في القافيةِ والوزن والموضوعات والكلمات فكانا يكتبانه وكأنهما يلقيان النكات في سهراتنا الليلية وفي الصباح يلقيانه على أساتذة اللغة والشعر فيبهرانهم بما كتبا وكنت أضحك في داخلي كيف لهذين الشابين أن يخدعا كلَ هؤلاء الكبار ليثبتا أن ما يكتبه البعض لا يستحق عناء القراءة.

«من أي بحرٍ عصيِ الريحِ تطلبه.. إن كنتَ تبكي عليه فنحن نكتبه».. كانت تلك رسالتهم التي حملها حجازي شابًا إلى العقاد.. وافترقنا.. غادرت أنا إلى القاهرة وكان قد سبقني إليها عادل وسليمان، وظل مصطفى هناك في قلب المدينة الهادئة الجميلة يكتب ويقرأ ويقابل أصدقاءنا ويرسل تحياته بين الحين والآخر.. لكنني عندما أنشأت أول مركز للدراسات عام ١٩٩٨ اتصلت به وبعادل وسليمان فلبوا النداء جميعًا كالعادة، وكان أولهم مصطفى، وبدأنا رحلة جديدة أثمرت ثمارًا يراها العالمُ كلُه الآن وليس المصريين فقط، آثارهُا في كل مكان في أوروبا ولن تتوقف ما كان في العمر بقية إن شاء الله..  ولمصطفى بيومي، بالطبع، نصيبُ الأسد من كل تلك النجاحات..

سلمتَ يا أخي وصديقي وسلمتْ يداك وسلمَ قلمك.. وفي انتظار إبداعاتك كل يومٍ وكل ساعةٍ وكل دقيقة.. وأبدًا لن ينكسر قلمك أو يتوقف طالما رفاقك وأهلك وأصدقاؤك وأحباؤك ما زالوا بجانبك.. فالخلية لم تزل قائمة، حتى وإن ذهبت أيامها وأفكارها وأحلامها.. أيها الرفيق لطفي.. عد إلى قلمك.