سد النهضة.. من جديد
كل المؤشرات تؤكد أن قرار إثيوبيا ليس بيدها وأنها وقعت فريسة لدول ما وأجهزة تدير الموقف الإثيوبى عن بعد، وأن سد النهضة ليس إلا ذريعة للاعتداء على مصر ومستقبل أبنائها، والبحث عن تلك الدول التى تقف خلف الستار الإثيوبى ليس صعبًا فالخصومات بين دول العالم معقدة وترتدى في بعض الأحيان ثوب الصداقة ولكن الكل يسعى نحو مصالحة مهما تبسمت الوجوه، ومصر ما بعد ٢٠١٣ شكلت لغرا صعب التفسير في المجتمع الدولى وإن كان عنوانه الأوضح هو محاولة الاستقلال الاقتصادى والسياسى والابتعاد عن التصادم والتركيز على إعادة بناء الدولة في كل مساراتها.
ولذلك يأتى سد النهضة كحجر عثرة في طريق الدولة التى أعلنت دون مواربة خصومتها مع الإرهاب وداعميه ومن يوفر له الملاذات الآمنة وهو ما يفتح القوس واسعا لخصومات معلنة وأخرى تحت السجادة التى ترتكز عليها موائد التفاوض.. ولنا في جولات واشنطن والبنك الدولى عن سد النهضة الدليل، فعلى الرغم من توافق الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا على معظم بنود الخلاف وعلى رأسها ملء السد، وعلى الرغم من إعلان الجانب الأمريكى بان التوقيع النهائى سيكون مع نهاية فبراير إلا أن فبراير مضى دون توقيع وجاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكى بومبيو من أديس أبابا، والتى تذهب إلى أن مجال التفاوض مفتوح لعدة أشهر مقبلة، وذلك على عكس تصريحات وزير الخزانة الأمريكى وهو ما يحسم الشكوك لتصل إلى درجة الحقائق، فما كان للجانب الإثيوبى شجاعة رفض حضور المناقشة الأخيرة لصيغة الاتفاق إلا بمساندة من خارج حدودها وترمى إثيوبيا حجتها في ذلك باقتراب موعد انتخابات لديها ومخاوفها من تأثير التوقيع على سير الانتخابات.
وبهذه الصورة المرتبكة التى تحاول مصر غلق ملفها منذ سنوات ولم تنغلق حتى الآن يتضح مدى شراسة تلك المعركة، هى مصيدة مؤكدة لبلادنا، وهذا ليس خافيا على متخذ القرار بمؤسسة الرئاسة والخارجية والأجهزة التى يخضع لها هذا الملف، كما أنه ليس خافيا أيضًا مدى عجز المجتمع الدولى عن تفعيل قوانينه التى من شأنها منع الحروب وترميم التصدعات وإعادة الحقوق لأصحابها.. الجانب الإثيوبى ارتضى لنفسه أن يكون خنجرا في ظهر بلادنا بتلاعبه في ملف المياه.. ومصر تعرف جيدا في لعبة الشطرنج ولا أستطيع كمتابع أن أفرض على بلادى خارطة طريق لحل تلك المعضلة فكل الخرائط واضحة ومعروفة ولا يمكن لعاقل أن يشكك في قدرة مصر على حسم هذا الموضوع، وليس معنى هذا سلبية ملايين المصريين واكتفاءهم بتفويض القيادة لاتخاذ ما تراه مناسبًا لأن الإيجابية الكبرى التى يمكن إنجازها هى إعلان الثقة في المفاوض المصري.. الإيجابية هى الوقوف ضد أى أفكار من شأنها دخولنا المصيدة التى يحاول الخصم دفعنا إليها، وبوضوح أكثر أقول إن حكاية الحرب وضرب السد والمزايدات المجانية هى بالضبط ما يريده عدوك، إثيوبيا مهما اختلفت مساراتها هى دولة أفريقية جارة شريكة معنا في نهر الحياة، ويوم ما سوف تسطع شمس التنمية الشاملة لدول حوض نهر النيل.
المهم في تلك الأزمة هو أن الخارجية المصرية أثبتت للمرة الألف أنها مدرسة محترفة وأنها سوف تغلق هذا الموضوع بما يحقق مصالح كل الأطراف دون تشنجات أو عصبية، فالقاعدة الذهبية التى وضعتها منذ بدء الأزمة مفادها أن الكل رابح ولا مجال لكى يكون الكل خاسرا.. وأن توقيع مصر بالأحرف الأولى على مسودة الاتفاق هو عنوان ثقة وتصريح غير مباشر للداخل المصرى بأن حقوقنا ثابتة غير منقوصة وأن قرارنا بيدنا، يبقى فقط أن تتحرر إثيوبيا من قبضة من أوقعوها في أسر التبعية والنظر بعينا ستراتيجية لأسطورة نهر النيل الذى أقسم أجدادنا الفراعين على حمايته واستمرار تدفقه نحو الشمال.