البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

تحولات الفكر الاستراتيجى المعاصر «6»


يتابع المفكر المصرى الراحل السيد يسين فى كتاب «تحولات الفكر الاستراتيجى المعاصر.. من الاستقلال الوطنى إلى الدولة الاستراتيجية».. والصادر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بقوله: «إعادة اختراع التقاليد هو أدق وصف للمناخ الثقافى العربى الراهن، ذلك لأنه نتيجة لتفاعلات شتى دولية وسياسية واقتصادية وثقافية- تسود المجتمع العربى فى الوقت موجة عارمة من العودة للدين، والذى يتمثل فى انتشار مظاهر التدين الشعبى بين مختلف الطبقات، وانتشار الفكر الخرافى الذى يستند زورا وبهتانا لأسانيد دينية، وشيوع الفكر المتطرف الذى يلوى عنق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تعبيرًا عن رؤية مغلقة للعالم تقوم أساسًا على التحريم والتفكير، وبروز الإرهاب ضد المسلمين وغيرهم، ترجمة لهذا الفكر المتطرف.
نحن لا نتحدث هنا عن بعض المؤشرات الشكلية، مثل شيوع الحجاب حتى فى بلد مثل مصر، شهد تحرر المرأة منذ العشرينيات من القرن العشرين، ولكن فى اعتبار الحجاب بذاته هو رمز الإسلام، بالرغم من غياب آيات ملزمة بذلك. ولعل مما يكشف عن عملية إعادة اختراع التقاليد التى تقوم أساسا على اعتبار الماضى هو المرجعية التى ينبغى أن تحكم سياسات الدول وسلوك البشر، أن الحجاب أصبح هو المعركة الأساسية فى فرنسا بعد صدور القانون الفرنسى الذى يحرم ارتداء شارات دينية فى المدارس العمومية، سواء أكانت يهودية أم مسيحية أم إسلامية.
تصاعدت صيحات الغضب من البلاد العربية حتى وصلت حدود فرنسا، وكانت معركة الإسلام المعاصر هى الحجاب وليست السلوك المتخلف لجماعات شتى من المسلمين الذين يرفضون الانفتاح على العالم، ويصرون على تقليد السلف تقليدًا أعمى فى الملبس والمأكل والسلوك، مع أن الزمان غير الزمان والمجتمع غير المجتمع. 
ولا يمكن للمجتمع العربى أن يتقدم إذا تحكمت فيه هذه الرؤية الماضوية، المصممة على أن يتحكم الموتى فى الأحياء. ومن المؤشرات الدالة على سيادة عملية إعادة اختراع التقاليد تراجع الفكر العلمانى الذى يفصل بين الدين والدولة فى ظل التشويه المتعمد من قبل أنصار الفكر الإسلامى المتطرف، والذى يصف العلمانية بأنها كفر. وهذا التراجع الفكرى العلمانى تم لحساب الفكر المتطرف الذى يدعو لإنشاء دولة إسلامية أى دولة دينية، تصبح الآلية الأساسية فى مجال إصدار القرارات فيها هى الفتوى، وليس التشريع، الذى تقوم به المجالس النيابية المنتخبة تحت رقابة الرأى العام. 
وإذا أضفنا إلى ذلك الدعوات التى تنادى بأسلمة المعرفة، بمعنى أخذ المعرفة الغربية ثم أسلمتها، لأدركنا أن هذه الدعوى الزائفة من وجهة النظر الإبستمولوجية، لن تؤدى- إذا تمت وهذا مستحيل- إلا إلى عزل العرب عن التيار المتدفق للمعرفة العلمية العالمية فى مجال العلوم الطبيعية، كما هو الحال فى مجال العلوم الاجتماعية. 
وفى نفس الاتجاه، تصب الكتابات التى تكاثرت فى الحقبة الأخيرة من «الإعجاز العلمى فى القرآن»، والتى لا تفعل إلا الفخر بسبق القرآن للعلم الحديث، مع أنه ليس- كما هو معروف- كتابًا فى العلوم. بالإضافة إلى أن هذه الدعوات يمكن أن تضع النصوص الدينية فى حرج؛ لأن العلم متغير. لذلك دعونا منذ سنوات إلى شعار مؤداه أن «العلم يقوم على الشك فى حين أن الدين يقوم على اليقين». 
وبالإضافة إلى ذلك، ما هو فضل الذين يرددون شعار الإعجاز العلمى للقرآن من المسلمين، فى حين أن الغربيين هم الذين ينتجون العلم، وهم الذين يبتكرون التكنولوجيا، وهم الذين يعلنون كل يوم عن اختراعاتهم النافعة للبشرية جمعاء. 
ويُطرح على الثقافة العربية فى الوقت الراهن سؤال خاص بعاصفة القرن الحادى والعشرين: كيف ستتفاعل مع العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية؟ ولا بد أن نبدأ بتساؤل: هل يمكن إصدار حكم قاطع فيما يتعلق بقبول أو رفض العولمة؟ إن إصدار حكم نهائى على العولمة ينص على رفضها رفضًا مطلقًا، يكشف عن تعجل فى إصدار الأحكام بغير تأمل فى منطق التطور التاريخي. وإذا كان صحيحًا أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالى العالمي؛ فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة، وسيكشف فى المستقبل المنظور أن العولمة- بغض النظر عن نشأتها الرأسمالية- ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية عالمية واسعة المدى، ستنقل الإنسانية كلها- على اختلاف ثراء وفقر الأمم- إلى آفاق عليا من التطور الفكرى والعلمى والتكنولوجى والسياسى والاجتماعي. 
وبعبارة أخرى، ستحدث آثار إيجابية لم تكن متصورة لدى من هندسوا عملية العولمة، بل وستتجاوزها هذه الآثار مخططاتهم التى كانت تهدف للهيمنة والسيطرة على النظام العالمي، وسيثبت التاريخ أنه لن يتاح لدولة واحدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى لمجموعة من الدول الكبرى، أن تهيمن هيمنة كاملة على العالم اقتصاديًا وسياسيًا وتكنولوجيًا وعلميًا، وإلا حكمنا على شعوب الأرض جميعًا بالعقم وعدم الفاعلية. إن المعركة الحقيقية لا تكمن فى مواجهة العولمة كعملية تاريخية، وإنما ينبغى أن تكون ضد نسق القيم السائد الذى هو فى الواقع إعادة إنتاج لنظام الهيمنة القديم.