البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

السياسة والديوان في مقامة عبدالله فكرى (1)


لا أعرف على وجه الدقة من بين فلاسفة الثقافة الإسلامية أول من ربط بين صلاح الحاكم وفساده، وخصال أعوانه ووزرائه ومعاونيه، ولا تلك الرؤى السياسية الأخلاقية التطبيقية التى أكدت أنه إذا جمعت حاشية السلطان بين العالم الخلوق، والمبدع الورع، والناصح الأمين، والمحنك الرزين، انعكس ذلك بالإيجاب على سلوك المملكة والدولة وأخلاقيات الرعية وبرهنت على دربة الحاكم وفلاحه فى قيادة أمته وتسييسه لشئون الحكم ورعايته لصالح العباد، أما إذا تصدر معيته أراذل الناس وأسافلهم من المتملقين والمنتفعين والناقمين والحاسدين والطامعين وتجار الكلمة والمتآمرين، أنبأ ذلك عن فساد السلطان وعجل بزوال ملكه وحكمه وفساد الأمة. 
ولعل ابن المقفع والثعالبى (٩٦١-١٠٣٨ م) وابن جماعة (١٢٤١-١٣٣٣ م) من أوائل الحكماء فى الثقافة العربية الإسلامية الذين طرقوا هذا الباب، وأكدوا ضرورة توخى الحاكم الحذر فى اختيار وزرائه وندمائه ومستشاريه والقائمين على القضاء والجيش وبينوا أن أثرهم على قرارات السلطان وتدابيره وأحكامه وتقييمه للمسائل المطروحة عليه لا يمكن إنكاره، فيأخذ من بعضهم العلم والخبرة والدربة والدراية فيما خفى عليه من أمور، ويلتمس عندهم المشورة ويستعملهم فى إنفاذ أوامره، ويسمع منهم أخبار الرعية. وقد توسع فلاسفة الأخلاق والسياسة المسلمون فى تبيان أهمية معية الحاكم، وأفردوا فى كتبهم فصولا للحديث عن صفاتهم وخصالهم والآداب التى يجب أن تتوفر فيهم، وانتهى معظمهم إلى أنه إذا اجتمع الملك الفاضل والوزير الصالح الناصح، أحرى بالمملكة أن تكون ساكنة، هادئة وأحوالها وأعمالها على النظام جارية، وطرق التجارة والمواصلات آمنة، والأسعار مناسبة وفى متناول الجميع، ونفوس الرعايا هادئة وراضية، وفى السلم والأمن والعدل مطمئنة.
وأعتقد أن عبدالله فكرى قد تأثر بهذا الطرح أثناء كتابته للشق السياسى الذى عالجه فى مقامته، فقد صور الصفات الحميدة والخصال الدميمة فى الشخصيات المحيطة بكرسى الحكم، وبين مبلغ أثرها على السلطان ومدى تأثره بها، وذلك بأسلوب تمثيلى لا يخلو من بصمة إبداعية. 
وحسبى أن أؤكد أن مقامة عبدالله فكرى لا يمكن إدراجها ضمن الآداب السلطانية المباشرة، وحجتى فى ذلك أن متنها خال تماما من أى إشارات توجيهية للحاكم أو الأمراء الذين تولى تربيتهم وتعليمهم فى القصر الخديوى – كما أشرنا سلفًا -. 
أضف إلى ذلك أن أسلوب المقامة الملغز لا يتفق مع لغة النصح والإرشاد والتوجيه الذى آلفناه فى كتابة هذا اللون من المؤلفات الأخلاقية. 
أما وجهته الإصلاحية ونزعته التربوية الأخلاقية التى روج لها فى الصفحات الأولى من المقامة فهى لا تخرج عن كونها سنة أو نهجا متبعا فى كتابة المقامات، ولاسيما الحديث منها الذى اتخذ من نقد الواقع المعيش سبيلا لتقويم السلوك والأخلاق والمعتقدات. 
وإذا ما انتقلنا إلى الموضوع الثانى الذى طرحه عبدالله فكرى فى مقامته فسوف نجده هو السياسة وشئون الحكم. فقد انتقل مفكرنا بذكاء ودهاء وحنكة وحرفية متقنة الى ميدان السياسة فنألفه يفاضل بين الحكومات القائمة على النظام الجمهورى فى الحكم والديمقراطية فى التشريع، ويرى أنها لا تخلو من مواطن الجور والاستبداد والزور والاستغلال، وأن أفضل منها هو الحكم الملكى الذى يكون الأمر فيه لذلك المستبد العادل (المفقود) الذى يغلق بحكمته أبواب الانقسامات والخلافات والفتن، ويقود بصدق نيته الأمة إلى ما فيه خيرها، ويقول: «ظننت أن إدارة الحكم فى المدينة بالجمهورية لا بالملك والاستقلال، وزعمت أن ذلك سبب ما أراه فيها من الفتنة والاختلال، كما يقع عادة فى الممالك الجمهورية من مثل هذه الأحوال بسبب ما يظهر فيها من الفرق المتعارضة وما يكون لهم فى أحكامهم من الآراء المتناقضة، فهذا ما ذهبت بادئ إليه وعولت فى توجيه أحوال المملكة عليه، ولكن لم يتيسر لى فهم ما رأيته بحقه، ولم أعرف من بينهم أحدا أثق به وأعتمد على صدقه فبقيت متفكرا مضطربا متحيرا». 
وأعتقد أن عبدالله فكرى ينتحل فى هذه المقامة نهوج التورية والتعمية ورمزية عكس الدلالة، فظاهر القول يفيد بأنه ضد الجمهورية أو ضد النظام الجمهورى الديموقراطى ومؤيد للملك العضوض والنظام الفردى الأوتوقراطى الذى يتفق مع المنحى الصوفى، غير أنه ينبه القارئ بذكاء شديد على أن حديثه لا يعبر عن اليقين أو ينطلق من فوق منبر الحق، ويبدو ذلك فى قوله هذه الإشارات (ظننت – زعمت – لم يتيسر لى فهم – متحيرا) وكلها أساليب تفيد الارتياب والشك فى صحة الاستنباط والاستدلال، ويضيف عبدالله فكرى أنه وجد فى هذه المملكة الخيالية الباطنية رجلا يتميز بالفراسة وإتقان علوم السياسة، فأخبره أن ما رآه من أوضاع ونظم وأحوال لا يعبر عن الحقيقة، بل إن واقع الأمر أن هذه الدولة تحكم بسلطان عاقل مُلهم ساقته الأقدار إلى أن يتولى أمور تسييسها، ليقود الرعية بحكمة البارى والعدالة الإلهية، وأن جزاءه عند الله وحسابه موكل إليه عند السؤال عن تلك الأمانة التى ألقاها على كتفيه. وأعلم أن ذلك السلطان أو الحاكم ليس معصوما، وذلك لأنه ليس من الأنبياء ولا الأولياء، وأنه يستمد الحق من رجاحة عقله ومن قدرته على حنكته فى تسييس أمور مملكته، ومن ثم فالصواب والخطأ فى الاجتهاد محتملان، والذى يغلب إحدى الكفتين هو حسن الإدارة والتدبير واتصاله بالجماهير ونزاهة المشورة والوزارة. وللحديث بقية....