البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

محمد موسى وبهية!


لعلك لا تعلم أن قصة «ياسين وبهية»، لا تعدو إلا أن تكون خدعة، وما يردده الراوى على ربابته: «يا بهية وخبّرينى ع اللى قتل ياسين»، محض كلام منظوم، بلا أساس من الحقيقة، فـ«ياسين» ذاك لم يكن عاشقًا متيمًا، ولا يحزنون، وإنما كان سفاحًا سفاك دماء.
تاريخنا يزدحم بالأكاذيب، فإذا كان ياسين فى وعى العامة عاشقًا يضرب به المثل، فإن أدهم الشرقاوى بدوره، كان فى رواية ما، لصًا قاطع طريق، فيما يدور جدل حول الأختين «ريا وسكينة»، حيث تذهب مرويات شاحبة، إلى أنهما كانتا مناضلتين، وكانتا تستدرجان عسكر الاحتلال الإنجليزى، إلى بيتهما لقتلهم.
ما علينا من الصادق والمكذوب، فتلك سمة التاريخ، إنه ليس ذاك العجوز ذو اللحية، الذى يدقق ويفحص ويتمعن، فقد يدلس ويُزوّر ويكذب أيضًا، ولننظر فى قصة «محمد موسى وبهية»، وهى حقيقية جدًا، إن افترضت الصدق فى كاتب هذه السطور.
محمد موسى هو جدى لأبى، وبهية هى جدتى، وبينهما نشأت قصة حب، لم أر لها مثيلًا، ولا أحسب أنى سأرى.
عمّر جدى حتى بلغ الثامنة والثمانين، شيخًا متينًا قوى البنيان، لا يعانى أمراضًا مستعصية باستثناء النقرس، وكان يفخر بمرضه قائلًا: «داء العظماء، يصيب الذين يفرطون فى تناول اللحم»، وقد تعايش الرجل مع حالته بحرص، فاتبع نظام حياة صارمًا، واكتفى بوجبة أسبوعية من «البتلو»، واتبع نسقًا غذائيًا يعتمد على الأسماك واللحوم البيضاء.
كان يرحمه الله، أحمر الوجه، يهذب شعره القصير الفضى بعناية، أنيق للغاية، يمتلك رابطات عنق كنت أغبطه عليها، يرتدى الصوف الإنجليزى، ويجعل فى يمناه عصا «أبنوسية» ذات مقبض نحاسى لامع، يتوكأ عليها، حذاؤه نظيف، له صوت أجش جهورى، إذا أطل من شباك غرفته على شارع «رستم أفندى» فى حى كوم الدكة العتيق، نشبت الخشية فى نفوس العيال، ممن يلعبون كرة القدم، فإذا بهم يفرون، وهم يهتفون فى شقاوة عابثة: «اللورد كرومر»!
ينام فى نحو العاشرة، يصحو فيصلى الفجر، ثم يقرأ القرآن فيدعو لأبنائه العشرة، وأحفاده الكثيرين، ثم يستأنف نومه حتى الثامنة، يستيقظ فيحتسى الشاى بالحليب، ويتناول القليل من الجبن والخبز المحمص، ويجلس على كرسى أثير، يقرأ الأخبار، ويدخن حجرًا واحدًا من النارجيلة.. ذاك كان السلوك الوحيد غير الصحى فى نظامه.
منضبط كساعة «بيج بن»، يرفض كسر الروتين، يتحمم بالماء الساخن صيفًا وشتاءً، يحكم الغطاء عليه، فإذا تصبب عرقًا فى أغسطس الرطب، قال: «الدفا عفا».
على تلك الوتيرة عاش، حتى أصيبت جدتى بمرض صدرى، استهلك رئتيها كليًا، وكانت مدخنة شرهة، فماتت فى المستشفى فى غضون أيام، بعد أن أوصت أبناءها وأحفادها بالامتناع عن التدخين، لكن أحدًا لم يعمل بالوصية.
موت «بهية» كان بالنسبة له زلزالًا نخر أساساته فإذا بها تتهاوى.
الرجل الذى كان مفعمًا بالعافية، صار حطامًا فجأة كبيت عتيق، أخذ ينحل نحولًا مأساويًا، فإذا بالأمراض تركبه، فلا تترك عضوًا منه غير سقيم، اضمحلت حاستا السمع والبصر، واعتلت الكلى والقلب، وأصيب الكبد بكسل، وصولًا إلى الشلل.
فى حياتها، لم تكن علاقة محمد موسى وبهية، علاقة عصفورى غرام، كانا دائما الشجار والنقار، لكنها كانت ذات عينين خضراوين جميلتين، إذا رمقته بدلع ذاب قلبه، فسكنت غضبته من فورها، وسرعان ما تمتم بحنان: «يا بهية بلاش تعملى كده.. أنتِ غالية علىّ»، ثم يقبّل رأسها، وبعدئذٍ يسهب فى الحديث عن أفضالها ومآثرها: «ست أصيلة، عاشت معى على الحلوة والمرّة، تحملت الكثير، الشيطان يدخل بين الرجل وزوجه، أعوذ بالله منه، ربنا يجعل أجلى قبل أجلها».
لكن السماء لم تستجب للدعاء، فكان رحيلها قبله، وكان أساه بعدها.
توقفت عقارب الساعات عند لحظة الرحيل، مكث الشيخ فى الأرض بعد زوجه ست سنين، لا يفعل شيئًا إلا البكاء، كلما كنت أزوره، كان يرتمى فى حضنى ينشج: «شفت بهية يا ابنى.. شفت بهية».
رفض الطعام، صارت عمتى تحمله ليقضى حاجته باكيًا، مستصعبًا أنه صار ثقيلًا على الناس، يسأل الله أن يتغمده بالرحمة، فلا يكون عبئًا على أحد، قال الأطباء إنه لا يعانى مرضًا عضويًا ظاهرًا، لكن عقله الباطن يرفض الحياة، إنه يدمر نفسه لا شعوريًا، ينتحر بالتقسيط، حتى لا يعيش على الأرض بعد «بهية».
هزل «اللورد كرومر»، حتى صارت عظامه ناتئة، بل إن قامته أيضًا قصرت، كأنه «كشّ»، ولون بشرته صار داكنًا فى شحوب، ونظرات عينيه غدت زائغة لا تستقر على شىء، يحملق فى الجدران، يضرب بكفه على فخذه الأيمن بأسى، ثم يرمق أبناءه فيبكى: «شوفتوا بهية».
ذات صباح اتصل بى أبى، وكان شديد التعلق بأبيه باكيًا: «جدك مات»، واسيته: الحمد لله يا بابا.. والله العظيم فرحت له، ربنا عز وجل رحمه، فليجعل ما كابده فى ميزان حسناته.
ذاك درس فى الحب، تعلمته من جدى، وأخشى أننى ورثت عنه شيئًا من تلك المشاعر، التى تقتل صاحبها بالتقسيط.