البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

واحة الخميس


بناء الإنسان المصرى -1
لا شك أن ثمة عوامل كثيرة قد أثرت سلبا فى الشخصية المصرية وأفقدتها ما كنا نفاخر به الأمم فى الماضي؛ حيث اختلفت المفاهيم وتراجعت القيم المتوارثة حتى توارت عن الوجود واستبدلناها بالأنانية والكراهية والتخوين والحسد والحقد والغيرة، وصرنا نتقاتل بالألفاظ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولولا عودة الهيبة للدولة المصرية ابتداء من 2015، لكنا الآن فى حرب أهلية تأكل اليابس والأخضر، ولست أبالغ فى هذا، فقد رأينا فى أعقاب 2011 كيف كان القتل سهلا وبسيطا، ورأينا من كان يسير فوق كوبرى 15 مايو ممسكا ببندقية آلية وهو يمطر الناس بالرصاص دون تمييز، ورأينا أيضا من كان يلقى الصبية والأطفال من فوق سطح عمارة بالإسكندرية لمجرد أنهم خرجوا فى مظاهرة ضد مرسي، وهل لنا أن ننسى تلك المرأة التى صبت ماء النار على رجال الشرطة وهم يموتون أمامها، أو هؤلاء الذين رقصوا على جثث الشهداء، أو من كان يزرع قنبلة تحت شجرة وهو لا يعلم كم ستحصد من ضحايا، وكثيرة هى الحوادث الموجعة التى أسأل الله عز وجل ألا تتكرر مرة أخرى؛ فقد عشنا أياما سوداء وحالة من الفوضى والاقتتال لأتفه الأسباب، وكنا نخشى السير بعد منتصف الليل حيث كانت تنتشر عصابات سرقة السيارات، وفى خضم ذلك استولى البعض على أملاك الدولة، وارتفعت المبانى المخالفة وتم تبوير آلاف الأفدنة الزراعية تمهيدا للبناء عليها، فلما انتهت حالة السيولة التى عانت منها الدولة خشى هؤلاء جميعا سطوة أجهزة الأمن فكفوا عن أفعالهم، ولكن هل تغيرت أخلاقهم؟.. هل عادوا عن أفكارهم؟ هل عادت إلينا قيم الشهامة والمروءة والحب والخير والعدل والإيثار؟ الإجابة قطعا هى (لا)، وهذا ما دفعنى للبدء فى هذه السلسلة الجديدة من المقالات، إذ من السهل أن تبنى الدولة بيوتا ومصانع، ومن السهل أن تشيد الكبارى، وأن ترصف الطرق، ولكن من الصعب أن تبنى إنسانا، فالأمر يستلزم إعادة بناء الإنسان المصرى التى صارت الألفاظ النابية والشتائم هى لغة التخاطب بين معظم طبقاته، وأما العوامل التى أدت إلى هذا الانهيار فهى كثيرة ومتراكمة؛ فالشعوب تتأثر بالهزائم والنكسات، وهذا ما حدث لنا قديما فى أعقاب هزيمة 67، والتى كانت صدمة أصابت الجميع، فدفعت البعض إلى الكفر بمبادئ العروبة والاشتراكية، وهى الشعارات التى كانت مرفوعة وقتها، ودفعت البعض الآخر الى الاتجاه نحو الإسلام السياسي، ولكن سرعان ما جاء أكتوبر 73 ليعيد التوازن للشخصية المصرية، التى عادت وتأثرت بعد ذلك بالانفتاح الاقتصادى فصارت شخصية استهلاكية، باحثة عن الثراء السريع، ومع الانفتاح غير الممهد والمدروس انتشر الفساد فى ربوع مصر، وفى الوقت نفسه تقريبا عاد إلى حضن الوطن هؤلاء المتأسلمون الذين هربوا من النظام الناصرى وتلقفتهم أيادى الوهابية؛ فجاءوا بفكر متشدد، وبأزياء لم نعهدها من قبل، وهكذا صرنا ما بين فكرين: الأول متشدد إلى درجة إجازة قتل من يخالفه الرأي، والثاني: متفرنج إلى أبعد الحدود، ولا يمانع الفساد ويسهر ويشرب ويرتاد الملاهى الليلية التى انتشرت وامتلأت بها جنبات شارع الهرم، وما بين النقيضين عاش المواطن المصرى حتى طغى الفكر المتشدد فى بداية الثمانينيات وتمكن أقطابه من قتل الرئيس السادات، وفى اليوم نفسه تم قتل ما يقرب من مائة شرطى فى حادثة احتلال مديرية أمن أسيوط، ولم يكن أمام الدولة وقتها إلا مبادلة العنف بالعنف، فلما هدأ الأمر لصالح الدولة، وبدأت المراجعات الفكرية لهؤلاء، قامت وزارة الثقافة بدور تنويرى عظيم كان هدفه بث الوعى فى نفوس شبابنا، فقدمت الهيئة المصرية العامة للكتاب آلاف الكتب بثمن بخس تحت مسمى مكتبة الأسرة، وأصبح من اليسير على المواطن أن يقرأ لطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، كما وجدنا أمهات الكتب والموسوعات بين أيدينا، فأعيد نشر موسوعة «سليم حسن» عن الحضارة المصرية القديمة، وأعيد نشر كتاب «وصف مصر» بكامل أجزائه، و«قصة الحضارة»، هذا فضلا عن المجلات والدوريات التى كانت تصدرها الهيئة نفسها، كمجلات: «فصول وإبداع والشعر والمسرح»، وللأسف فإن كل هذه الإصدارات توقفت الآن، فالأمر لله من قبل ومن بعد، وعلى السادة المسئولين عن الثقافة فى مصر أن يتقوا الله فى هذا الشعب، وأن يدركوا أن مهتمهم الأولى هى بناء الإنسان المصرى دون النظر إلى عائد مادي، فالخدمة الثقافية كالخدمة الطبية والتعليمية، لا يجب أن ننتظر منها عائدا، ولكن هل يدرك رئيس هيئة الكتاب هذا الأمر، وهل يعرف أنه يجلس على المقعد نفسه الذى جلس عليه من قبل الشاعر العظيم صلاح عبدالصبور وسهير القلماوى وسمير سرحان؟ وهل أعد للاحتفال باليوبيل الذهبى لمعرض الكتاب فى بداية العام المقبل؟ أم أنه لم ينتبه لذلك؟.. إن بناء الإنسان المصرى يا سادة يبدأ من مسئولى الثقافة.. وللحديث بقية.