البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

«العنف الرمزي»


انشغل التنظير السوسيولوجى لفترة طويلة من الزمن بظاهرة «العنف» فى المجتمع، وذلك منذ بداية ظهور العقد الاجتماعى الذى رصد حالة «العنف» على ساحة النظام الاجتماعي، فقد حاول الفيلسوف الإنجليزى «توماس هوبز» إسناد أسباب هذه الظاهرة إلى أنانية البشر وميلهم إلى الشر، كذلك ميلهم إلى الغدر والخيانة. فى حين أسند «جان جاك روسو» هذه الظاهرة إلى حالة المجتمع الشرير الذى يعيش فى إطاره البشر الخيرين بطبعهم، الذين اكتسبوا الشر من المجتمع. وعلى هذا الأساس تحتاج ظاهرة «العنف» إلى تأمل جديد يستهدف تطوير مقولات جديدة تحل محل المقولات التقليدية، بحيث تكون هذه المقولات الجديدة قادرة على تقديم تفسير مقنع لهذه الظاهرة؛ ذلك لأن الواقع المعاصر الذى نحيا فيه يحتاج إلى إدراك تفاعلاته بمنطق جديد، غير المنطق الذى طوره علم الاجتماع التقليدي. 
حاول المفكر الفرنسى الشهير «بيير بورديو» تحليل «ظاهرة العنف» وأثرها فى الحراك الاجتماعى والطبقى فى المجتمع، وقام بتحليل بنية العلاقات الاجتماعية فى المجتمعات الإنسانية المعاصرة؛ كما استطاع- بمنظوره النقدى- أن يكشف نسقًا من الأوهام الإيديولوجية السائدة فى المؤسسات المختلفة، وأن يسقط أكثرها خداعًا ومواربة. ومن أجل ذلك انطلق «بورديو» فى بناء نظريته السوسيولوجية لنقد ما يسمى بأدوات «العنف الرمزي»، الذى تمارسه الطبقات الاجتماعية التى تهيمن على هذه الأدوات وتسيّرها. 
يشكل «العنف الرمزي» منطلقًا منهجيًا للكشف عن الفعاليات الذهنية التى يمارسها المجتمع فى تشكيل عقول الأفراد عبر سلطة معنوية خفية (كسلطة الدولة) تفرض نظامًا من الأفكار والدلالات والمعانى والعلامات بوصفها سلطة مشروعة. بمعنى أن الدولة تمارس- عبر مجموعة من المؤسسات الرسمية والشرعية (الإعلام والدين والتربية والفن والصحافة)- عنفًا رمزيًا ضد الأفراد والجماعات. وهذا «العنف» كما يقول «بورديو» غير محسوس وغير مرئى حتى بالنسبة إلى ضحاياه، ويمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة؛ أى عبر التواصل وتلقين المعرفة. وهذا «العنف» أكثر خطورة من العنف المادى الجسدي؛ لأنه «عنف» قادر على المراوغة؛ ويتصف بذكائه ودهائه وقدرته على التخفى ونصب الكمائن لضحاياه فى مختلف المستويات الإيديولوجية.
ويرتبط «العنف الرمزي» بالسلطة والهيمنة والحقل التعليمي، ويطبقها- بورديو- على النظام التربوى القائم على علاقات الهيمنة والسيطرة الواضحة بين الطبقات الاجتماعية التى تتباين بدرجات كبيرة فى مستوياتها الثقافية الاقتصادية والاجتماعية. وهذا يوضح الارتباط المتكامل بين النظام التربوى والنظام الاجتماعى فى توليد إيديولوجيا الهيمنة؛ وإنتاج البنى الاجتماعية المتفاوتة طبقيًا.
ويولد «العنف الرمزي» حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرضه نظامًا من الأفكار والمعتقدات الاجتماعية التى غالبًا ما تصدر عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة فى موقع الهيمنة والسيادة. ويُعد «العنف» الموجه ضد المرأة من أكثر مشاهد «العنف الرمزي» المقنّن عبر التاريخ، بمعنى غياب خطاب المرأة فى تعريف القيم الثقافية المهيمنة وتهميش دورها الفعال، وسيطرة التفكير الذكورى على مقدرات حياتها.
ويركز «بورديو» على «التليفزيون» بوصفه أداة إعلامية خطيرة تمارس «العنف الرمزي»؛ حيث ينتج برامج وصورًا بعيدة عن أى موضوعية ويعكس رؤية للعالم غير محايدة سياسيًا. ويتلاعب «التليفزيون» بعقول الناس، وينشر بينهم إيديولوجية الدولة المهيمنة، وأفكار الطبقة الحاكمة. وهذا يهدد الثقافة والفن والديمقراطية الحقة. وينطبق هذا الحكم ذاته على «الصحافة» التى صارت من الوسائل الخطيرة التى تشارك الفئات الحاكمة فى ممارسة «العنف الرمزي» ضد الآخرين.