البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

رمضان مائدة اللغة وإجابات لإشكاليات ثقافية

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

مع نفحات مباركة وساعات يستعد فيها المصريون وكل العالم الإسلامي لمطلع شهر رمضان الفضيل، يقدم شهر الصيام مائدة ثرية للغة في أيام كريمة تقدم إجابات لإشكاليات يطرحها مثقفون حول اللغة العربية وقضايا التعريب.

والمعجزة الحاضرة دوما للإسلام هي معجزة ثقافية بامتياز كما تتجلى في القرآن الكريم وهو الكتاب الذي أنزل من لدن الحق في عليائه على الرسول الكريم محمد صلي الله عليه وسلم، ويبدأ بكلمة "اقرأ"، فيما تشكل تفسيرات دعاة مثل الراحل العظيم الشيخ محمد متولي الشعراوي "فتوحات في عالم اللغة بقدر ما هي نفحات إيمانية وضيئة".

ومن نافلة القول أن شهر رمضان الفضيل يقترن بأكبر عدد ممكن من المتلقين للبرامج التي يظهر فيها إمام الدعاة الراحل فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي بقدرة فذة على التواصل، فيما يتحدث للجماهير بلغة ومفردات تجمع ما بين عبقرية اللغة وفتوحات الإلهام والحب المخلص للرسالة المحمدية الخالدة.

وفي وقت باتت فيه قضايا اللغة تشكل هما ثقافيا مصريا وعربيا، يقول الكاتب والشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي إن معرفة اللغة الفصحى وإتقانها وامتلاكها شرط لفهم النصوص الدينية ومعرفتها والتصدي للحديث باسمها، موضحا أن "اللغة ليست مجرد لسان وإنما هي قلب وعقل ووجدان."

وتابع حجازي: "حين أقول إن اللغة العربية الفصحى هي لغتنا القومية أعبر عن حقيقة ثابتة ومسلم بها لدى كل المصريين، كما تشهد بذلك قوانينهم الأساسية وتاريخهم الحافل وثقافتهم الوطنية بكل العناصر القديمة والحديثة التي دخلتها وتفاعلت فيها"، فيما يرى أن "اللغة العربية في مصر بلهجتها الفصيحة ولهجتها العامية لغة واحدة يفكر بها المصريون ويستخدمونها في حياتهم اليومية وإبداعاتهم الفكرية والأدبية".

ويلاحظ أن المصريين الذين أخذوا يتكلمون الفصحى منذ أكثر من ألف ومائتي عام ويعبرون بها عن أفراحهم وأتراحهم وآمالهم وآلامهم "اشتقوا من الفصحى لهجة دارجة وحافظوا في الوقت ذاته على فصاحة الفصحى التي صارت تمت لمصر بقدر ما تمت اللهجة المصرية الدارجة لأصولها العربية".

ويربط هذا الشاعر المصري الكبير بين قوة اللغة وصعود الفصحى وانبعاث النهضة، فيما يصف هؤلاء الذين يعتقدون أن الفصحى لغة ميتة بأنهم "يطلقون أحكامهم دون تبصر أو شعور بالمسئولية لأنهم لا يحددون في أي مجال ماتت الفصحى كما لا يحددون في أي مجال تحيا العامية وتعمل وفي أي مجال تعجز وتقصر"، ليخلص إلى أننا "لو استجبنا لهؤلاء لكانت مشكلتنا مع العامية أصعب بكثير".

ومن بين المثقفين العرب الذين تحدثوا عن "إشكالية اللغة وتجديد الثقافة" في الآونة الأخيرة المفكر البحريني علي محمد فخرو الذي رأى أن "مشكلة المشاكل هي تراجع الإمكانات اللغوية للغة العربية الأم عند الملايين من أطفال وشباب العرب".

وانتقد فخرو "إهمال اللغة الأم لحساب لغات العولمة الأجنبية"، لافتا إلى أن "التراجع في إتقان اللغة الأم قاد ويقود إلى انفصال الجيل الجديد عن تراثه الفكري والثقافي وعن متابعة نتاج الحقل الثقافي العربي الحالي".

وإذا أضفنا إلى ذلك ما يصفه الدكتور علي محمد فخرو وهو وزير سابق للتربية والتعليم في البحرين بانشغال الشباب الجنوني بوسائل الاتصال الاجتماعية التي تأخذ الكثير من وقته والتي قسم كبير منها باللغات الأجنبية وعن ثقافة الآخرين وهمومهم، فإننا أمام إشكالية معقدة.

وإذ أفضت الثورة الرقمية ضمن تداعيات عديدة وعميقة لتحديات لغوية تستدعي مواجهة أي جمود في اللغة كانسياق وبنى ودلالة، فإنها تنتج أيضًا مصطلحات جديدة مثل "علم التعمية الحديث"، وهو حقل في علوم الحاسوب يتعلق بالحفاظ على أمن شبكات وأجهزة الاتصالات والتصدي لمحاولات القرصنة والحيلولة دون تسريب المعلومات.

ومثل هذه العلوم الحديثة بمصطلحاتها الأجنبية تتطلب تفاعلا ثقافيا عربيا لمسايرة التطورات اللغوية على صعيد الكتل اللغوية الكبرى في عالمنا، أي الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.

ويقول المفكر البحريني علي محمد فخرو إن "حل إشكالية التضاد المصطنع بين التراث والحداثة والذي طال عليه الأمد وبالتالي حل إشكاليات العقل الجمعي العربي يحتاج إلى جيل شباب عربي متمكن من لغته القومية وقادر على الانخراط في ثقافته العروبية بشقيها التاريخي التراثي والعصري الحالي البالغ الغنى والتنوع".

وفي الآونة الأخيرة تحولت قضية "تعريب العلوم" إلى معركة ثقافية من الوزن الثقيل ووصفت حتى بأنها "قضية حياة" وسط جدل يتصاعد ويتضمن إشارات لتحديات العصر الرقمي ووسائط الإنترنت في سياق عالمي مهموم باللغة في زمن النمو المعرفي بالغ الثراء.

وكان مجمع اللغة العربية في القاهرة والشهير بمجمع الخالدين، قد ناقش بصورة مستفيضة قضايا تتعلق بالتعريب، فيما أكد رئيس المجمع الدكتور حسن الشافعي على أن اللغة العربية هي عنوان الواقع الوجودي للأمة العربية.

ولن تنسى الذاكرة الثقافية المصرية والعربية الشاعر الكبير والإعلامي الراحل فاروق شوشة الذي قضى يوم الرابع عشر من أكتوبر عام 2016 وكان صاحب اهتمامات لغوية أصيلة أهلته بجدارة لشغل منصب الأمين العام لمجمع الخالدين وهو الذي أكد مرارا أن التعريب "قضية قومية بالنسبة لنا وللغة بل هي قضية حياة".

ورأى فاروق شوشة أن حاجتنا إلى التعريب قائمة مستمرة ما دمنا نسعى جميعا إلى أن تكون لغتنا صالحة لخطاب العصر وافية بكل مطالبه واحتياجاته، مع إدراك أن للتعريب مشكلاته، "لكنه يظل جوهريا وأساسيا في تحقيق التنمية اللغوية وإثراء اللغة بكل ما يضيف إليها ويوسع من متنها ومن آلياتها".

وفي المقابل يرى الناقد والأكاديمي ووزير الثقافة الأسبق الدكتور جابر عصفور: "أنه من غير المفيد أن ندعو لتعريب العلوم وأن نتحمس لهذه الدعوة إلا بعد أن تعمل أدوات إنتاج العلم فى بلادنا بما يعادل قوة مثيلاتها في الدول المتقدمة، أما ونحن على ما عليه من تخلف علمي ومعرفي عام، فإن نتيجة تعريب العلوم ستنتهي إلى كارثة".

وأضاف عصفور: "منذ أن دخلت الجامعة وأنا أسمع الحوار حول قضية تعريب العلوم وعلى رأسها علوم الطب والهندسة والإليكترونيات"، وذهب إلى أنه "إذا كان المثل يضرب دائما بالدولة السورية التي قامت بتعريب العلوم منذ سنوات عديدة، فإن هذه التجربة فشلت"، على حد قوله.

وكان الراحل فاروق شوشة قد دعا لضرورة إنشاء مركز لتعريب تدريس العلوم، مشددا على أن ذلك يدخل في صميم رسالة المجمع اللغوي وصميم رسالتنا القومية من أجل اللغة العربية، فيما أوضح جابر عصفور أنه ليس ضد ترجمة العلم إلى لغة أي دولة "شريطة ألا تكون علاقات إنتاج المعرفة في هذه الدولة أقل تقدما من أدوات إنتاج المعرفة في أكثر الدول تقدما".

وقال عصفور: "وهذا ما حدث في اليابان والصين وغيرهما من الأقطار القادرة على منافسة الدول الأوروبية والولايات المتحدة"، منوها بأننا "سنظل في حاجة إلى تطوير علوم اللغة العربية وآدابها جنبا إلى جنب تطوير اللغات الأجنبية ومعارفها".

ويقول الدكتور جابر عصفور إنه كان يسمع من أساتذة كبار في بداياته بالجامعة أن الدعوة لتعريب العلوم هي دعوة أيديولوجية وأن الأيديولوجيا إذا دخلت العلم أفسدته، مضيفا: "علينا قبل التفكير في تعريب العلوم والمعارف تغيير طرق التفكير في الوسائل التي نتبعها في النظر إلى العالم وإلى أنفسنا".

ووسط هذا الجدل الثقافي المصري والعربي، فإن تأثيرات شبكة المعلومات الدولية، المعروفة بالإنترنت، على اللغة في أي دولة باتت قضية مطروحة عالميا، وقال دافيد كربستال في كتاب صدر بالانجليزية بعنوان "اللغة والإنترنت"، إنه من الواضح في السنوات الأخيرة أن الإنترنت أصبحت تهيمن على حياتنا وتغير الأشكال والصيغ التقليدية للكتابة والسرد.

ويؤكد كربستال المتخصص في علم اللغويات وصاحب مجموعة من المؤلفات في هذا المجال تربو على الـ40 كتابًا أن الإنترنت ليست مجرد ثورة تقنية بل هي ثورة اجتماعية، "واللغة قضية محورية في قلب هذه الثورة الاجتماعية للإنترنت ومن ثم فقد حان الوقت لدراسات متعمقة حولها".

وإذا كان هذا المجال البحثي الجديد يتشكل الآن في الغرب، فإن الحاجة تبدو ماسة لجهد بحثي مصري وعربي على وجه العموم حول آثار وانعكاسات الإنترنت على اللغة العربية، فيما يتعين تعميق النقاش الموضوعي حول قضايا التعريب ومن بينها التعليم الجامعي، واللغة في عصر العولمة، والتفاعل الحضاري

وقال معلقون إنه لا يجوز تجاهل حقيقة امتداد الغرب داخل المجتمع المصري وغيره من المجتمعات العربية ثقافيا وقيميا وأننا ننتج ونستهلك ما أبدعه الغرب في ثوراته العلمية والصناعية المتعاقبة وليس بمقدور أي مجتمع أن يكتفي ذاتيا في ظل الحضارة الحديثة، كما يتعين على الجميع الإسهام في تلك الحضارة التي تمثل جماع الإسهامات الكبرى للثقافات والحضارات المختلفة.

ويرى مثقف وطني راحل هو الدكتور محمد محمود الإمام أن المقصود بأن تكون الدولة حديثة هو أن تكون مواكبة لآخر التطورات في الحضارة البشرية وإن احتفظت بخصوصية الثقافة وهو ما يعنى بداهة - على حد قوله - العمل على إعادة تشكيل الثقافة السائدة لتتفق مع مساحة عريضة من المعالم الحضارية السائدة والمتوقعة للأجل المنظور.

وإذا كان بعض المعلقين ينظرون للدولة المصرية الحديثة منذ حقبة محمد علي في القرن التاسع عشر باعتبارها نتاج توازن بين اقتباس المبادئ الغربية في التنظيم والمعرفة وعدم التفريط في النواة الثقافية الوطنية التي تمثل الركائز الثقافية والحضارية الممتدة في النسيج الوطني، فإن قضية اللغة ليست بعيدة عن هذه النظرة.

وفي سياق الجدل الثقافي الراهن حول قضايا تطوير التعليم أبدى المفكر المصري الدكتور مراد وهبة تأييدا لتدريس الرياضيات والعلوم والجغرافيا باللغة العربية ابتداء من مرحلة رياض الأطفال، معتبرا أن مثل هذا الموضوع يخدم الإبداع ووحدة المعرفة.

وواقع الحال أن مثل هذه القضايا فرضت نفسها في سياقات متعددة عالميا وعلى سبيل المثال فقد بلغ اعتزاز الفرنسيين بلغتهم حد فرض حظر على استخدام أي لغات أجنبية للتدريس في الجامعات الفرنسية باستثناء أقسام اللغات أو محاضرات بعض الأساتذة الزائرين من الخارج الذين لا يتقنون اللغة الفرنسية.

ومن ثم فإن قرارا اتخذ من قبل حكومة اشتراكية في فرنسا بالاتجاه نحو تخفيف القيود المفروضة على اللغة الإنجليزية في الجامعات الفرنسية أثار موجات عاتية من الغضب وخاصة داخل الأكاديمية الفرنسية التي توصف بأنها "الحصن الحصين للغة البلاد"؛ حتى لو كانت النية معقودة على ألا تزيد نسبة التدريس بالإنجليزية في جامعات فرنسا عن 1 في المائة من مجموع ساعات الدراسة.

لكن بعض أساتذة الجامعات وبخاصة أصحاب التخصصات التقنية اعتبروا أن من المفيد استخدام الإنجليزية في جامعاتهم ومعاهدهم العليا منوهين بهيمنة هذه اللغة على كثير من الإصدارات والدوريات والكتب في التخصصات العلمية الدقيقة ومجالات التكنولوجيا، فيما أكدوا أن الإنجليزية مفيدة لطلاب مرحلة الدراسات العليا في الجامعات الفرنسية على وجه الخصوص.

كما ذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن استخدام اللغة الإنجليزية في الجامعات الفرنسية سيكون عنصر جذب للطلاب الأجانب وبما يحسن وضعية جامعات فرنسا على مضمار المنافسة مع الجامعات الأخرى في الغرب لجذب أكبر عدد ممكن من الطلاب الأجانب.

وفيما تتصل قضية اللغة وتتشابك بالهم المعرفي وتفرض نفسها على اهتمامات المثقفين على مستوى العالم، فإن الكاتب الأمريكي الألماني الأصل شارل ستاينتس توقع أن يأتي يوم تكون فيه المعرفة هي خط الدفاع الأول للأمم في عالم الجنوب.

وإذا كانت تحديات المعرفة في العصر الرقمي تفرض نفسها الآن على مصر والعالمين العربي والإسلامي وبصرف النظر عما يسميه البعض بالصراع الثقافي في المشهد المصري الراهن، فإن العديد من الطروحات أكد أن "اللغة تتطور وأن الكلمة أو العلامة لا تمضي على ثبات وديمومة واطراد".

ويقول فقهاء في هذا المجال الثقافي إن اللغة كائن حي بالغ التعقيد لا بد من البحث فيه بطريقة جديدة ومغايرة لتلك التي اعتادت عليها المناهج القديمة لعلم اللغويات، كما أن "لغة الإنترنت الجديدة ليست مجرد لغة من مفردات غريبة وإنما هي بنية تصورية وأيديولوجية مغايرة تشكل خطرا ملموسا على علاقات القوى القديمة.. فنحن لسنا إزاء تغير سطحي للغة كما يحلو للبعض تصويره".

فاللغة كائن اجتماعي حي ينمو ويتطور ويشيخ أيضا وعلى هذه التنظيرات الجديدة أن تتعامل مع الوسيط الإنترنتي بنظرة أوسع تتضافر فيها المناهج وتتعدد المقتربات من أجل فهم حقيقة المتغيرات التي تنتاب واقعنا العربي المتحول.

وكان معلقون قد اعتبروا أن المشهد الثقافي المصري الراهن يعيد إنتاج وصياغة الإشكالية الكبرى التي شغلت الفكر العربي ما بين اقتباس التنظيم العصري والحديث عن الغرب والطرق والمناهج المعرفية والأفكار التنويرية أو الانغلاق والانكفاء على الذات.

ووسط معركة ثقافية تحتدم بقوة حول قضايا تعريب العلوم، فإن هناك طروحات ثقافية أيضا تتحدث عن "الضعف اللغوي والتكوين الثقافي للقراء والمتعلمين"، على نحو يؤدي إلى الإقبال على الكتابة الرديئة أسلوبا ومضمونا واستبعاد الكتابة الأكثر عمقا وتركيبا للقلة البارزة من الكتاب على نحو يشيع لدى بعضهم الإحساس بلا جدوى الكتابة العميقة ورفيعة الأسلوب.

وأحد المنظرين الكبار في الثقافة الغربية وهو الفيلسوف الراحل ميشيل فوكو الذي يوصف بأنه من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين اعتبر أن خطاب اللغة ساحة مستمرة ومفتوحة للصراع تتبلور فيها مجموعة من الرؤى والقوى على مختلف الأصعدة الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية وتتم فيها عمليات فرز وتتضعضع أخرى.

وكان بعض أبرز المثقفين العرب مثل الكاتب والمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري قد التفتوا لأهمية الحفاظ على اللغة العربية من أجل حماية الهوية ودعوا من قبل لقرارات ملزمة على مستوى قمم عربية بشأن دعم اللغة العربية.

وقال الدكتور محمد جابر الأنصاري إن الخطر الماثل يتمثل في أن جيلا عربيا جديدا لا يحسن استخدام لغته الأم، لافتا إلى أنه إذا نظرنا إلى حدود الوطن العربي الكبير "نجد أن الحدود اللغوية هي التي تحدده في غياب أي اعتبار آخر"، وهذه الحدود اللغوية هي التي تجيب على سبب عدم انضمام قوى إقليمية مثل إيران وتركيا لهذا الوطن العربي الكبير.

ورأى الأكاديمي والشاعر اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح وهو رئيس المجمع العلمي اللغوي في اليمن أنه إذا كان هناك أكثر من أسلوب في الحفاظ على الهوية القومية وحماية مكوناتها، فإن الثقافة هي الجزء الأقوى في تحدي المخاطر "لأنها الأقدر على التسرب في ثنايا النفس إلى أن تصبح جزءا لا يتجزأ من مخزونها المعرفي والروحي والأدبي".

وغني عن البيان أن هناك علاقة وثيقة بل و"عروة وثقى" بين الثقافة واللغة بحيث تعد كل منهما حاضنة للأخرى وأن اللغة كما يقول مثقف مصري هو الدكتور سعيد إسماعيل علي، هي وسيلة الثقافة إنتاجا واستهلاكا، كما أن الثقافة تمد اللغة بما يستجد من قيم ومعارف ومهارات جديدة أو متطورة تفرض تسمية بعينها، ومن هنا فإن أي وهن ثقافي يفضي لوهن اللغة.

ويعيد هذا المثقف المصري والمتخصص في الدراسات التربوية للأذهان أن "من يقرأ للأساتذة الأوائل في مصر أمثال: طه حسين وهيكل والمازني ومشرفة وأحمد زكي ومحمد كامل حسين وزكي نجيب محمود وعبد الحليم منتصر وسليمان حزين ومن سار على دربهم، لا يخطئ حرص هذا الجيل على المتابعة المستمرة للثقافة الغربية الحديثة بلغاتها وفي الوقت نفسه إتقان استخدام مفاتيح اللغة العربية."

غير أن المشهد الثقافي الراهن حافل بتحديات جراء تراكمات سلبية وانعكاسات مؤسفة على اللغة حدت بالدكتور سعيد إسماعيل علي للقول: "إذا كان الفزع من ضعف الباحثين في اللغات الأجنبية مبررا ويمكن فهمه وتقديره إلا أن ما لا يمكن فهمه وتقديره هو التراجع المخيف والمحزن لقدرات الباحثين في معرفة أبسط أصول لغة قومهم ووطنهم".

وكان أحد الآباء الثقافيين المصريين وهو المبدع الراحل يحيى حقي قد اعتبر أنه "لا عشق للقصة والشعر إلا بعشق أهم هو عشق اللغة"، موضحا أن اللغة للكاتب هي كاللون للرسام والحجر للنحات، كما تكشف السيرة الذاتية لمبدع مصري آخر في الرواية وهو الراحل سليمان فياض عن انخراطه كخبير لغوي في مشروع تعريب لبعض برامج اللغة العربية في عالم الكمبيوتر وهو أيضا من ألف معجم الأفعال العربية المعاصرة والدليل اللغوي وأنظمة تصريف الأفعال العربية.

وإذا كان الصوم في أحد معانيه قراءة مجاهدة للذات والوجود ثم الكتابة أو الشهادة بعد هذه القراءة، فإن لتلك الثقافة مددها الفني الإبداعي في مصر التي تستقبل رمضان كل عام بالفرحة كلها وبموائد متنوعة من بينها مائدة اللغة.