مصر- العرب.. والنظام العالمي المضطرب
حققت مصر خلال السنوات الماضية زخما سياسيا واقتصاديا وأمنيا مع قوى دولية مثل أمريكا، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا، بالإضافة إلى مجموعة دول شرق آسيا وأفريقيا.. دعمته علاقات مميزة بين القيادة السياسية وقادة هذه الدول.. ثم وجه المصريون إلى العالم رسالة تأكيد على إرادتهم التى أصروا على فرضها فى 30 يونيو 2013. استعادة هذا الدور المحورى دوليا وعربيا تمت فى أجواء دولية ملبدة بغيوم عدة.. ظواهر جديدة وتقسيمات وصراعات من الصعب جدا تصور أن مصر والمنطقة العربية ستكونان بمعزل عنها.
سخونة الحرب الباردة الجديدة التى بلغت ذروتها مع تزايد الطرد المتبادل للدبلوماسيين بين أطراف هذه الحرب إلى أعداد لم يعرفها التاريخ مسبقا، إثر حادث تسميم العميل الروسى المزدوج سيرجى سكريبال وابنته فى بريطانيا الذى كان بمثابة القشة التى قصمت ظهر «بعير» مثقلا بالتراكمات. الفارق الزمنى بين الحربين يفرض اختلافا فى الأدوات والطبيعة رغم التشابه فى العنوان الرئيسى. أمريكا فشلت فى محاصرة التمدد الروسى الجارف فى منطقة الشرق الأوسط.. فى الوقت ذاته، بعد سلسلة من التدخلات العسكرية الفاشلة، تغير نهج السياسة الأمريكية إلى تبنى الحروب بالوكالة.. قادت ونسقت استراتيجية بين بعض دول الغرب، فى محاولة لتحجيم الدور الروسى المتصاعد فى النظام العالمى وإعادته داخل دائرة العزلة والانغلاق، بينما واقع الاختلاف الزمنى الشاسع وصلابة تمسك رجل المخابرات المحنك بوتين بزمام الدور الروسى، يستبعد نجاح مثل هذه المحاولات.
الحرب الجديدة لم تعد أبرز معالمها سباق التسلح أو العقائد السياسية.. إذ تصدر الشق الاقتصادى والدبلوماسى وثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الأدوار المتقدمة ضمن قائمة أسلحة هذه الحرب. حصار السرية الذى أحاط الكثير من خبايا الحرب القديمة تم اختراقه مع التطور المذهل فى وسائل كشف وتبادل المعلومات حتى أصبح فرض حصار السرية على أى معلومة أو حدث من رابع المستحيلات. اقتصاديا، تسعى أمريكا بكل وسائل الضغط إلى استنفار الكتلة الأوروبية نحو مواجهة خطر الزحف الاقتصادى المتمثل فى دول شرق آسيا والصين تحديدا. على الصعيد الأمنى جاء إعلان ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا، وهو نمط تقليدى مكرر لجأت إليه مختلف الإدارات السابقة كحل للخروج من فوضى تدخلاتها العسكرية، متسقا فى قراءته مع تشديد الضغوط على روسيا عبر ترك الملف السورى بكل أزماته المعقدة إلى الطرف الروسى.
صدور عدة إشارات ألقت بظلالها السلبية على تجانس الغرب المتمثل فى وحدة موقف دول الاتحاد الأوروبى بداية بقرار بريطانيا الخروج من المنظومة، يطرح احتمال حدوث انقسام القوى الدولية إلى كتلتين.. هنا يفرض السؤال المهم نفسه حول طبيعة دور مصر والمنطقة العربية أمام هذه الظواهر، تحديدا مع وجود تشابك بين نفوذ الكتلتين داخل مناطق الصراع فى بعض الدول العربية. على الصعيد الدولى من المنتظر أن تحصد مصر مزيدا من ثمار نشاط دبلوماسى حققت خلاله نجاحات فى إقامة قاعدة علاقات متوازنة بالتساوى مع مختلف دوائر القوى الدولية، مسار يعكس الرؤية السياسية الصائبة لقيادة الرئيس السيسى فى ظل سخونة أجواء الحرب الباردة الجديدة، بعيدا عن الاعتماد المطلق على طرف محدد، سواء اقتصاديا أو أمنيا، وهو ما منح مصر قدرا كبيرا من الاستقلالية فى القرار، والدور الذى تتبناه فى مساعيها لتهدئة أزمات الصراع فى المنطقة العربية.
على الصعيد العربى.. رغم التحديات الخطيرة التى واجهتها مصر بعد ثورة 30 يونيو، إلا أن مسار التغلب عليها مضى منطلقا بالتوازى مع خلق تكتل عربى التف حول مصر وإرادة شعبها، بالإضافة إلى حكمة مسار «الاحتواء» الذى اختاره الرئيس السيسى نهجًا للسياسة المصرية، وهو ما أتاح فرصة تشكيل تحالف جمع الدول المؤثرة فى المنطقة، وتقاربا عربيا عاما فى الرؤى على صعيد المواقف تجاه القوى الكبرى. المؤكد أن تعميق هذه «الحالة السياسية» بدلا من التشتت والتناحر الذى أضعف القرار العربى عبر عقود ماضية، سيمنح المزيد من التأثير للمبادرات العربية الساعية إلى تهدئة الصراعات داخل بعض دول المنطقة، كما يتيح للكتلة العربية الوقوف على أرضية متوازنة سياسيا عند متابعة التطورات الدولية، بما يخدم الاستفادة من هذه الظواهر لصالح المنطقة.