البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الرواية والتاريخ (1/2)


بين الرواية (والسرد عموما) والتاريخ وشائج قوية، فقد تبادلا التأثُّر والتأثير سواء أتعلَّق الأمر بالمادة المروية هنا وهناك أم بالأدوات والوسائل. فعندما باشر جرجى زيدان فى أواخر القرن التاسع عشر الميلادى كتابة سلسلة روايات تاريخ الإسلام برّر اتجاهه ذاك بقوله فى مجلة الهلال سنة ١٨٩٢ (وهى السنة نفسُها التى أنشأها فيها) إنّه لمّا رأى مطالعة التاريخ الصرف تثقل على «حضرات القراء» لجأ إلى كتابته فى قالب روائى لتحبيبه إليهم ونشْرِه فى أوساطهم فكان إقبالهم على ما خطّه مُشجِّعا له على المضى فى هذا السبيل. ولا يخفى هنا أنّ السبب (الظّاهرَ على الأقل) كان تعليميًا تربويًا خالصًا: معالجة نفور عموم المثقفين وأنصاف المثقفين وغير المختصِّين من قراءة التاريخ والتعامل مع أحداثه ووقائعه وتواريخه وشخوصه. لكن إذا كان القراء من العموم قد استحسنوا هذا الصنيع ووجدوا فيه المتعة والإثارة والتشويق خصوصًا العُقَد الغرامية بين شخوصه أو الوصف عندما يسترسل فى وصف القصور والحجرات والحدائق والأزياء والحلى والمجوهرات والأوانى ودروب الحواضر والبوادى العربية والإسلامية وبعض مظاهر الحياة فى العصر الذى تتناوله الرواية «ممّا قرأه فى كتب التاريخ أو أمدّه به خيالُه» فإنّه كان عند الخاصّة والدارسين مادّة للهجوم والانتقاد استنادًا إلى خلفية دينية لدى البعض وعلمية ولغوية صرفة لدى البعض الآخر أو كلتيهما معًا لدى آخرين.
وعلى العكس من ذلك، كان اتجاه الروائيين الأوروبيين أمثال والتر سكوت والكسندر ديماس إلى التاريخ فى الفترة ذاتها (القرن الـ١٩) بحثا عن المادّة والإثارة، فانكبوا على استغلال أحداث ووقائع تاريخ أوروبا فى العصر الوسيط أدبيًا فنيًا، ودخلوا قصور الملوك والأمراء وكاتدرائيات الكرادلة والقساوسة وأديرة الرهبان وثكنات الجند وحظائرهم ووصفوا ما يُخطَّط ويدور وراء أسوارها من مشاريع قرارات ومؤامرات ودسائس (حقيقية ومُفترضة) وبطولات وخوارق ومشاعر مختلفة وسلوكيات، كما جابوا الطُّرُقَ والمسالك والحانات والخانات، وما إلى ذلك من الفضاءات التى كان يتحركُ ضمنَها أبطالُ رواياتهم. هنا لا نستبعد تأثُّر زيدان بهؤلاء وبالرواية الأوروبية عمومًا بفعل اطلاعه على ما كان يتاح له منها لمعرفته باللغات الأوروبية: الفرنسية والإنجليزية منها على الأقلّ، واشتغاله تبعًا لذلك مترجمًا لفترة، وهى الصِّفة التى أهّلته لمرافقة الحملة العسكرية المصرية الموفَدة إلى السودان سنة ١٨٨٤ لنصرة غوردون باشا، إضافة إلى أنّ الرواية العربية ـ فى شكلها الحديث ـ كانت تقليدًا واضحًا لمثيلتها الأوروبية، بفعل ما أشرنا إليه فى أماكن أخرى من «قطيعة» بين ممارساتنا وأجناسنا الأدبية (السردية) القديمة والأنواع/الأجناس المستعارة من الأوروبيين حديثا. من ذلك تغليفه للأحداث والوقائع المروية بحكايات غرامية (مفترضة وحقيقية) يُكثِر فيها من المعاناة والصُّدف ويلعب فيها الخيال دورًا كبيرًا يحجب ما قد يكون فى بعضها من حقيقة وواقع.
قبل أن نسترسِل فى حديثنا نشير إلى أن هناك فرقا جوهريا بين المؤرِّخ الفعلى والروائي. فالأول محكوم بقواعد وإكراهات الكتابة التاريخية أمّا الروائى فمحكوم بأدبية النوع التى توفِّر له هامشًا من الحرية يمكِّنه من التصرُّف بالمعلومة التاريخية كيفما شاء وبحسب غرضه من كتابة نصِّه. فهناك مثلا من يسعى إلى مراجعة (وتصحيح؟) وتفسير أو توضيح وقائع فى فترة بعينها أو التذكير بها، وهناك من يريد قراءةَ الحاضر على ضوء حادثة ماضية، وهناك من يبغى ملء فراغات تاريخية يعتقد وجودَها، وهناك من يلتفت إلى ما يُهمله التاريخُ من جزئيات وهوامش...إلخ، بالالتفات إلى أحداث ثانوية أو شخصيات من الصفِّ الثاني. لهذا كلِّه لا يمكن أن تكون الرواية فى معظم ـ إن لم نقُلْ فى مطلق ـ حالاتها وثيقة تاريخية يمكن الركون إليها أو الاطمئنان إلى ما يرِدُ فيها دون العودة إلى المصادر التاريخية المُكرَّسة، برغم ما يبذله الروائيون من جهود فى الاطلاع والتوثيق وجمع المعلومات بهدف إيهام القراء بحقيقية وواقعية ما يَرْوون، وبرغم تأثُّر القرّاء بما يقرأون فيُثيرون ما يثيرون من زوابع وتداعيات. الأمثلة كثيرة ومتعدِّدة فى أدبنا العربى وفى الآداب الأجنبية (من ذلك مثلا رواية شفرة دافنشى لدان براون وما أثارته بخصوص حياة السيد المسيح عليه السلام وصدْم ما تواتَرَ فى أذهان الناس: المسيحيين منهم خصوصًا عنها وإعادة النَّظر فى كثير من جزئياتها، وما تبِع ذلك من ردود ومناقشات) هنا تضيق الحدود ـ وقد تنعدم أصلا ـ عند الروائيين بين ما رأيناه من قصْدٍ عند زيدان والروائيين الأوروبيين لظروف وأسباب عديدة ذاتية وموضوعية. على أن الهدفَ النهائى هو فى كلّ الحالات صُنْع وعى ما، وهو ما سنتطرَّق إليه فى الفقرات الموالية.