البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

المولد النبوي.. معين لا ينضب للمدد الثقافي

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

مع نفحات مباركة وساعات يستعد فيها المصريون وكل العالم الإسلامي للاحتفال بالذكرى العطرة لمولد الحبيب المصطفى فان المولد النبوي الشريف معين لا ينضب للمدد الثقافي وجديد الكتب والأطروحات.

وتتوالى الطروحات والتأملات والنظرات الثقافية في الحدث الجليل والذكرى المباركة لمولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما تبقى الثقافة المحمدية "زاد مصر المؤمنة" وهي ثقافة الوسطية الإسلامية بقدر ما تشكل الترياق لعلل التطرف وشرور الإرهاب الظلامي التكفيري.

ورسالة السماء التي انزلها الحق في علاه على خاتم الأنبياء هي بوسطيتها حاضرة في الحياة اليومية لملايين وملايين المصريين الذين يحبون نبيهم "الصادق الأمين وأسوتهم الحسنة" ويستدعون مواقفه وأحاديثه في كثير من مواقف حياتهم اليومية.

ولم يكن من الغريب أن تكون الذكرى العطرة لمولد المصطفى نبع الهام لكثير من المبدعين والمفكرين في العالم ومن بينهم في مصر أمير الشعراء أحمد شوقي صاحب قصيدة "ولد الهدى فالكائنات ضياء" ناهيك عن المفكر العملاق عباس محمود العقاد وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين فضلا عن آباء ثقافيين مثل الدكتور محمد حسين هيكل وعبد الحميد جودة السحار.

والرسالة المحمدية التي نستدعيها دوما في أوقات التحديات القاسية والأيام الصعبة والساعات العصيبة هي ثقافة تفكير لا تكفير بقدر ما تحض على الاجتهاد الإنساني وإعمار الكون وتحث العقل على أهمية فهم المتغيرات وتغيير الواقع نحو الأفضل وتشجع المبادرة والتجديد دون تفريط في الثوابت.

وفي كتاب صدر بعنوان:"محمد رسول الله: منهج ورسالة-بحث وتحقيق" يقول المؤلف وهو الدكتور محمد الصادق عميد كلية أصول الدين الأسبق بجامعة الأزهر إن "العلم هو العنوان الأول في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم" حيث بدأت الرسالة المحمدية بكلمة السماء في الذكر الحكيم بأول واعظم عنوان للعلم والمعرفة وبصيغة الأمر المطلق:"اقرأ".

ويوضح الكتاب أن بدء الرسالة المحمدية بطلب القراءة "اعظم شهادة على مكانة العلم فيها" فيما تتحقق المعجزة القرآنية ويبلغ المشهد الخالد ذروة الإعجاز بتوجيه الأمر الإلهي للنبي الحبيب الذي كان أميا لا يعرف القراءة ولا خط بيمينه كتابا.

و"اشراق الوجود البشري كان ميلادا لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب في مهد امه السيدة آمنة واشراق الوجود النبوي ببدء الوحي كان ميلادا لمحمد رسول الله وخاتم النبيين صلوات الله عليه" فيما يضيف الدكتور محمد الصادق عرجون ان "خلوة غار حراء كانت إعدادا لميلاد رسالته" فسيدنا محمد اتخذ من الغار مختلى له "لمناجاة مبدع الكون وخالق الوجود وتمكينا لأنوار النبوة من قلبه بالتأمل في مظاهر ملكوت الله".

وصاحب الرسالة الخالدة والخاتمة لرسالات السماء ونبي الرحمة " ثكل أباه قبل ان يتشرف الوجود بطلعته وكان هذا الثكل جرحا في قلب جده عبد المطلب ليستقبل حفيده الذي ملأ فراغ قلبه من مكان ابيه بالحب والبهجة واغتبط بميلاده شاكرا وسماه محمدا" أما النبوة فهي " الحقيقة الالهية الكبرى في ميلاد جديد للنبي" موضحا انه "ميلاد روحاني" ومولد رسالة عامة خالدة اختار الله تعالى رسولها بعلمه وحكمته وأفاض عليه من خواص غيبه في أخلاقه وخلائقه ما تعجز الأقلام والألسن عن الإحاطة بشييء من فضله.

ويمضي عميد كلية أصول الدين الأسبق بجامعة الأزهر في كتابه منوها بأن الرسول الكريم كان إنسانا يتبادل مع الناس مطالب الحياة التي تقتضيها طبيعة البشر "في دائرة افضل الكمالات التي يمكن أن يكون عليها انسان في حياته مع الناس والأشياء".

والحبيب المصطفى الذي أرسله الله رحمة للعالمين " لم يقع منه ما يغمط حق العقل الانساني في إدراكاته ومعارفه وراح ينشر بين الناس رحمة الله ويربط بينهم بأواصر الإخاء والمحبة والتعاطف والمودة فيما يقول الدكتور محمد الصادق في هذا الكتاب:"ميلاد الرسالة المحمدية كان ميلادا للحياة".

وإذا كانت إشكاليات مواجهة الفكر المتطرف والمجافي للوسطية الإسلامية كما تجلت في رسالة الحبيب المصطفى للعالمين ليست وليدة اليوم فلعلنا بحاجة لقراءة جديدة في تراث مضيء لأعلام الدعاة وكوكبة من علماء الأزهر الشريف وفي طليعتهم الإمام الدكتور عبد الحليم محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي والامام جاد الحق علي جاد الحق والدكتور احمد حسن الباقوري.

وإذ يطالب الكثير من المثقفين المصريين "بتحديث الخطاب الديني وإعلاء قيم التنوير والاجتهاد الحر" متفقون على أننا بحاجة إلى "ثورة فكرية لمواجهة الإرهاب الذي يبدأ بدوره من الأفكار" فإن جمهرة المثقفين يدركون أيضا أن الأزهر الشريف بمقدوره القيام بتلك المهمة اتساقا مع دوره العظيم كمنارة إيمانية لها مكانة سامية في قلوب المصريين وعلى مستوى العالم الإسلامي ككل.

وقد يقع جانب كبير من تلك المهمة على عاتق وسائل الإعلام بإعادة نشر هذا التراث العزيز وشروح تلك الكوكبة المضيئة من العلماء والمفكرين والآباء الثقافيين ورموز الوسطية من دعاة استوعبوا رسالة خاتم الأنبياء والرحمة المهداة لكل البشر وكان بمقدورهم التعامل مع اعقد القضايا الفكرية والانتصار لصحيح الإسلام وجوهر رسالة الحبيب المصطفى.

ومشروع كهذا هو في الواقع مشروع اعلامي-ثقافي يخدم القاعدة العريضة من الجماهير في مصر والعالم العربي بقدر ما يكشف شطط وانحراف جماعات التطرف وتنظيمات الإرهاب التي تتخفى وراء شعارات دينية فيما تروع الأمة بممارساتها الباغية وتخدم أعداءها وأجندات قوى الشر الرامية لمزيد من تمزيق العالم العربي والإسلامي.

والأمر في مرحلة حافلة بالتحديات الجسام لا يمكن ان ينحصر في قنوات ووسائط متخصصة في بث مواد التراث وإنما يتوجب اتساع نطاقه ليشمل القنوات العامة للوصول لأكبر عدد ممكن من المتلقين وهم في الواقع ينتظرون مثل تلك البرامج ويتفاعلون معها بإيجابية مثلما كان الحال في البرامج التلفزيونية التي يظهر فيها إمام الدعاة الراحل فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي بقدرة فذة على التواصل فيما يتحدث للجماهير بلغة ومفردات تجمع ما بين عبقرية اللغة وفتوحات الإلهام والحب المخلص للرسالة المحمدية الخالدة.

وكأحد علماء الأزهر الشريف يوضح الدكتور محمد الصادق في كتابه ان الرسالة المحمدية تتناقض كل التناقض مع جهالة البلادة العقلية وفساد التفكير وتفكك الروابط الإنسانية وسفك الدماء فيما اقتضت الرسالة في عمومها "معرفة علم وخبرة" للأمم كافة في أرجاء الأرض.

ورسالة المصطفى-كما يوضح الكتاب- جاءت لتثير في عقول الناس حركة متحفزة لتبدل الجمود الفكري ثورة عقلية تنهض بالعقول والأفكار إلى آفاق الكشف عن أسرار الكون وما أودعه الله فيه من عبر وآيات وأسرار.

ويقول مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام:"ما أحوجنا في هذه الآونة الحرجة من أن نقتدي ونتأسى به صلى الله عليه وسلم في اخلاقه العظيمة وسنته السنية وسيرته الشريفة من خلال الالتزام بتعاليم هذا الدين القويم قولا وفعلا وسلوكا".

والمعجزة الحاضرة ابدا للحبيب المصطفى هي معجزة ثقافية بامتياز كما تتجلى في القرآن الكريم وهو "الكتاب" الذي انزل من لدن الحق في عليائه على الرسول الكريم ويبدأ بكلمة "اقرأ" فيما كان تمام المعجزة وكمالها أن يكون النبي أميا لدحض أي تخرصات حتى يوم الدين.

فكفانا شرفا ان يكون الكتاب الذي انزل على نبينا هو من قال فيه رب العزة:" أو لم يكفهم أنا انزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم أن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون".

وكفى مصر مجدا أن يذكرها القرآن الكريم في عدة مواضع وان يكرمها الحبيب المصطفى بقوله لأصحابه الكرام:"ستفتحون مصر إن شاء الله فأحسنوا الى اهلها واستوصوا بقبطها خيرا فان لهم ذمة ورحما وصهرا" وهو القائل وما أروع قوله:"اذا فتح الله عليكم مصر من بعدي فاتخذوا منها جندا كثيفا فهم خير أجناد الأرض وهم في رباط إلى يوم القيامة".

إذ حذرنا الحبيب المصطفى من يوم يوشك ان تداعى فيه الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها فانه ترك لنا ثقافة محمدية مضادة للوهن وإهدار الإمكانية بقدر ما تشكل هذه الثقافة جوهر القوة الشاملة وإمكانية متجددة لبناء افضل منظومة ثقافية للقيم والأخلاق.

كانت الثقافة المحمدية الصافية النقية والحاضرة في نفوس رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه هي القادرة على الحاق الهزيمة بقوتين عظميين قامتا على ظلم وعدوان واستعباد للبشر فكان انتصارها في لحظة تاريخية وضيئة مضيئة انعتاقا للإنسانية كلها وحرية لكل البشر وإعلاء لكرامة الإنسان.

ولئن كانت طغمة الشر قد وجدت في حفنة من المتاجرين بالشعارات الدينية وصحاب الأطماع السلطوية ممن يتخفون وراء الأقنعة المتأسلمة خير حليف في تقسيم الأوطان وهدم الدول العربية والاسلامية فان التمسك بالإسلام المحمدي والعروة الوثقى لسيدنا رسول الله لابد وان يجهض مخططات الشر ويهزم من يسعون لذبح المسلمين وتقسيم أوطانهم.

وكيف للذبح وقطع الرؤوس والأعناق ان يكون غاية مسلم ورسالة حبيبنا ونبينا ورسولنا وتاج رؤوسنا هي رسالة الرحمة للوجود كله بكل موجوداته وتجلياته وكائناته ؟!..وهكذا حق لمثقفين مصريين أن يتحدثوا عن ظاهرة غريبة ومريبة مثل ما يسمى "بتنظيم داعش" وان يقول الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة:"ولم يكن غريبا ان تستدعي داعش كل التاريخ الدموي في الذاكرة العربية والإسلامية ابتداء بتاريخ الخوارج" فيما رأى أن هناك ترتيبات تجرى في الخفاء منذ سنوات لإشعال الفتن.

وثمة طروحات لمثقفين مصريين توضح أن الحرب على الإرهاب تثير الكثير من القضايا الفكرية والثقافية والحضارية التي تتجاوز جوانبها الأمنية فيما تدرج تلك القضايا تدرج إجمالا تحت عنوان"التنوير والنهضة".

وفي مواجهة القتلة وأعداء الحياة وعناصر الإرهاب التكفيري الظلامي العميل لقوى الشر فان مصر لن تنحني إلا لخالق الكون..أنها أرض الكنانة المحبة لنبي الرحمة وأصحابه الكرام ولن تترجل عن تعاليم خاتم الأنبياء وحبيب خالق الأرض والسماء..نعم قبل ساعات معدودة من الذكرى العطرة لمولد الرسول الكريم نستعيد سنا النور ونتابع الخطى نحو نبع لا ينضب.