البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

اختبار الإنسانية «2»


إذا أراد شخص ما أن يتأكد من إنسانيته فليختبر نفسه اختبارًا بسيطًا، فيتخيل أنه أمام حادثى غرق فى البحر المتوسط مثلًا، راح ضحيتهما أناس لا يعرفهم وليسوا من بلده، أولهما لقارب يحمل على متنه عددًا من اللاجئين كانوا فى طريقهم إلى إحدى الدول الأوروبية فرارًا من الحرب والدمار القائم فى بلادهم، وثانيهما لسفينة تحمل على متنها عددا من السياح الأوروبيين، خرجوا للسياحة والتنزه بصورة قانونية. وليُقيّم الشخص حزنه عند سماع خبر غرق هؤلاء جميعًا، وليسأل نفسه هل حزنت على كلا الحادثين، أم على أحدهما فقط دون الآخر؟ فإذا كانت الإجابة أنه حزن على كليهما بنفس الدرجة فليطمئن على إنسانيته، وليعلم أنه لا يزال إنسانًا، أما إذا حزن على واحد دون الآخر فيجب عليه الوقوف مع نفسه، وإعادة تأديبها وتهذيبها واسترداد إنسانيتها التى افتقدها دون أن يشعر. قد نعذر السورى فى حزنه أكثر على غرق اللاجئين، وقد نعذر الأوروبى لحزنه الأكثر على الأوروبيين. أما الأجانب الآخرون الذين لا ينتسبون إلى كلا الصنفين ومع ذلك يحزنون على موت فئة دون الأخرى فهم المحتاجون إلى وقفة مع النفس، وإعادة معالجة لقلوبهم التى أصابتها القسوة. 
لا ننكر أن الحب والكره والحزن والفرح من الأمور المتعلقة بالقلوب، ومحلها جميعًا القلوب، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، ولا يستطيع أحد أن يعاتب أحدًا على حب أو كره أو حزن أو فرح، لأن الشخص نفسه لا يستطيع منع نفسه عن أى من هؤلاء، غير أن المعاتبة يمكن أن تكون على عدم احترام شعور الآخرين، بأن يُعاتب الشخص مثلًا على إظهاره الفرح أمام شخص حزين، وغيرها من الأمور المشابهة. لذلك قد نعذر السورى فى حزنه أكثر على غرق اللاجئين، وقد نعذر الأوروبى لحزنه الأكثر على الأوروبيين. أما الأجانب الآخرون الذين لا ينتسبون إلى كلا الصنفين ومع ذلك يحزنون على موت فئة دون الأخرى فهم المحتاجون إلى وقفة مع النفس، وإعادة معالجة لقلوبهم التى أصابتها القسوة، وهذا العلاج يكون غالبًا عن طريق الذكر والاستغفار والتعبد وتذكر الموت وغيرها من الأمور المعروفة.
ومما يؤسف له أن الإجراءات الحكومية فى معظم دول العالم أيضًا فى مثل هذه الحوادث تساهم فى انتزاع إنسانية شعوبها عن طريق الكيل بمكيالين فى حوادث الموت والغرق وضحايا الإرهاب، فعندما لا قدر الله يقع حادث غرق أو أى حادث آخر لبعض مواطنى دولة من الدول القوية أو التى ليس بها صراعات، تقوم الحكومات الأخرى بإجراءات محمودة وواجبة، فتعرب عن حزنها لوقوع الحادث، وتعلن الحداد، وترسل برقيات التعازى إلى الدولة التى تعرض بعض مواطنيها للحادث، وتتناول وسائل الإعلام المختلفة الحادث بالبحث والتحليل، ويرتدى لاعبو كرة القدم فى الملاعب الشارات السوداء ويقفون دقيقة حدادا على الضحايا، ويشيع مناخ الحزن بين الجميع. وبهذه الإجراءات يجد المواطنون أنفسهم قد تأثروا بهذا الحادث وقد طبع فى أذهانهم، وإذا لا قدر الله وقع حادث مشابه بعد ذلك تحيا فى أذهانهم على الفور الحادث السابق، وبذلك نجد أنفسنا أمام دول نعرف تقريبًا جميع ما حل بأهلها وشعبها من كوارث بالرغم من قلتها، هذه الدول هى الدول القوية والمستقرة سياسيًا واجتماعيًا، والقوية عسكريًا واقتصاديًا.
نفس هذه الحكومات عندما تسمع عن حادث غرق أو قتل أو أى كارثة حلت بشعب من شعوب الدول الضعيفة غير المستقرة سياسيًا والتى بها صراعات مستمرة، لا تقوم بنفس الإجراءات التى اتخذتها قبل ذلك مع الكوارث التى حلت بالدول القوية المستقرة، إنما تُذكر الحادثة أو الكارثة التى وقعت على مواطنى أى دولة ضعيفة بها صراع كخبر ضمن نشرة الأخبار، ويتحول الموتى إلى مجرد رقم يُضاف إلى الأرقام السابقة التى تتنافس الصحف والمحطات الإخبارية فى دقتها، وتتباهى بإحصائياتها، فلا نرى حزنًا إلا عند القليل، ولا نرى حدادًا على الإطلاق، ولا نرى شارات سوداء فى ملاعب كرة القدم، بل ربما يكون أحد اللاعبين من مواطنى الدولة الفقيرة التى وقعت على شعبها أو على عدد منه الحادثة المؤلمة ولا يستطيع هذا اللاعب أن يرتدى الشارة السوداء التى ارتداها من قبل على كارثة حلت بمواطنى دولة أخرى. فهل الحزن لا يكون إلا على الأقوياء؟ وهل نحن فى حاجة دائمة إلى من يُذكرنا بإنسانيتنا؟ وهل إنسانيتنا ضعيفة قد تفقد نفسها داخل عالم مادى لا يُعير المعنويات أى اهتمام؟ نعم إن القلب والروح يحتاجان دائمًا إلى غذاء يُحييهما ويوقظهما ويجعلهما دائمًا فى حالة انتباه، وإن الإنسانية فى حاجة دائمة إلى الاختبار.