البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

إبداعات "البوابة نيوز".. ما تقره الأوراق "قصة"

البوابة نيوز

بالأمس اختلفت مع زميلتى التى تتناوب معى نبطشية المساء، ولا أعلم لماذا تُحمّل الأمور أكبر مما تستحق، فهى لم يرق لها ما أخبرته للمريض الذى كنت أُشرف على حالته الصحية، فقد كان المريض فى أيامه الأخيرة، ولا أمل من شفائه، وما تبقى له من أيام، لن يستطيع أن يعدها على أصابع يده الواحدة، فلم أجد فائدة من إخفاء هذا الأمر عليه، وأخبرته بما أعلم، لكى يستعد لترتيب خاتمة تليق بنهاية رحلته الأرضية، فيسدد دينًا عليه إن وُجد، أو يصل رحمًا إن قطعه، يهاتف صديقًا إن ابتعد عنه، ويستغفر ربًا إن كان يؤمن بأنه ذاهب إليه، أرى أن هذا الرجل محظوظ للغاية؛ لأنه يعلم متى ستنتهى حياته، ولن يتفاجأ وهو يشاهد عرضًا مسرحيًا أو يتناول وجبة فطوره بأن حياته قد انتهت، وأن عليه أن يتوقف دون سابق إنذار عن كل ما يفعله، فلديه فرصة ذهبية ليصلح قليلًا من حياته أو يفعل شيئا يذكر الناس به حينما يرحل، ولكن يبدو أنه لم ير ذلك حينما أخبرته بقرب أجله، فقد تبدل وجهه، وذهب شحوب المرض عنه، ليحل بدلا منه شحوب الموت، يبدو أنه لم يحب ما أخبرته به، ولم يكتشف مثلى أنها فرصته الذهبية، وكذلك كان الحال بالنسبة لزميلتى التى حاولت أن تُصلح الأمر مع الرجل بعد فوات الأوان، فقد غادر وهو ميت فوق موتته، ولم أسلم من لسان زميلتى التى تؤمن بالأمل، الأمل الذى يجب أن نعطيه نحن ملائكة الله على أرضه لمرضانا، الأمل فى غد أفضل، الأمل فى علاج شافٍ لكل العذاب الذى يلاقيه أمثال ذلك الرجل، الأمل فى معجزة إلهية_ تُلقى بكل تلك الأوراق اللعينة التى تنبئ بموت الرجل_ وتعيد إليه هبة الحياة واليوم الممتد، لم أر وجاهة فيما قالته زميلتي، فلا فائدة من الكذب على المريض، ولا فائدة من إعطائه أملًا زائفًا، فاحتد النقاش بيننا، حتى إننى غادرت مكتبى منفعلًا، وتركت لها المكان لتضخ فيه آمالها فى أوردة المرضى المتبقين كما يحلو لها.
ركبت سيارتى وانطلقت بها، وكلمات زميلتى تتردد فى ذهني، الأمل، الأمل، الأمل، الأمل...
إلى ما لا نهاية والأمل يلون أفكاري، هل كان ما فعلته صوابًا أم أننى سببت الألم لرجل مريض بعدما نزعت منه الأمل، شعرت أننى قد ارتكبت خطأ كبيرًا حينما بدلت حرفىّ الكلمة، وحينما رأيتُ ما ارتسم على ملامح الرجل المريض وقتها أثر كلماتي.
استوقفنى طفل يبيع الحلوى فى إحدى إشارات المرور وعرض علىّ أن أشترى منه شيئًا يحبه كل من فى مثل سنه أكثر ممن هم فى مثل سنى، وجدت نفسى أسأله: ماذا تتمنى يا صغيرى؟
أشار إلى لافتة معلقة فى الطريق لفيلم كارتونى حديث الإصدار، يُعرض حاليًا فى صالات العرض وأخبرنى بأنه يتمنى أن يشاهد هذا الفيلم..
طلبت منه أن يأتى معى لكى أحقق له أمنيته الصغيرة للغاية، والتى لا تخطر على بال رجل مثلى مثقل بهموم مرضاه التى لا تنضب، ولكن الصبى خشى أن يأتى معى ويترك عمله البسيط خوفًا من ألا يجنى ربحه اليومى المعتاد، أخرجت من جيبى ورقة من فئة الخمسين جنيهًا وأعطيتها له، ولكنه رفض أن يأخذها منى قائلًا إنه ما اعتاد أن يأخذ نقودًا من زبون دون أن يعطيه بثمنها حلوى من التى يبيعها، فما كان منى إلا وأخذت منه ما يحمله لعله يأتى معي، وفى النهاية كان الصبى بجوارى متحمسًا للغاية لمشاهدة الفيلم الذى طالما تمنى رؤيته، وحينما جلسنا سويًا لنشاهد الفيلم قال لي: «أنت لا تعلم مقدار سعادتى اليوم؛ لأنك ستسمح لى بأن أشاهد الفيلم الذى طالما تمنيته، لقد كنت أنزل العمل كل يوم على أمل أن أتمكن من ادخار ثمن تذكرة السينما قبل أن ينتهى عرض الفيلم، ولم أكن أعلم أن رجلا طيبا مثلك سيحقق لى مبتغاى بمثل تلك السرعة، شكرًا لك كثيرًا سيدى».
هذا الصبى لا يعلم حتى الآن أنه علمنى درسًا من أهم دروس الحياة، لم ينجح والداى فى تعليمه لي، ولا كتب الطب التى أفنيت فيها أوقاتي، هذا الصبى علمنى كيف يتحقق الأمل دون أن نكون على علم كاف بكيفية حدوث المعجزة التى تُحقق لنا ما نتمناه أو نسعى إليه، يكفينا أن نأمل ليتحقق ما نحلم به، ومنذ ذلك اليوم توقفت عن إخبار مرضاى بما تُقره الأوراق مثلما كنت أفعل من قبل..