البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

السلم الموسيقي المصري من الفرعون أوزوريس إلى مغني الأتوبيس

البوابة نيوز

المحب لوطنه والعاشق لتاريخه والمتنسم لعبق الكنانة يدرك أن هناك مراحل انحدار طويلة مرت بها مصر لتسقط من قمة الجبل إلى سفحه.
وهذا ليس تجنيا على جيل ولا على مطرب ولا على زمن بعينه بل على أذن تغيرت مسامعها وباتت تستورد حتى اللحن بدلا من أن تصدره.
مصر التي حبات ثراها أنشودة وحفيف أشجارها مقطوعة موسيقية بات من أبنائها من يسرق الألحان الغربية، لكن ما يخفف الوطأة أن المندفعين بعيدا عن التراث معظمهم من أبناء الحضر لم يسمعوا عدودة صعيدية ولا ارتجال عمال الترحيلة ولا زقزقة فتيات القطن.. لم يفطنوا إلا أن الله خص المصريين بأول آلة موسيقية في البشرية وهي الحنجرة.. كما خصهم بذائقة الاستماع والتذوق فطبيعة مصر الخلابة وشريان الحياة الذي يجري فيها منذ بدء الخليقة جعل منها مجمعا للسحر والفن.. في هذا التقرير نرصد لكم دركات الانزلاق على السلم الموسيقي من أوزوريس إلى مغني الأتوبيس.

الموسيقى الفرعونية
وحتى لا نتغول في البداية ويتوه منا الصغار دعونا نبدأ من لدن «أوزوريس» الذي قالت عنه واحدة من الأساطير الثابتة أنه كان يهوى الفنون ومن بينها الموسيقى والشعر والرقص، ويشيع حوله جو من المرح والابتهاج عادةً، ومن الأساطير الشائعة حوله أن كان يُحوّط نفسه بتسعة عذراوات كُل واحدة منهُن بارعة في لون من الفنون المتعلقة بالموسيقى فيما يشبه «الجوقة» أو «الأوركسترا».. تطول حكايات الآلات الموسيقية المصرية ومنها أيضا على سبيل المثال آلات النفخ المصرية القديمة، من الآباء الأوائل الفراعنة، الذين عرفوا النفير أول الأمر لأغراض عسكرية تنبيهيّة، فيما يشبه البوق الذي يستخدم في استدعاء الجنود أو أفراد الشعب في ظروف المناسبات الرسمية والمهمة، وصولًا للأحفاد الذين عرفوا صنوفًا متعددة من فصائل الناي الشجيّ لا يخلو منها أي تخت شرقيّ.

ومن الفراعنة إلى أفلاطون
ذلك الفيلسوف اليوناني الذي قيل عنه أنه بعد إقامته في مصر 13 عاما أوصى الآباء على تعليم أبنائهم الموسيقى المصرية، وهناك من التصريحات لأساتذة التاريخ تؤكد على أن المصريين القدماء هم من وضعوا السلم الموسيقى، الذي بدأوه بخمس طبقات، واختتموه بسبعة، ووصلوا للتون والنصف تون، كما عرفوا ملحن الموسيقى والموزع بجانب المغنى، ووضعوا كل الأدوات الموسيقية التي نعرفها في عصرنا الحديث، ومنها العود والناى، وتؤكد الأسطورة أن اختراع الناى جاء بسبب سعى شاب مصرى قديم للتعبير عن حبه لأميرة، بالعزف الموسيقى بالنفخ على البوص ليعبر عن أشواقه وهيامه.

ترتيل المزامير
بحلول المسيحية في أرض مصر زاد ترتيل مزامير داوود في الكنائس بدرجة كبيرة والتي استخدمت لشفاء الكثير من الأمراض النفسية والعصبية والعضوية، واشتهر خلال القرن 3 م في مصر القديس «أبو طربو» والذي كان يرتل مزامير داوود وأجزاء كثيرة من الكتاب المقدس مستعينًا بالموسيقى وذلك بجوار المرضى المصابين بالصرع فكانوا يشفون منها لذلك سُميت صلاة شفاء الصرع باسم "صلاة أبو طربو"، كما استخدمت طريقة ترتيل المزامير للمرضى داخل الكنائس والأديرة في مختلف مناطق مصر والتي كان المسيح والعذراء قد إلتجأوا إليها أثناء رحلتهم المقدسة في مصر، وبنيت عليها أماكن للعبادة ذلك في مواقيت محددة سنوية عُرفت باسم " الموالد القبطية "، وخلالها كان القسس يقومون بالصلاة والترتيل بمصاحبة الموسيقى لعلاج المرضى، خاصة الأمراض النفسية والعصبية أو الأمراض العضوية المستعصية.

النهضة الموسيقية
حاول محمد على باشا التخلص من الخمول العثماني، بإحداث نهضة شملت كل الألوان بما فيها الموسيقى وشهد المستوى الشعبي تألقا وبات المطربون نجوم إحياء حفلات الملوك والأمراء وانتشر ما يسمى بالتخت والصيتة.

الخديوي إسماعيل يأمر ببناء دار الأوبرا
بمناسبة افتتاح قناة السويس أمر الخديوي إسماعيل ببناء دار الأوبرا المصرية ووكل الموسيقار الإيطالى العظيم فردي بتأليف أوبرا عايدة ودعى إلى حفل الافتتاح ملوك وأمراء أوروبا.
اهتم المصريون بالموسيقى وجاء إليها النازحون من الشام والعالم العربي وأتراك، وارتقت موسيقى القصر بألحان مصرية سورية وتركية وبدأ الموسيقيون يتبعون النهضة في البلاد وحسنت منزلتهم الاجتماعية.
واحتضنت عائلات من أقارب الخديوي موسيقيا يحبونه ويقوم لهم بالأمسيات والحفلات بمصاحبة تخت صغير وبطانة يغنون الطقاطيق.
وأبدع في تلك الأيام عدد من الموسيقيين والمغنيين المصريين، مثل عبده الحامولي إلى أن وصلت شهرته إلى الخديوي الذي دعاه إلى القصر، وكان يحي الأمسيات الغنائية بالبلاط، حتى أن كان يرسله الخديوي أحيانا إلى تركيا ليغني أمام السلطان عبدالحميد الثاني كما ظهر في وسطهم المؤذن والمنشد سلامة حجازي أول من حاول ربط الإنشاد بالمسرح في عهد النهضة فكان يغني الأدوار بين الفترات المسرحية، في ذلك الوقت ظهرت سلطانة الطرب منيرة المهدية 1885- 1965 أول سيدة تقف على خشبة المسرح.

الملحنون الجدد وشعراء العاطفية
بدخول الراديو مصر التقى مؤلفي القصيدة الشعرية مثل أمير الشعراء أحمد شوقي، ومؤلفي الأغنية العاطفية باللغة القاهرية أحمد رامي وبيرم التونسي والتقائهم بالموسيقيين والملحنين في ذلك العهد. وازدهرت القصيدة الشعرية والزجلية بجانب الأغنية التي بدأت تتخذ اتجاه التعبير عن المشاعر، واجتهد الملحنون أن يكون اللحن صورة متمشية مع الكلمات. وازدهرت الأغنية العاطفية التي كانت باللغة الفصحى أحيانا أو باللغة القاهرية، وأحيانا تكون الأغنية منتظمة اللحن متتبعة لقالب معين أو تخرج عن القوالب المعهودة. وجدد الملحنون الجدد الألحان بحيث تعطي المطرب أو المطربة حرية في التعبير الغنائي، وقل اشتراك البطانة أو المجموعة التي تكرر وتجيب المطرب. وبدأ ملحنو الأغنية مثل زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي يطورون الأغنية إلى الأغنية المطولة كانت محبوبة من الجماهير، وكانت تقدم في حفلات عامة يحضرها جمهور كبير.
وكانت كلمات أحمد رامي وبيرم التونسي، الزجالان الموهوبان رائعة، تغنيها أم كلثوم عن الحب وعذابة، قلبك، نارك، بعدك، هواك، رضاك من المشاعر المطلقة عن العاطفة وشكوى المحب من الحبيب ومعاناته في حبه، واستحالة القدرة على النسيان، وهي كلمات تعبر عن مشاعر كل إنسان، فكانت الأغنية تنطق بما يجول في خاطر كل امرئ، عذاب الفراق، الأيام الحلوة، المعاناة والنسيان المستحال.
ومن عمالقة الأغنية المطولة رياض السنباطي فكان لكل مقطع في الأغنية لحن جديد تتقدمه التقاسيم على آلة منفردة مثل القانون والعود، ثم تتبعه الاوركسترا. وكان اجتماع كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي وغناء أم كلثوم من روائع الموسيقى المصرية الحديثة، سعد بها الجمهور داخل مصر وخارجها.
في عام 1964 لحن محمد عبد الوهاب لأم كلثوم أغنية "أنت عمري" التي كانت بمثابة اجتماع القمتين في مجال الموسيقى والغناء، وتبعها ولحن لها ستة أغاني حتي عام 1973، كما لحن لأم كلثوم الموسيقار محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي.

آخر عناقيد الزمن الجميل
كان الشجرة لا تزال تثمر ولو كان النتاج قليلا لكنه كان مشبعا من الكلمات إذ ظهر الأبنودي وسيد حجاب ونجم أو الطرب، حيث كان هناك عبدالحليم ومحرم فؤاد ومحمد فوزي وليلى مراد ونجاة وهدى سلطان وكارم محمود والكحلاوي ومن الألحان الطويل وبكر والموجي الصغير وبليغ وعمار.

السنوات العجاف
تحول الفن في العقود الثلاثة الماضية إلى حالات فردية، فلا أحد ينكر أن على الساحة أصوات لا تقل جمالا عن سابقيها لكن شيئا ما أفقد الموسيقى المصرية هويتها.. وحول الرتم المصري إلى عشوائي.. حول الأمر إلى تجارة والأمر إلى سلعة فوضع هاني شاكر والحجار أصالة وثروت والحلو وغيرهم من أصاحب الطرب في بروزا واحد مع الغوغائيين فمسخوا المعنى والقيمة وضيعوا الترنيمة وأصابوا الأذن بالصمم فعزف الناس عن الاستماع والاستمتاع.. وحان وقت العودة إلى موسيقى الزمن الجميل.