البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

العالم العربي بين الحُكم والمُلك


من بعيد حين ترنو إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط، شرقًا لا تملك سوى الحيرة والترقب والقلق، والأسئلة التى تترى من دون إجابات، أىٌّ عالم هذا الذى، امتلك كل تلك الحضارات الكبرى فى تاريخ العالم القديم، واخترع العجلة وابتكر الكتابة والنقوش ورسم على الطين وأنتج الأهرامات والزقورات، والصروح والجنائن وعجائب الدنيا، وأدوات الزراعة والرى، وكان محجًا للحضارات والثقافات والإبداعات، وكان موطن الأنبياء والفلاسفة والحكماء، والنظم، والفقه، والتدين وسعة الأفكار، وخزين اللغات وتواشجها واشتقاقاتها، وسلسلة لا تنقطع من خزائن المعرفة، يوم كانت بلدان العالم الأخرى فى الضفة الأخرى تغط فى وحشيتها وبربريتها وتخلفها، كانت أهرامات مصر وزقورات العراق وفنارات الشام، تشع على العالم وتوقظ فيه الأمل للنمو والتعلم وتطويع البيئات لتُسكن وينتقل الإنسان من الصيد للرعى والتوطن ويبدأ ببناء الحواضر، دون شك كانت رحلة مضنية، طويلة وقاسية، للبشرية حتى أنسنتها، فقد بدأت فى عالمنا الذى سمّوه الشرق الأوسط الممتد بين آسيا وإفريقيا، لكن هذا العالم الآخر الجاحد تناسى كل معطيات حضارة العالم القديم، وأخذ ينهش فى مكوناته وينهب آثاره وثرواته ويفقر شعوبه، ويتآمر عليه دون هوادة، بعد أن بلع عالمنا الطعم فى استجاباته لإغواءات الآخر المستعمر، وانتهكت حرماته بلا رحمة وعوضًا عن أن يستمد من خبراته وتجاربه الطويلة الحلول راح وأسلم مصيره بيد خصومه الأعداء، الذين وجدوا فى منجزاته ما يسيل لها لعاب للاستحواذ والانتقام من تجربته بدوافع ومسوغات غير مبررة وكثيرة وانتقامية والغائية، بل صار تحدٍيا لوجودنا، بفرض نفسه نظامًا بديلًا لوجودنا وحضارتنا العريقة. 
الثابت أننا نهضنا من المرحلة الاستعمارية، وسيطرة الحضارات اللصيقة، ووقفنا كالمارد، الجريح، واختزلنا أزمانًا من النمو والتنمية، يبدو أنها أرعبت وهيّجت أعداءنا وخصومنا التاريخيين على حد سواء، حتى أعدوا لنا هجمة أشرس من الحروب الكبيرة فى تاريخنا، لكنها هذه المرة مختلفة تمامًا، لقد وُظفت فيها قوى محلية، وطبقت نظريات ثلاث: الأولى هز ولاءات المجتمعات وإثارة المكونات، والثانية تخريب منظومة القيم العميقة والراسخة فى بنيتنا، والثالثة توظيف المبتكرات والتقنيات الحديثة لتخريب العقول والنفوس والمعتقدات، والإلهاء عن رؤية المصالح الملحة للمجتمعات. 
وبهذا الثالوث تسعى بعض القوى العظمى والإقليمية الرديفة لها النفاد إلينا والسيطرة الطوعية على بعض مكوناتنا وإشاعة الاحتراب، وانتزاع الملك والسلطان منا كأمة تسعى إلى النهوض، لوقفه وتحطيم إرادة الولادة الجديدة، والذى يحزن أكثر من سواه أن مكونات بعينها من شعبنا العربى بلعت طعم التجنيس والتشرذم، وتحولت إلى كانتونات تتقوى على الآخر، أى آخر شريكها فى الوطن، أصيبت بعدوى اللبننة التى هى حروب بالنيابة، لقوى محلية وإقليمية برعاية دولية، للأسف هذا الأنموذج السلبى نجح فى اختراق عقل وروح مكونات تتعايش عبر قرون فى مجتمعنا المتنوع، الذى تجمعه مشتركات ولا تفرقه مسميات قومية أو دينية أو طائفية أو إثنية، للتاريخ الطويل فى بوتقة انصهار وحدته، وألغت كونه خليطًا إلى أن يكون نسيجًا اجتماعيًا موحّدًا جامعًا غير مفرق. 
وإذا كان تأجيل الأزمة لا يعنى حلها، فلا بد من إدراك أن الآخر المتربص يستغل وقوفنا عاجزين عن حسم مسألة الإدارة والحكم والشراكة الواسعة فى إدارة دولنا هى أول المنافذ التى يثيرها خصومنا ويحرضون قطاعات من شعوبنا، كذلك الثروة وتوزيعها، والمواطنة وحقوقها، كذا القانون وسيادته الذى ينبغى أن يكون الفيصل بين الناس، مع مراعاة فصل السلطات واستقلالها، لكى تنهض الدولة وتتمكن من تقديم الحلول لشعوبها، والأهم من كل ذلك رفع مستوى العلم وإنتاجية المجتمع، كى لا يكون عبئًا على الحكومات التى تتولى قيادة المجتمعات، ولا بد من المكاشفة الحقيقية للمجتمع وتشكيلاته وتنظيماته الوطنية عن الإمكانات والقدرات، كى يسهم فى تطويرها واستنهاضها، والأهم رفع مناسيب الوطنية لدى قطاعات يراد إشغالها وإغراقها فى أزمة السلطة والحكم. 
هذا وغيره يحث القوى الوطنية أن تنسى خلافاتها أو تأجيلها، لحين حلها والتفرغ لمجابهة أزمة المجتمعات العربية الآخذة فى التفاقم والارتداد كل يوم، وتحولت من معادلة متوالية عددية لتكون متوالية هندسية تنذر بعواقب الانقسام فى بلدان كثيرة، إذا ما تمادت تلك القوى والمكونات فى إثارة حروبها الإنهاكية.