البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

يفتح الطريق أمام مهن جديدة

الذكاء الاصطناعي.. نعمة في العالم ونقمة بـ"مصر"

شعار شركة كريم واوبر
شعار شركة كريم واوبر

أوبر وكريم استفادا من التقنية الرقمية.. والبيروقراطية المصرية فشلت
عدم الابتكار والمركزية وغياب الشفافية أسباب فشل الدولة في الاستفادة من التكنولوجيا الجديدة
ظلت قضية الذكاء الاصطناعى موضوعا لاهتمام كثير من المهتمين بعالم التكنولوجيا والأعمال، بل ويتخطى الأمر مداه فيكون موضوعا لدراسات فلسفية واقتصادية، ولأعمال فنية وروائية وسينمائية، وتتردد ذات الأسئلة الملحة بشأن الأثر المحتمل لها، والإمكانيات التى يتيحها، والمآزق التى سيخلقها. كيف يستطيع الذكاء الصناعى حل المشكلات الحالة التى يواجهها البشر فى الراهن، ومن الذين سوف يتضررون من وجوده، كذلك كيف يمكن أن تطرح الأسئلة الأخلاقية، بشأن أخلاقيته، وتبعاتها، وآثارها، ما أخلاق الكيانات الذكية، سواء أكانت مكونات خفيفة كالبرامج، أو صلبة كالروبوت والسيارات بدون سائق.. هل يمثل هذا التقدم الهائل فى دراسات الذكاء الاصطناعى فائدة للبشرية بحق؟ أم أن المسألة لا تعدو فقاعة استعراضية لنبلاء الفضاء الإلكترونى الجدد، وكيف لقاطنى وأبناء العالم الثالث أن يفيدوا من هذه التقنيات الجديدة؟
وفى الواقع أننا نجد أشكالا عديدة للذكاء الاصطناعى ممثلة فى أشكال لينة مثل التطبيقات والبرامج الإلكترونية، وأشكال صلبة مثل الإنسان الآلى والسيارات دون سائق والساعات الذكية، وغيرها من الأدوات، ويطلق عليها جميعا اصطلاح «وكلاء الذكاء الاصطناعى»، وهى فى الواقع تحل تدريجيا محل العمال والموظفين، وتقوم بالوظائف التى كانت تعتبر فيما سبق وظائف لا يطالها التقدم التكنولوجى، وظائف يصعب الاستغناء عن البشر فيها، مثل فهرسة الصور، وترجمة الوثائق، وتفسير الأشعة السينية، واستخراج معلومات جديدة من مجموعة ضخمة من البيانات، وبقدر ما تلغى هذه التقنيات وظائف قديمة فإنها ستحتاج موظفين من نوع جديد، كالوسطاء الجدد، الذين يديرون العمل عن بعد أو من يتولون مراجعة الترجمات الآلية، لجعلها أكثر دقة ومصداقية، باختصار إن الآثار لا تتصل بأعمال بعينها لكنها توسع الطريق أمام مهن قادمة، وتحيل إلى التقاعد عمالا وموظفين لم يعد هناك حاجة لدورهم.
بالطبع ليس الأمر بهذا السوء الذى تفترضه بعض الأدبيات من آثار قاسية يفرضها دخول الرقمنة والذكاء الاصطناعى لحياتنا، فالواقع هناك ميزات عديدة، فمثلما عهدنا فى الماضى من أن دخول آلات جديدة يؤدى بالضرورة إلى انتهاء عهد مهن مستقرة، فتحديث الانتقال بظهور السيارات مثلا قد أدى بالضرورة إلى الاختفاء التدريجى لوسائل المواصلات التقليدية، وظهور المترو قد أدى بالضرورة إلى التراجع الملحوظ لأهمية وسائل نقل أخرى، كما أن من الفوائد الملحوظة للذكاء الاصطناعى هو قدرته على تقديم المنتجات الثقافية بوجه خاص على نحو أسرع، مما مضى بكثير، فيما مضى كانت عملية الكتابة بحد ذاتها والنشر تستغرق وقتا هائلا، الآن تغير الحال تماما، وأصبح الأمر أكثر سرعة، ولكنها تعتمد على قدرات الأفراد وحسن استعمالهم للآلة، إن حسن الاستعمال مسألة مهمة وبخاصة بالنسبة لواقع بيروقراطى بطيء ورديء كالذى نعيشه فى بلادنا، ما دام الموظفون كانوا غير أكفاء فى استعمال الآلة، ولا توجد بيئة عمل متناسبة مع التقدم التكنولوجى، بيئة عمل محمية بلوائح إدارية صارمة تحول دون الاستعمال غير السليم للآلة.
ولعل تجربتنا الحالية فى إدخال الرقمنة تشهد على ذلك، فعلى الرغم من دخول الحاسب الآلى للجهاز البيروقراطى المصرى، إلا أن ذلك لم يسهم بالضرورة فى تسريع العمل، والتلبية الفورية لاحتياجات المواطنين، فالقيم التى تحملها الآلة الجديدة مغايرة تماما للقيم السائدة فى الجهاز البيروقراطى، فقيم المبادرة والابتكار وسرعة الإنجاز والدقة المتناهية والشفافية والتلبية الفورية، والإتقان، هى قيم مغايرة تماما لما يجرى فى القطاع البيروقراطى، حيث تسود قيم عدم الابتكار خوفا من الخطأ، والاعتماد على المركزية، والبطء المتناهى فى الإنجاز، وعدم الشفافية، وعجز الجمهور عن الوصول لوسيلة ناجعة للشكوى والاحتجاج.
إن الفوائد المتحصلة يمكن التأكيد عليها بالنظر إلى الترجمة الآلية التى أصبحت شديدة التقدم، وبالذات بالترجمة بين اللغات اللاتينية، وظهور برامج جديدة للترجمة، تساعد المترجمين والجمهور فى التفاعل عبر شبكات الاتصال الاجتماعى، أو مطالعة أحدث الصحف الإلكترونية الصادرة فى بلدان العالم، أو مشاهدة أحدث الفيديوهات من خلال النصوص الملحقة المترجمة إلى عدة لغات، تتفاوت قيمتها بحسب انتماء اللغة المترجم إليها إلى اللغات اللاتينية من عدمه.
ثمة آمال كبيرة معقودة عليها، حيث يمكن لها أن تيسر التواصل الفعال بين جنسيات متنوعة، ويمكن أن يؤدى ذلك لمزيد من التفاعل الخلاق فى جميع جوانب الحياة المعاصرة، منها التبادل الاقتصادى بين صغار المنتجين والموزعين، والتبادل الثقافى بين المفكرين والمبدعين المتباعدين. إن لهذه التقنية فوائد عظيمة، خاصة إذا لبت الطلب على المعرفة دون أن يؤدى وجودها لخلق صراعات أوسع نتيجة الاختلاف، ودون استثمار هذه التقنية فيما يدعم مزيدا من التواصل الشعبى العابر للحدود، بما يقضى على القوى المتسلطة من فرض هيمنتها، يصبح لهذه التقنية آثار قاسية على قيمة التسامح والتبادل الحر للأفكار، وبطبيعة الحال، فإن التأثير الثقافى والسياسى للترجمة الرقمية أوسع بكثير من مجرد تداول المعارف المستحدثة بالنسبة للمتخصصين والخبراء، فالجمهور العام يمكنه التأكد من مصداقية المعلومات التى تقدمه له حكوماته المحلية، ومقارنة ما يحصل عليه من معلومات وما يوجد فى العالم المحيط به، ومقارنة التجارب المحلية بنظيرتها العالمية، مقارنة تتصل بالحياة اليومية، مقارنة للدخول، وسبل الإنفاق، والأذواق والجماليات، وطرق التواصل الجمعى، وآليات الترقى الاجتماعى، وإلى غير ذلك من مجالات الحياة. 
والواقع أن الدعاية التى تقدم حول الذكاء الاصطناعى هى صورة من صور الدعاية الرائجة للسلع الحديثة، لا يعدو الأمر أكثر من دعاية يراد من ورائها تفريغ المجال أمام السلع الرقمية الجديدة، ولأضرب مثلين يبينان لنا أن الأمر لا يعدو كونه محاولة دءوبة تشبه التبشير بعالم شديدة المغايرة لما نعيشه، المثل الأول هو مثل برنامج ألفا جو، المصمم لممارسة لعبة تسمى جو، هذا البرنامج استطاع هزيمة شخص يعتبر من أعلى المصنفين المحترفين الممارسين للعبة المذكورة، وذلك بالفوز ببطولة تتألف من خمس مباريات بنتيجة أربعة إلى واحد، وهو ما حديث من قبل عندما قام الكمبيوتر ديب بلو بهزيمة بطل العالم للشطرنج جارى كاسباروف، فى المقابل نجد نموذجا نقيضا، برنامج تايلور المصمم للرد على الرسائل المرسلة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين ١٨ و٢٤ عاما، ويمرون بتجربة فاشلة مؤلمة ويبحثون عن حلول لها، كان من المفترض أن يقوم الكمبيوتر بالتعلم من الرسائل التى يتلقاها ويعمل تدريجيا على تحسين قدراته على إجراء محادثات ممتعة، ولكن تايلور تعلم من الناس أفكارا عنصرية وضد المرأة، وعندما بدأ فى التحدث بعبارات إيجابية عن هتلر، قررت شركة مايكروسوفت إنهاء دوره.
ان واحدة من الأمور الملفتة ما تتسبب فيه التقنية الرقمية من فرض الهيمنة لشركات لم يكن لها وجود، وتغيير خارطة السوق وعمله، والأمثلة على ذلك كثيرة، فنموذج الأعمال الرقمى يجعل بعض الشركات أسرع وأكثر فاعلية من غيرها، فى البداية تقترض هذه الشركات أموالا كثيرة من أجل أعمال التأسيس، وتعرض خدماتها بأسعار مخفضة، ثم بالتدريج تتوسع أعمالها بدون منافسة حتى ترسخ نفسها وتحتكر السوق، وتتحكم فى الأسعار كما يحلو لها، هذا ما فعلته بالضبط شركة أمازون، ففى البداية عملت على مدى واسع مكنها ذلك من تخزين المنتجات التى لم يتم طلبها، وعبر وكلائها عبر العالم استطاعت توصيل الخدمة بأقل تكلفة نقل، بل وتستطيع تسليم المنتجات بسرعة ومجانا، وهو ما لم تستطع القيام به الشركات الصغيرة، ومع الوقت استطاعت السيطرة.
وينسحب التحليل على حالة أوبر وكريم فى سوق النقل المصرى، فالشركتان دخلتا السوق، واستطاعتا استعمال التقنية الرقمية عبر بعض التطبيقات الجديدة، ومن خلالها استطاعت أن تجذب عددا كبيرا من الزبائن، وأن تمد شبكة عملها فى القاهرة والجيزة، وأن تخفض سعر الخدمة، وأن تقدم الخدمة بأفضل صيغة وأكثر أمانا بالنسبة للفئات التى تقلق من استخدام الخدمة، ولكن الشركتين لم تكتفيا بذلك، بل تسعيا لضم أعضاء جدد من السائقين لشبكتها الواسعة، وهو ما يضمن سيطرتهما الكاملة فى المستقبل على السوق، وتحكمهما فيها.