البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

"السيد البدوي" من الميلاد إلى الضريح.. في كتاب جديد

البوابة نيوز

"شيخ العرب.. العَطَّاب.. السيد.. القطب.. الفقير" إنه أحمد البدوي أكثر الأولياء شهرة في القطر المصري والعالم العربي، الذي أصبحت بفضله قرية (طندتا) الهاجعة في زوايا النسيان، واحدة من أكبر مدن القطر المصري وعاصمة لإقليم الغربية.
طنطا أو "طندتا".. لا يقال اسمها إلا ويتبادر إلى الذهن اسم "السيد البدوي"، ولا عجب فهو بلا منازع رئيس جمهورية الأولياء الذين لا تخلو منهم قرية مصرية، وهو صاحب المقام الشهير الذي يفد إليه الجموع بالآلاف وفي جوانح كل منهم رجاء حار وأمنية يلتمس تحقيقها من الله.
في كتابه "السيد البدوي صاحب البركات والكرامات"، يقدم الكاتب عبد المنعم قنديل، وقائع وتاريخ وحياة السيد البدوي، بطريقة عصرية خالية من الأساطير التي اعتاد الريفيون البسطاء، وأبناء المناطق الشعبية إضفاءها عليه؛ فالرجل أقام طريقته على الكتاب والسنة وهما معًا يؤيدان العقل وينَفِّران المسلم من تقديس البشر وتصديق المحالات والضياع في بحور الوهم. 
والكاتب يرفض بدايةً ما يقع حول الضريح من أمور ينكرها الشرع مثل "الطواف حول المقصورة وتقبيلها، ومناجاة السيد أن يدفع الظلم عن المظلوم، وأن يفرج كرب المهموم، ويشفي ذوي الأمراض المزمنة، أو أن يرد طفلًا غائبا، ويعيد الشمل لأسرة مفككة".. إلى آخر ما في جعبة الزوار من شكاوى وتظلمات.
ويجيب "قنديل" عن سؤالٍ طرحه على نفسه وهو: "لماذا كان أحمد البدوي أوسع الأولياء شهرة وألصقهم بوجدان الجماهير؟ وعلى أي دعائم قامت شهرته الممتدة على مر الزمان؟". 
وتأتي الإجابة: "إننا حين نستعرض سير الأولياء نجدهم يشتركون في خُلَّةٍ واحدة، هي الاجتهاد في العبادة، بالإضافة إلى الزهد والقناعة والمجاهدة والمكابدة، لكن بعضهم لا يكتفي بانطلاقاته الروحية ومواجيده وأشواقه إلى الله، وانما يجمع حوله المريدين الذين يحملون أمانة الدعوة ومسؤلية انتشارها ويكونون، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فهم يضطلعون بمهمة جليلة هي انتشال الغافلين من غفلتهم، وتوجيههم إلى الاغتراف من نور الهداية، حتى إذا ما انتقل إلى جوار ربه كان هؤلاء المريدون امتدادًا له وصلة موصولة للأمانة التي أداها وهكذا كان البدوي عالمًا عاملًا ومربيًا للمريدين ومعلمًا إياهم طريقته فذاع صيته وارتبطت به الجماهير لأنه لم يكتف بعلمه لنفسه.
ويخبرنا "قنديل" أن السيد البدوي قرشي النسب، تنتهي سلسلة آبائه عند الإمام "علي بن أبي طالب"، وهو كذلك مغاربي الأصل نزح آباؤه من مكة حين استولى عليها "الحجاج بن يوسف الثقفي" والي بني أمية والذراع اليمنى لخليفتهم "عبدالملك بن مروان" وقد غزا الحرم الشريف، ثم ضرب الكعبة بالمنجنيق حين احتمى بها الصحابي الثائر "عبد الله بن الزبير" سنة 73هـ، وهنا قرر أجداد السيد البدوي أن يتركوا أرض الحرمين ليستقروا أخيرًا بمدينة "فاس" إحدى أهم الحواضر المغربية.
وفيها عاشوا بأمان بعيدًا عن أهوال السياسة مؤثرين للسلامة وكانوا يحنون إلى مكة، ويتمنون العودة إليها غير أن المكث في المغرب الأقصى طال بهم الى مايزيد عن 500 عام! وكانوا في ذلك شأن كل أهل البيت الذين خرجوا من الجزيرة العربية بعد أن ضيق بنو أمية الخناق عليهم تحديدًا وعلى كل من ساند "عبد الله بن الزبير" في ثورته العارمة على دولة الملك العضوض.
والد السيد البدوي هو "الشريف علي" رُزق بثمانية أولاد، وقيل سبعة فقط، وكان يعلمهم بنفسه أصول الدين ويحفظهم القرآن، وكان من عادته، أن يوقظ أبنائه فجرًا ليؤدوا الصلاة ثم يتلون كتاب الله حتى مطلع الشمس.
وأجمع المؤرخون، أن السيد البدوي، ولد في مدينة فاس بمكان يقال له "زقاق الحجر" سنة 596هـ، وكان أصغر إخوته وعرف عنه الذكاء والنجابة ونقاء الذهن وسرعة الفهم مع الذاكرة القوية فلم يجد صعوبةً في تعلم القراءة والكتابة.
وفي سنة 603هـ، قررت أسرته العودة الى الحجاز موطن الآباء الأولين، واستغرقت الرحلة أربع سنوات مروا خلالها على بلادٍ كثيرة كانوا يقيمون في بعضها للراحة من السفر الذي كانت وسائله بدائية في ذلك الوقت كما نعلم، ومن هذه البلاد "القاهرة" التي أقام فيها السيد البدوي طفلًا مع والده وسكن "القرافة" وتعرف على طباع المصريين وعاداتهم وكأنما يؤهله القدر للتعامل معهم فيما بعد، ثم عادت الرحلة لتأخذ طريقها الى مكة ولا يزال ماشاهده البدوي فيها ذو أثر على وعيه وتكوينه ونحت شخصيته.
وفي مكة، بدأ "البدوي" يتمرن على ركوب الخيل، والرماية، وأتم حفظ القرآن كاملًا، ثم تفقه على مذهب الشافعي، وقد عرف عنه الصمت الرهيب فكان لايتكلم إلا لضرورة قصوى، كأن يرد التحية مثلا! وكان عازفًا عن الطعام إلا ما يتقوت به، وما أكثر ماكان ينظر إلى السماء ولم يكُ يُعنى باللهو مع أقرانه وإنما عُرفت عنه نزعة روحية، باكرة وميل، واضح إلى الزهد، والتأمل وهذا ما لمسه فيه الشيخ "عبد الجليل النيسابوري" فألبسه خرقة الصوفية في وقت لم يزد عمره عن ست سنوات وزوده تعاليمهم ولقنه مبادئهم.
ويخبرنا "قنديل" أن "البدوي" بعد وقوفه على السيرة وعلومها كان يكثر من التشبه والاقتداء بالنبي الاكرم عليه الصلاة والسلام في "التحنث بالغار"، فكان البدوي يذهب إلى جبل "أبي قبيس" في مكة ويتعبد في إحدى مغاراته.
وترجع تسميته بــــ"العطاب" إلى حبه للفروسية التي أجادها وبرع فيها حتى قيل عنه: "فتى الفتيان"، وقيل عنه" "شقيقه الحسن بن علي"، لم يكُن في المدينة ومكة، من هو أشجع ولا أفرس من أخي محمد فسميته "العطاب مهارش الحرب"، وقد أفاده حبه للفروسية في قتال الصليبين، كما هو المعروف من سيرته فانطلق مع أتباعه في مصر يحاربهم بيده ويجالدهم بسيفه، وكان مثالًا للشجاعة والاخلاص والطاقة النادرة؛ لم يستمرئ العزلة أو يركن إلى السلبية بدعوى أنه ولي الله بل ترك خلوته، وقد أنكر الكاتب ما نُسِب إليه في هذه المعركة من خزعبلات يرفضها الاسلام وينفر منها أصحاب العقول فالنصر ليس بالكرامة ولكن بالصبر والتكتيك والإيمان الصادق وحب الموت في سبيل الله.
ولم تغب الأحزان عن حياة "البدوي" ففي سنة 627هـ مات والده، ودفن في مقبره "باب المعلاة"، وبعده بسنوات أربع مات أخوه محمد، وهكذا حتى لم يبق من الأسرة غير السيد وشقيقه حسن.
و"السيد البدوي" لم يعرف النساء في حياته ومات، وهو أعزب ولا عقب، له فخلفه على الطريقة تلميذه الوفي السيد "عبد العال الفيشاوي"، وكانت المرة الوحيدة التي احتكت فيها به إحدى السيدات هي واقعته مع "فاطمة بنت بري".
وقال "قنديل" فيها؛ كان "البدوي" يرى في منامه أرواح الأولياء، يحدثهم ويحدثوه، وقد طلبو منه أن يفد إليهم للزيارة ومعه بقية الصالحين والأولياء الذين تحفل بهم أرض الرافدين، وتكررت الرؤية وتكرر المطلب فعرض السيد الأمر على شقيقه "الحسن" فوافق على الرحلة معه إلى العراق.
بدأت الرحلة، سنة 634هـ، وكان "البدوي" وقتها في الثامنة والثلاثين من عمره، وفيها زار مقامات "الإمام موسى الكاظم" و"الشيخ عبد القادر الجيلاني"، و"الحسين بن منصور الحلاج"، وفي "وادي قوسنان" زار ضريح الشيخ "ابو الوفاء" وقضى فيه ليلة ذاكرة، وحين هبت نسائم السحر مُخضَلَّةً بقطرات الندى أخذته غفوة قصيرة رأى فيها "الشيخ الرفاعي" يطلب منه السفر الى "أم عبيدة" وهي مقر أتباعه وطريقته وكانت فيها امرأة ذات جمال باهر وأنوثة طاغية، وكل من أدعى الزهد وانتحل التصوف وزعم أنه من الصالحين تقوم بإغوائه وتدعوه إليها ليصبح زانيًا بعد أن كان وليا.
وأوضح "الرفاعي للبدوي" خطورة هذه المرأة غير أنه بشره بهزيمته إياها وتوبتها على يديه؛ فذهب "البدوي" وما كاد يجلس إليها حتى زايلتها الرغبة في الرجال وأخذ وقاره بمجامعها، وإذا هي في يديه طفلةٌ بريئة لا تملك من أمرها شيئًا، وفي نبراتٍ خاضعة طلبت منه أن يتزوجها لكن "البدوي" الذي وهب نفسه لخالقه، يرفض ذلك وأُسقط في يد المرأة، فأعلنت توبتها، وما كاد الخبر يسري في القرية حتى أصيب أهلها بالعجب وأقبلوا على "البدوي" مهنئين.
بعد ذلك، سافر "البدوي" إلى شمال أرض العراق لزيارة مقام "عدي بن مسافر الهكار" وبها ختم جولته في بلاد الرافدين، والتي استمرت سنةً كاملة، عاد بعدها إلى مكة مزودًا بطاقة روحية كبيرة، ورصيدٍ عالٍ من سمو القلب وصفاء الوجدان.
وكان "السيد البدوي" يطمح إلى تكوين دولة من العابدين، وأصحاب المقامات والأحوال، وحاملي مشعل الدعوة، وبينا هو كذلك إذ جائه الهاتف بالمنام يأمره بالذهاب إلى مصر، والإقامة في (طندتا) لأنه سيربي فيها رجالًا، فعزم فورًا على الرحيل وكان متاعه من الدنيا عباءةً حمراء يلبسها اقتداءً برسول الله وعمامة بنفس اللون، الذي أصبح رمزًا لطريقته مع لثامين لم يكن ينزعهما حتى لقبه الناس بــ"الملثم".
وقد سكن على سطح دار لتاجرٍ يسمى "ابن شحيط"، ولم يكن يبرحه حتى عرفه الناس أيضًا بــ"السطوحي"، وكان في عزلة دائمة، وصمت مطبق، وربما أطلق صرخاتٍ مدوية لما قد يشعر به من وجدٍ صوفي، ويمضي ثلاثة أيام بلا زادٍ ولا ماء، ولما عمت شهرته وذاع أمره كصاحب حال أقبل عليه أربعون صالحًا يطلبون منه الرعاية والصحبة والعلم اللدني؛ فعلمهم "السيد" أن يكون صمتهم فكرًا ونطقهم ذكرًا ونظرهم عبرة، وأن يتخذ كل منهم حرفةً يأكل بها من عمل يده لأن العرق يطهر الجسد من الخطايا تمامًا كما يطهره الوضوء، وهنا بدأت الأحمدية تعرف طريقها إلى عالم التصوف وأصبح للبدوي أتباعًا بالآلاف وبعضهم من كبار علماء الشريعة أمثال "ابن دقيق العيد"، وكان في زمانه "شيخ الاسلام ومفتي الأنام" وقد ذهب لمناظرته وافحامه فعاد مولعًا به راغبًا في ملازمته والأخذ على يديه إلى درجةٍ تخلى فيها عن منصبه كرئيسٍ للقضاة حتى يلحق بركب المريدين.
وقد تفرعت الأحمدية إلى طرق عدة أهمها "البيومية، الشناوية، السطوحية، الانبابية، أولاد نوح، المرازقة، والزاهدية".
عاش السيد 79 عامًا، لم يحضر خلالها مولدًا، بحسب ما ذكره كاتب عبد المنعم قنديل، ولم يعرف ما يألفه ويعتاده متصوفه اليوم من حضور الاحتفالات، وأكل "الفته" والمهرجانات الصاخبة، وقتل العمر دون فائدة، ولم يكن بالأساس يترك خلوته، إلا لصلاة الجمعة والجماعة، إلى أن مات في يوم المولد النبوي سنة 675هـ.
ولم يفكر خليفته "عبد العال"، في إقامة مولدٍ له غير أن مريديه كانوا يقصدون ضريحه للزيارة في ذكرى وفاته، وعلى مر السنين تحولت الزيارة إلى حفلٍ سنوي ما زال يكبر حتى أصبح نكبةً على الصوفية وتشويهًا للسيد البدوي ومسيرته.
واختتم عبد المنعم قنديل كتابه، بالقول: "إن السيد البدوي بات يمثل أسطورةً شعبية، ليس من المرجح اختفاؤها، طالما ظل هناك من يعتقد في تصرف الأموات، فيغدو إليهم لشفاء المرضى، وزوال النقم، وكسب القضايا، والربح في التجارة، وقضاء الحاجات".
وتابع "قنديل"، التوسل بالأولياء أمرٌ مباح، طالما ترسخ لدينا الإيمان بقدرة الله وحده؛ لكن ترشيده مطلبٌ أكيد حتى لا يصبح وثنيةً، والأفضل مع كل ذلك أن نتجه إلى الله مباشرةً وأن يكون شفيعنا لديه أعمالنا الصالحة فهو الذي أمرنا بالدعاء ثم وعدنا بالإجابة ولم يجعل واسطة بينه وبين عباده.
وأتم "قنديل" حديثه: "السيد البدوي الآن لا يملك لنفسه نفعًا، فكيف ينفع زائريه؟، غاية ما هنالك أن سيرته تخبرنا عن رجل صدق ما عاهد الله عليه، ولم يأبه إلى غير ذلك فقانون التصوف أن "الملتفت لا يصل".. وحالنا مع الأولياء حالٌ وسط أو هكذا يجب أن يكون فلا تقديس ولا ترخيص، فالسلام على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى حفيده السيد البدوي والسلام لنا جميعًا.