صالون الأهرام الثقافي.. الثقافة ورغيف الخبز
استقبلت مؤسسة الأهرام العام الجديد مع إطلاق مبادرة إيجابية هى صالون الأهرام الثقافى، الفكرة فى حد ذاتها إسهام أو محاولة إعادة بعث الروح إلى قيمة الثقافة، رغم العدد الهائل من الكتب والمطبوعات الصحفية، إلاّ أن الفترة الحالية تعتبر أكثر مراحل تراجع الثقافة وابتعادها عن دائرة الاهتمام العام، خلف هذه الحالة من الفتور عدة أسباب أطاحت بالنمط الكلاسيكى لمفهوم ومصادر الثقافة.
الصورة التقليدية التى ربطت الأفكار والمعلومات بالقراءة والكتب توارت لصالح مصادر معلوماتية جديدة نتيجة ثورة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تحول العالم بعدها إلى قرية صغيرة، يبقى أدق تشبيه لعالم الإنترنت هو سوق كونى لا حدود له تُعرض فيه كل البضائع، من أعلى حتى أدنى مستوى، وعلى الباحث تقع مسئولية التأكد من صلاحية «البضاعة» التى يختارها، أحد أهم أسباب تراجع الوعى الثقافى اعتماد شريحة كبيرة على أخذ الفكرة بشكل مطلق من الإنترنت دون مراجعة المصدر والمصداقية، أيضا بعد أعوام على التحول الكبير الذى طرأ على مصادر الثقافة، كان لا بد من تأثرها بأجواء الاضطراب والتحولات الصادمة التى غيرت الكثير من ملامح ثقافة العالم خلال الأعوام الماضية، ثوابت فى العقائد الثقافية للغرب أصبحت تتعرض لمراجعات، على رأسها عقيدة قبول «الآخر» المختلف دينيا أو ثقافيا، خصوصا مع بعض الانتصارات التى حققتها مؤخرا على الصعيد الدولى القوى الداعية إلى التمسك بالقومية الخاصة لكل بلد على حساب مبدأ التسامح ودمج «الآخر» فى مجتمعاتهم.
الواقع الثقافى العربى لا يمكن عزله عن المتغيرات التى بدأت مع ثورة الياسمين فى تونس نهاية عام ٢٠١٠، لعل أبرز تداعيات الأحداث المتلاحقة التى تلتها فى المنطقة أنها نقلت الانخراط السياسى من آخر قائمة اهتمامات المواطن البسيط لتتصدر أولوياته مع رغيف الخبز، فى مقابل تراجع باقى الاهتمامات الأخرى ومنها الثقافة، الإشكالية المهمة التى تحقق لصالون الأهرام الثقافى دورا مؤثرا أكثر تعبيرا عن الواقع هى تبنى خطوات جادة من شأنها اختراق الحاجز بين الثقافة والمثقف والنخبة بصفة عامة من جهة، والمواطن البسيط من جهة أخرى، إذ بلغ تباعد المسافة بين الطرفين إلى انقطاع سبل التواصل تقريبا، بعدما كان الشارع العربى يردد أشعار أبوفراس الحمدانى وعمر الخيام مع صوت أم كلثوم، فى كسر واضح للوهم الزائف عن اقتصار الثقافة بمختلف مجالاتها على فئة نخبوية محددة، ما أضر كثيرا بكل الأطراف، النموذج الذى قدمه رئيس جامعة القاهرة د. جابر نصار ونجاحه خلال فترة زمنية وجيزة فى إعادة جسور التواصل بين الثقافة وشباب الجامعة، ليس فقط عبر قرار إلغاء خانة الديانة من أوراق كافة المتعاملين مع الجامعة، لكن من خلال إحياء الدور الثقافى والفنى بعد غيابه سنين عن مبان الجامعة، والتوسع فى تنظيم أنشطة الندوات واللقاءات والفنون ليعيد الجامعة إلى مكانتها الأصلية صرح للعلم والثقافة، بعدما ظلت أذرع الظلام تُدنِس ساحاتها وقاعاتها سنين طويلة.
فى ظل عجز وزارة الثقافة عن تبنى أى صيغة تفاعل بين المثقفين العرب، بحكم أن القاهرة تاريخيا تعتبر المكان الطبيعى لمثل هذه المبادرات، ظهرت فكرة صالون الأهرام الثقافى إلى النور كنتيجة طبيعية بعد عدة مبادرات رعتها مؤسسة الأهرام، أبرزها استضافة ملتقى ثقافى مصري-لبنانى ضم نخبة من مثقفى البلدين، وملتقى آخر مصري-أردنى برئاسة الأمير حسن بن طلال، تضمن عدة لقاءات وندوات بين مثقفى هذه الدول، التوترات التى تظهر على السطح أحيانا بين الدول العربية، تضاعف بالتأكيد من مسئولية دور النخب الثقافية وتدفعها إلى المزيد من السعى نحو تكثيف التواصل بينها لمخاطبة الرأى العام وتحقيق صيغ تقارب تساهم فى تهدئة أجواء التوتر السياسي، لم تلتقط وزارة الثقافة للأسف أهمية هذا الدور الذى يربط النخبة الثقافية بواقع الشارع العربى واهتماماته، وتطرح مبادرات من أجل تقريب الفجوة فى إطار دورها الثقافى، خصوصا أن مثل هذه المبادرات تلقى ترحيبا كبيرا لدى النخب العربية الواعية.
اقتران الثقافة والفكر ببناء الإنسان، وتحول المعنى إلى واقع ملموس فى الشارع المصرى يدعم الفكرة التى نادت بها عدة آراء عن ضرورة مواكبة الحلول الفكرية والثقافية للجهود الأمنية فى مواجهة ظاهرة الإرهاب، لا يمكن تصور حدوثه فى إطار تردد مصطلحات «نشاز» مثل (خدش الحياء العام) أو (ازدراء الأديان) أو باقى المحاولات الساذجة للتحكم فى حرية التعبير والرأي، نتيجة إقحام النزعة الدينية على الثقافة.. خصوصا حين تصبح «أسطوانة مشروخة» ترتفع بها أصوات شغلها هوس الشهرة حتى عن إدراك مكانة السلطة التشريعية التى تنتسب إليها، والأدهى هو الزخم الإعلامى الذى تحظى به فتاوى «عشاق الشهرة» بين برامج «توك شو» الفضائيات، لمنحهم هالة الاهتمام العام التى يسعون إليها بدلا من اتباع حكمة التجاهل والإهمال.