البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

مقالات مجهولة لمحمد خان

المخرج محمد خان
المخرج محمد خان

تظلم محمد خان إذا اختصرت تجربته ولخصته كمخرج سينمائى، حتى ولو أضفت إليه أوصاف العبقرية والإبداع والنبوغ.. خان أكبر من ذلك وأخطر.. هو إذا شئت الدقة والإنصاف: مفكر كبير موسوعى وصاحب رؤية، وهو ما تجلى فى شريط أفلامه السينمائية الـ24 مخرجا، وقبلها كان كاتبا لسيناريوهات أغلب أفلامه أو على الأقل مشاركا فى أفكارها وخلق شخصياتها.. ثم هناك هذا الجانب الخفى الذى لا يعرفه كثيرون عن موهبة محمد خان المفكر، إذ خاض الرجل تجربة فى الكتابة الصحفية، تاهت أمام وهج أفلامه ولم تنل ما تستحقه من تقدير واهتمام!.
محمد خان صحفيا، تجربة خاطفة فى مشوار شاعر السينما، كنت طرفا فيها من حسن حظى أو على الأقل شاهدا عليها عن قرب!
كان ذلك فى بدايات العام ٢٠٠٤، وكنت وقتها مساعدا لأستاذنا الجليل صلاح عيسى فى تحرير جريدة «القاهرة» التى تصدر عن وزارة الثقافة ومشرفا على صفحات الفنون بها.. وكان خان وقتها قد أنجز فيلمه الجديد «كليفتى»، وكنت أعتبر أن كل فيلم جديد لخان هو حدث سينمائى يستحق اهتمامًا استثنائيا، فاحتفينا بالفيلم وبالتجربة الجديدة لصانعه، وأفردنا له المساحات التى تليق به، وهو ما جعل خان ممتنا للجريدة.. وحدث اتصال بينه وبين الأستاذ صلاح عيسى الذى فوجئت به بعد أيام يزف لنا البشرى: الأستاذ خان سيكتب مقالا أسبوعيا!
وواظب خان على كتابة مقاله الذى اختار له عنوانا لافتا: «مخرج على الطريق» فى إشارة إلى اسم فيلمه البديع «طائر على الطريق»، وكان يرسله أحيانا بالفاكس أو يأتى بنفسه إلى مقر الجريدة بالزمالك تسبقه ابتسامته التى لا تغيب وروحه التى تسكب البهجة أينما حلت.. دقائق معدودات ولكنها كانت كفيلة بأن تترك أثرا عميقا فى المكان والوجدان!
كانت لفتة ذكية تدل على حس إنسانى راق أن يبدأ خان مقالاته برسالة شديدة العذوبة إلى صديقه الذى كان وقتها يصارع الوحش الرابض فى جسده، ويتشبث بالحياة، ويقاوم بكل ما أوتى من عزيمة.. كتب خان إلى أحمد زكى بطل أفلامه الأروع «طائر على الطريق، موعد على العشاء، زوجة رجل مهم، أحلام هند وكاميليا، مستر كاراتيه، أيام السادات» كتب إلى النجم الأسمر بكلمات آسرة تمحو كل أثر للخلافات التى كانت قد وقعت بينهما أثناء تصوير فيلم «أيام السادات».. يقول: 
«أنا وأحمد زكى يجمعنا برج واحد «العقرب» فأنا من مواليد ٢٦ أكتوبر وهو من مواليد ١٨ نوفمبر، جمعتنا زمالة وصداقة فنية ناشئة عن إيمان كل منا بموهبة الآخر. وإن كنت قد قلت فى مرة إننى لو كنت ممثلا لأردت أن أكون مثل أحمد زكى، فرد عليّ بأنه لو كان مخرجًا لأراد أن يكون مثلى.. ومثل حال الأصدقاء هناك أيام صفاء وأيام غضب.. اختلفنا فى الأيام الأخيرة من تصوير «أحلام هند وكاميليا» وتحول خلافنا إلى حواديت فى كواليس السينما، إلى أن تصافينا فى حفل زفاف المصور كمال عبد العزيز، واختلفنا مرة أخرى فى بدايات مشروع «أيام السادات»، خمس سنوات قبل تنفيذه، وتصافينا على متن طائرة تقلنا إلى مهرجان باريس، واختلفنا أثناء تصوير الفيلم، وواجهته بمقولة ألفتها أنه «ممثل موهوب ومنتج مرعوب»، رد عليها بأنه سيبحث عن شاعر ليرد بمقولة مقابلة.. كلها خلافات فنية بحتة تزول مع الزمن والظروف، فأحمد زكى طاقة فنية مشحونة بالقلق، متقلبة المزاج يستغلها فى تقمصه للشخصيات التى يؤديها فيبهرنا.. فاجأنى خبر مرض أحمد زكى وأنا فى مطار القاهرة فى طريقى إلى سويسرا، ومع متابعة أخباره صدمت وانتابنى حزن شديد، وتذكرت قصة كنا نمزح كلما ذكرناها، وهى قصة المخرج الفرنسى «فرانسوا تروفو» وخلافاته العديدة مع الممثل «أوسكار فيرنر» أثناء عملهما فى الفيلمين اللذين جمعاهما «جول وجيم - وفهرنهايت ٤٥١»، وأن كليهما من مواليد برج العقرب، وأنه حين مات أحدهما لحق به الآخر بعد ثلاثة أشهر بالضبط.. لذا كانت رسالتى إلى أحمد زكى عقب عودتى هى: لا تموت.. هناك أفلام ربما تجمعنا بعد».
بتلك العذوبة والإنسانية واللغة الصافية والثقافة الموسوعية كتب محمد خان مقالاته، كتب عن نفسه وعن جيله، عن السينما المصرية والسينما العالمية، كتب بشاعرية وكتب بحدة أحيانا كمقاله الأطول الذى رد فيه على هجوم إيناس الدغيدى على تجربة سينما الثمانينيات أو ما عرف بتيار الواقعية الجديدة، وكان خان أحد فرسانه، وكان مقاله «إيناس الدغيدى تهيل التراب بلا سبب على جيل سينمائى رائع» بمثابة قصيدة فى مديح رفاق تجربته وإنصافهم والدفاع عنهم: «وإذا اعتبرنا أن جيلى صنع أفلاما لم تنجح تجاريا فكيف استمررنا من فيلم إلى آخر، وكيف استمررنا نتعامل مع السوق بنجوم مرحلته ومنتجيه؟ وإذا بحثنا عن أفلام هذا الجيل التى اكتسحت السوق بنجاحها التجارى والفنى لوجدنا «سواق الأتوبيس» لعاطف الطيب، و«كابوريا» و«آيس كريم فى جليم» لخيرى بشارة، و«الكيت كات» لداود عبد السيد، و«سيداتى سادتى» لرأفت الميهى، ومعذرة لاضطرارى لذكر بعض من أعمالى: «موعد على العشاء»، «زوجة رجل مهم»، و«أحلام هند وكاميليا».
كتب خان ثلاثة مقالات شديدة الأهمية والعمق والوعى عن صناعة السينما الأمريكية وعن أنياب هوليوود، وكتب عن الديجيتال وبشّر به كسينما للمستقبل، وكتب عن تجربته فى صناعة فوازير «فرح. فرح» التى قامت ببطولتها غادة عبد الرازق، كتب عن تخلف برامج التليفزيون، هاجم رجعية رقابة السينما!
المفارقة أن خان فوجئ بوجود رقابة كذلك فى الصحافة، وإن كانت خفية.. فقد كان يظن أنه لا سقف لحريته فى الكتابة، وصدمه الواقع، وكانت البداية بمقال كتبه ودفع به إلينا لننشره.. كان المقال من عنوانه صادما ويمكن أن يثير علينا المتاعب: «بوسة أمينة رزق»، ويحكى فيه خان عن فيلم مصرى قديم من إنتاج العام ١٩٣٩ اسمه «قلب امرأة» شاهده مصادفة على إحدى الفضائيات العربية واستوقفه مشهد قبلة ملتهبة تجمع بين بطلة الفيلم أمينة رزق وبطله أنور وجدى، ووجدها خان فرصة للهجوم على دعاة السينما النظيفة: «هى أمينة رزق فنانة محترمة من الطراز الأول تعشق وتحترم فنها ودائما فى خدمة الدور الذى تلعبه، ومتطلبات السينما التى انتمت إليها، لم تقم بالنظافة أو أى هراء من هذا المثيل كما يحدث اليوم، فيا مدعو النجومية الموجودون على الساحة اليوم اتعظوا من أمينة رزق إذا كنتم باقين، ولا تخلطوا الأمور بين ما يمثل حياتكم الشخصية وما تمثلونه على الشاشة، فالتمثيل فن نقى وراق أولا وأخيرا، وإذا كانت القبلة فى التمثيل فى مكانها الصحيح محرمة لديكم فلتعتزلوا المهنة بدلا من أن تهينوها، فالمسألة لم تصبح «أبوس أو لا أبوس» قدر ما هو تيار يهدد ويحد من حرية التعبير بوجه عام.. ومن الطريف رفض مطرب صاعد فى ثانى أفلامه أن يقبّل البطلة بحجة أن معجبيه غضبوا منه بسبب أنه قد قبّل البطلة فى فيلمه الأول.. يا للهول.. شكرا أمينة رزق على تلك البوسة فى قلب امرأة منذ أكثر من ستين عاما، فاليوم لها دلالة أكبر مما كنا نتخيل، فالحياة على لسان يوسف وهبى مرة أخرى ليست إلا مسرحا كبيرا».
وأصر خان على نشر مقاله كاملا، وخاض معنا معركة تليفونية انتهت بانتصاره، ونشر مقاله بلا حذف حرف واحد.. لكن الانتصار لم يحالفه فى معركة «شاتو دى ريف» المقال الذى كتبه ليحكى فيه تجربته فى التعرف على النبيذ الفرنسى، وهى تجربة كما قال جاءت متأخرة بعد عمر قضاه فى شرب الخروب!
رفض رئيس التحرير نشر المقال، وكانت له أسبابه الموضوعية والمهنية، واحتفظت بالمقال الممنوع من حينها، فبغض النظر عن موضوعه إلا أنه مكتوب بحس ساخر شديد العذوبة، ويقدم ملمحا مدهشا من شخصية محمد خان! وننشر المقال على هذه الصفحة كاملا.. لأول مرة!
وذات صباح رمضانى (٣٠ أكتوبر ٢٠٠٤) ترك لنا محمد خان مقاله الجديد ومعه هذه الرسالة الموجهة للأستاذ صلاح عيسى: 
«عزيزى صلاح.. مرفق مقالة فى عمودى «مخرج على الطريق»، وبسبب انشغالى بالتحضير لتصوير فيلمى الجديد «بنات وسط البلد»، فكلما وجدت فرصة سأرسل مقالا وأرجو أن ينشر، وشكرا. محمد خان. رمضان كريم».
ولكن «بنات وسط البلد» استغرق محمد خان وأنساه «مخرج على الطريق» فلم يعد لكتابة مقاله الأسبوعى، لتخسر الصحافة كاتبًا موهوبًا وقلما بديعا!
محمد خان صحفيا.. تجربة تستحق التوثيق والاهتمام.. إنها فيلم على الورق لا يقل إبداعا وروعة عن «الحريف» و«ضربة شمس» و«زوجة رجل مهم» و«بنات وسط البلد».. مع السلامة يا أستاذ!