البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

خاتمة حول عهد الراشدين


ونحن نتجاوز عهد الراشدين إلى غيرهم، يجدر بنا أن نستخلص نتيجتين.. النتيجة الأولى:
أن من يتصورون أنه من الممكن إعادة طبع نسخة كربونية من عصر الراشدين في عصرنا الحديث، إنما يركبون شططًا من الأمر، وقد يصلون بأنفسهم وبنا إلى نتائج مؤسفة، فليس كل ما كان مقبولًا في عهد الصحابة يعتبر مقبولًا وصحيحًا في عصر غير العصر، ومع قوم غير القوم، وحتى في أفعال الرسول نفسه، هناك مساحة واسعة لتأسيه بعصره، ومعايشته لتقاليد قومه، كالزى والعلاج، وهى مساحة لسنا مطالبين بالأخذ بها أو اعتبارها سنة واجبة الاتباع والنفاذ، فالرسول لم يأت بزى جديد، وإنما ارتدى زى الجاهلية، وزى الأعاجم عندما أهدى إليه، وعليه فليس الزى النبوى واردًا كسنة للتآسى والمتابعة، وما يقال عن الزى يقال عن الطب، ويقال عن كثير من المفاهيم التي سادت في عصرنا الحديث، وتقبلها الناس قبولًا حسنًا، وهى أقرب ما تكون إلى الروح العامة للإسلام إذا ما فهمناها بمنطق مخالف للمنطق (الكربوني) سالف الذكر، الذي لو اتبعناه لوصل بنا إلى نتائج أقل ما توصف به أنها مؤسفة، بل وربما جاز وصفها بما أكثر.. ولنأخذ مثالًا.. التعذيب.
لن يختلف اثنان على القول بأن التعذيب بالإيذاء البدنى أو النفسى للحصول على اعتراف أو قبل تنفيذ حكم أو خلال تنفيذ حكم أمر ينكره الدين، ويتنافى مع جوهره في العدل والرحمة.
هذا هو التفسير العصرى، أي الذي يأخذ روح العصر فيطابقها على روح الدين وجوهره أو يفعل العكس وهو في الحالتين مقنع ومقبول وصحيح، فماذا عن التفسير الكربوني؟
إليكم واقعتين شهيرتين:
الواقعة الأولى: في حادثة الإفك المعروفة،، حين اتهم البعض عائشة فدعا الرسول عليًا لاستشارته (فقال يا رسول الله إن النساء لكثير وإنك لقادر على أن تستحلف وسل الجارية فإنها تصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم (بريرة) يسألها قالت فقام إليها (على) فضربها ضربًا شديدًا وهو يقول اصدقى رسول الله فتقول والله ما أعلم إلا خيرا..)
هنا إيذاء بدنى من على للجارية بقصد الحصول منها على اعتراف ولم ينكر الرسول شيئًا مما فعله على، والتفسير (الكربوني) هنا يصل بنا إلى أنه من (السنة) أن يعذب المتهم للحصول على اعترافه ويصبح ما يثار حول تعذيب أعضاء الجماعات الإسلامية في السجون أمرًا مشروعًا، وشرعيًا، بل ومحمودًا لأنه تأس بالسلف الصالح.
بينما وجهة النظر المقابلة، المتسعة الأفق الملتصقة بروح العقيدة، تستـنكر التعذيب، وترى أن هذا حتى لو كان أمرًا مقبولًا في عصر الرسول، لا ينسحب على غيره من العصور، وإذا كانت الحضارة قد أضافت فيما أضافت مفهومًا واسعًا لحقوق الإنسان، يرفض فيما يرفض أن يعذب متهم للحصول على اعتراف، فإننا نقبل هذا المفهوم من منطلق إسلامى، ولا نرفضه لمجرد التأسى بعصر أيًا كان هذا العصر، لسببين بسيطين واضحين: أولهما أننا في عصر غير العصر وثانيهما أن الإسلام لا يتنافى مع روح العصر، أي عصر، في كل ما هو إنسانى وسمح وعادل.
الواقعة الثانية:
بعد وفاة الإمام على بن أبى طالب بطعنات من عبدالرحمن بن ملجم (دعا عبدالله بن جعفر بابن ملجم، فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فجعل يقول: «إنك يا ابن جعفر لتكحل عينى بملمول مض «أي بمكحال حار محرق» ثم أمر بلسانه أن يخرج ليقطع، فجزع من ذلك، فقل له ابن جعفر: قطعنا يديك ورجليك، وسملنا عينيك، فلم تجزع، فكيف تجزع من قطع لسانك، قال: إنى ما جزعت من ذلك خوفًا من الموت، لكنى جزعت أن أكون حيًا في الدنيا ساعة لا أذكر الله فيها. ثم قطع لسانه، فمات)، والرواية يذكرها ابن سعد مضيفًا إليها حرقه بعد موته ويذكرها ابن كثير دون ترجيح ويقتصر الطبرى وابن الأثير على الحرق بعد القتل.
والرواية لا تعبر في رأينا عن روح الإسلام أو تعاليمه، حتى لو اقتصرت على حرق الجثمان بعد القصاص فقد نهى الرسول عن المثلة ولو بالكلب العقور، ونهى (على) قبل وفاته في رواية لابن الأثير عن المثلة بقاتله، لكنها تعبر من وجهة نظرنا عن روح عصر، سادته القسوة، وتحجر القلب وكان مقبولًا فيه أن يحدث ما فعله عبدالله بن جعفر بابن ملجم، دون استنكار، بل ويكمل المشاهدون المشهد بحرق الجثمان، بينما أضافت الحضارة إلى سلوكنا كثيرًا من الإحساس بعذاب الآخرين، وصعوبة تقبل التمثيل بهم أو تعذيبهم، بل إنه من الصعب أن نتصور صمود مجموعة من المشاهدين لمثل ما فعله عبدالله بن جعفر، بكلب ضال أو بقط شارد.
النتيجة الثانية:
إن قواعد الدين ثابتة، وظروف الحياة متغيرة، وفى المقابلة بين الثابت والمتغير، لا بد وأن يحدث جزء من المخالفة، ونقصد بالمخالفة أن يتغير الثابت أو يثبت المتغير، ولأن تثبيت واقع الحياة المتغير مستحيل، فقد كان الأمر ينتهى دائما بتغير الثوابت الدينية، وقد حدث هذا دائمًا ومنذ بدء الخلافة الراشدة وحتى انتهت، وتغيير الثوابت هو ما نسميه بالاجتهاد، وقد اتفقنا على أنه ليس مطلقًا، لكنه قائم ومتاح، وما أوردناه من أمثلة لاجتهادات عمر يصلح دليلًا على ما نقول، غير أنه في بعض الأحيان تفرض تعقيدات الحياة نوعًا من المخالفات، الحادة ليس فيه شىء من تناغم الاجتهاد في ربطه بين الأسباب والنتائج، فتصبح المخالفة صريحة وواضحة لا يمكن تبريرها بالاجتهاد لافتقاد أسبابه، وإنما تبرر فقط بأن عدم المخالفة مستحيل أو في أحسن الأحوال غير ممكن، وقد حدث ذلك في عهد الراشدين كما يحدث في كل عهد، ومثاله ما حدث عقب مقتل عمر ابن الخطاب، حين انطلق ابنه عبيد الله ابن عمر، وقتل ثلاثة ظن فيهم التآمر على مقتل والده، ولم يثبت ذلك في حق أحد منهم، وكان أحدهم الهرمزان، الذي أسلم وصح إسلامه، وقد واجه عثمان هذا الموقف في بدء ولايته وكان رأى الدين فيه واضحًا، أعلنه على وأصر عليه، وهو أن يقتل عبيد الله بدم من قتل، لكن عثمان لم يملك إلا المخالفة لأسباب (إنسانية)، فقد تساءل الناس في شفقة، أيقتل عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم؟ ألا يكفى آل عمر قتل عمر؟، أيفجعون فيه ثم في ولده قبل أن تجف دموعهم عليه؟.. منطق.. وإنسانية.. وظروف متغيرة.. لكن حكم الدين ثابت وواضح ولا لبس فيه.. حكم الدين هو القصاص، ولا بد من قتل عبيد الله.
ويقال إن عمرو بن العاص أفتى بفتوى بالغة الذكاء والمهارة عندما تولى عثمان، وسأل عمرو أن يخرجه من المأزق الصعب، فسأله عمرو: هل قتل الهرمزان في ولاية عمر؟ فأجابه عثمان: لا كان عمر قد قتل، فسأله ثانية: وهل قتل في ولايتك؟ فأجابه عثمان: لا، لم أكن قد توليت بعد، فقال عمرو: إذن يتولاه الله.
والشاهد هنا أن عثمان حاول التخلص من المأزق بدفع دية الهرمزان من ماله، ولم يتحمل عبيد الله وزر القتل أو حتى دية القتل، وهو ما رفضه على، الذي ظل يتوعد عبيد الله كلما لقيه بأنه إذا تولى فسوف يقتله بدم الهرمزان، وما أن تولى على حتى هرب عبيد الله إلى جيش معاوية، وحارب عليا إلى أن قتل في معركة صفين.
ويشاء القدر أن يقع على نفس المأزق، بل ربما بصورة أعقد، فقد ولى ولم يقدر على قتله عثمان لأنهم كانوا مسيطرين على المدينة، ثم انتقل من حرب إلى حرب وهم على رأس جيشه فلم يتمكن منهم، وعندما أعلن معاوية أن مطلبه الوحيد أن يدفع علىّ إليه قتلة عثمان، فوجئ على بجيشه يهتف في صوت واحد، كلنا قتلة عثمان، فزاد الموقف تعقيدا، وأصبح مستحيلًا على الإمام على أن يثأر من القتلة أو حتى يحاسبهم.
تعيد «البوابة» نشر مقالات للمفكر الراحل فرج فودة علها تكون نفعًا لنا في مثل هذه الأيام.