البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

سيدة المنيا تفضح كبرياءنا المزعوم


جردوا سيدة المنيا من ملابسها، فسقط كبرياؤنا الزائف تحت أقدامها، ارتدت هى ثياب العفة والكرامة وصار المجتمع كله عاريا، لا شىء يستر عورته، أو يمحو من ذاكرته قبح صنيع فئة منه، صرخت خالتى «سعاد» أثناء تجريدها من ثيابها على أيدى مجموعة من الجبناء وفاقدى النخوة، لا للاستغاثة بنا، لكنها صرخت رثاء لشرفنا المزعوم فهى تعلم أننا جميعا أموات، لن نسمعها، فصراخها بمثابة رسالة لكل من يعى ويدرك معنى صراخ وأنين إحدى أمهاتنا، كانت وما زالت وستظل أكبر شأنا ومقاما وشرفا، من الحمقى الذين أسقطوا تاج الرجولة والمروءة فى مستنقع التطرف والتخلف والجهل والطائفية. 
ما جرى فى المنيا، أضاع مجانا أى فرصة للتعلق بأمل هدفه تنقية العقول من الشوائب الناتجة عن الفساد السياسي، الفساد السياسى وحده الذى هيأ المناخ أمام فئة مارقة من المجتمع، كى تعبث بعقول الصبية والشباب لتقسيم المجتمع على أساس طائفى بغيض، فالواقعة المشينة لمن ارتكبوها أو حاولوا «الطرمخة» عليها، فتحت الباب أمام تنامى القلق على المستقبل، عبر التشكيك فى وجود نية وإرادة جادة، لفرض هيبة الدولة، خاصة إذا علمنا أن الحكومة التزمت الصمت، تجاه فضيحة تعرية سيدة المنيا ولم تتحرك بفاعلية إلا بعد إعلان مؤسسة الرئاسة عن غضبها، أنا هنا لا أتحدث عن سيدة مسيحية، لكننى أتحدث عن امرأة مصرية، هى أمى وأختى وابنتى، خالتى وعمتى، هى مصرية، أيا كانت ديانتها، وأيا كانت مكانتها الأدبية والاجتماعية فى محيطها أو على المستوى العام، إن تسعين مليون قبلة على جبينها لا تفى حقها علينا جميعا، شعبا وحكومة بل الدولة بكل مؤسساتها. إن التمرغ فى التراب الذى تدوس عليه تحت حذائها، لايكفى، كما أن كل مفردات تطييب الخواطر جريمة فى حقها وفى حق هذا البلد، القضية أكبر من حصرها فى مساحة ضيقة، فهى تمتد إلى حال وطن نخشى عليه من البقاء فى العفن المشحون بميراث الحقد والكراهية تحت دعاوى واهية ونخشى عليه من الهدم بتغييب القانون وعدم إنفاذه جبرا على الجميع. 
تضاربت الروايات حول الواقعة، منها ما يرمى لتكذيب ما جرى، والقول بأن الأمر لم يصل حد تجريدها من ملابسها وسحلها فى طرقات القرية، بما يعنى أنها فقط تعرضت للضرب وتمزيق ملابسها على أيدى مجموعة من الشباب، فات صاحب تلك الرواية أن ما قاله يمثل جريمة أكبر، فهل من النخوة والرجولة أن يقوم مجموعة من الشباب فى مجتمع ريفى، من المفروض أنه يمتلك مخزونا من الشهامة والنخوة، الاعتداء على امرأة مسنة أيا كانت الدوافع وأيا كان حجم الغضب. إن محاولة التنصل من الجريمة، جريمة أكبر.
أما نحن وبعيدا عن الروايات المتضاربة، فرحنا نتداول صورتها على مواقع التواصل الاجتماعى، مصحوبة بالعويل كالنساء اللاتى فقدن القدرة على هزيمة العجز، ظننا أن ما نفعله تعبير عن التضامن معها، بدأنا كيل الاتهامات لمرتكبى الجريمة الخسيسة، دون إدراك من جانبنا، أننا نتباهى بعجزنا الأبدى، استحضرنا من مفردات اللغة ما تصورناه يشفى غليلنا، توهمنا أن ما جرى فى إحدى قرى المنيا، هز ضمائرنا، عزفنا على تلك النغمة الواهية فى الصحف ووسائل الإعلام، رغم اليقين الراسخ بداخلنا، إن ضمائرنا لم تهتز، ولن تهتز أبدا، لأنها ببساطة ماتت ودفنت فى مقابر الصدقة المجانية، هى رحلت إلى غير رجعة وقت أن تخلت الدولة عن دورها ومنحت القانون إجازة إجبارية، واختارت بدلا منه تحت لافتة، المواءمات، أساليب الطبطبة وولائم المصالحات وتبادل القبلات الباهتة الخادعة فى سرادقات الصلح، التى يحضرها الشيوخ والقساوسة ورجال السلطة.
الالتفاف على القانون باستخدام هذه الأساليب كاف لترسيخ الطائفية، والتأكيد عليها، باعتبار أن التعامل مع المواطنين على أساس خانة الديانة فى البطاقة الشخصية إحدى الوسائل التقليدية خشية تفجر الأوضاع، إن مثل هذه القضايا لا تحتاج إلى تدخل أجهزة سيادية، ولا تحتاج إلى استئذان منها فى التعامل لترسيخ دولة القانون. 
فالتفاصيل المحيطة بالجريمة، تشير إلى أن سيدة المنيا ليست طرفا فى لعبة السياسة، ولم تكن يوما جزءا فى معادلة الصراع الطائفى المصطنع بفعل فاعل والدفين فى النفوس المريضة والعقول الشائهة المتربصة بالوطن على اتساع خريطته، لكنها كانت ضحية شائعة لا أحد يستطيع الإقرار بصحتها أو عدم صحتها، فهى تظل مجرد شائعة، وما أكثر الشائعات التى فجرت المجتمعات الريفية، يطلقها فريق من الجهلة، ويستخدمها نفس الفريق لإشعال الفتنة، مفاد الشائعة، أن ابن السيدة لديه علاقة مشينة مع سيدة مسلمة، هكذا قال عمدة القرية بحسب اللقاءات الصحفية إلى أجريت معه، فضلا عن أن المعلومات تشير إلى أن أسرة زوجها هى التى روجت الشائعة المتداولة الآن، على إثر ذلك خرج موروث القبح من النفوس المريضة، فقام عدد من الشباب بإحراق المنازل وتجريد أم الشاب من ملابسها وسحلها فى مشهد همجى يعبر عن حقارة وانحطاط فاعليه والمحرضين عليه.
الغريب فى الأمر أن هناك من نحى القانون جانبا وأراد تسوية الأمر على أساس طائفى كما جرت العادة، التى ترسخت بفعل التدخل الأمنى بطريقة ودية، فى هذا السياق المشحون بالعبث، لا أعرف بالضبط، إلى أين نحن سائرون، ولا أعرف، عما إذا كانت هناك نية حقيقية لإرساء دولة القانون وتطبيقه على الجميع دون استثناء، أم أن الحديث عن دولة القانون برمته، مجرد بورباجندا لإلهاء الرأى العام، بتصريحات تبعث على القلق أكثر من التحفيز على استدعاء الأمل. إن ما جرى فى قرية الكرم بمحافظة المنيا قبل أيام، لم يكن حدثا عاديا يمكن أن يلفت أنظارنا لبعض الوقت وسرعان ما ننصرف إلى حال سبيلنا، نلقيه خلف ظهورنا، وكأن شيئا لم يحدث، أو أنها مجرد واقعة عادية تصب فى خانة الانتقام الشخصى بين أفراد عاديين، كما أراد البعض أن يصورها، وكما حاولت النخبة السياسية أن ترسخ لهذا المفهوم فى إطار محاولات التهدئة بين طرفى الأزمة، الجريمة تركت فى نفوس من لديهم نخوة، جرحا لن يندمل بسهولة، جرحا يجعلنا نترحم على ميراث الشهامة والكرامة التى اعتدنا التغنى بأمجادها واعتبارها تاجا على رؤوسنا، الآن سقط التاج الذى كنا نتباهى به، وسقط معه كبرياؤنا المزعوم.
ما يؤخذ على الحكومة فى هذه القضية، أنها اختارت الجلوس طوعا فوق مقاعد المتفرجين، رغم أنها ترى بعينها رقعة الفوضى تتسع بصورة مزعجة، دون تدخل إيجابى يحفظ لها هيبة سلطتها المستمدة من هيبة الدولة، وهيبة الدولة لا تترسخ بالمواءمات، إنما بتطبيق القانون.